الحراك الديموقراطي أبقى من العنف العاري والتحريمي

ربما ظنّ بعض من أهل القلم ان ثمة ما يتيح توْنَسة الحراك العربي بعد الرابع عشر من كانون الثاني، او تمصيره بعد الحادي عشر من شباط… وربما اعتقد بعضٌ آخر ان كل انتفاضة عربية سوف تصل الى مآلها النهائي في فترة زمنية وجيزة. بيد ان ملموس الحراك التغييري لم يحمل توْنسةً او تمصيراً، ولم يقدّم مدى زمنياً محدداً، بل انتج مساراً تغييرياً معقداً ومديداً. وهو ككل مسار لا ينتظم وفاق نموذج او شكل تاريخي واحدي أيا تكن جاذبيته، ولا يتحدد وفاق روزنامة مُعدة مسبقاً. اذ ان زمنه يتقرر في كنف مجراه بالذات.

لكن الحديث عن نماذج التغيير او اشكاله يتعلق بصورة او باخرى بتحديد منطق العلاقة التي أقامها الاستبداد العربي في اشكاله المتعددة مع الحراك التغييري في كل بلد عربي على حدة.
ان الشكل الجمهوري للاستبداد تعامل مع الانتفاضة، او للدقة مع حركة التغيير، بمنطق عنفي (أمني)، تبدى حتى الآن في ثلاثة مظاهر: العنف المحسوب الذي ينضبط في ممارسته القمعية جراء معادلات النظام وتوازن القوة بين المجتمع والسلطة (حالتا مصر وتونس). والعنف العاري اي العنف الذي يتفلّت من اي ضابط او معيار حدّي في ظل فقدان التوازن بين السلطة والمجتمع، وينـزع نحو الضرب في بنية المجتمع من غير ميزان منطقي او عقلاني (حالة ليبيا). والعنف المتنامي او المتدرج، وهو عنف متمرحل يبدأ منضبطاً بفعل توازنات محددة، وقد يتنامى ويكسر ضوابطه ازاء تصاعد الحراك الديموقراطي (كحالتي اليمن وسوريا).

والشكل السلالي أو الملكي للاستبداد واجه الحراك بغير منطق في السياسة وفي العنف. وقد تمثل في: استيعاب الحراك من خلال اصلاحات دستورية لا تغيّر في بنية النظام الملكي، (حالة المغرب). وفي العنف المحسوب وفاق ضوابط معلومة لأن الحراك
يقتصر على مطالب تعديلية لا تمس جوهر النظام القائم (حالة الأردن). والعنف المتدرج وهو ذاك القمع الذي يبدأ في نطاق منضبط ثم لا يلبث ان يتوسع ويتنامى بعد ان يستنجد بانظمة مجاورة (حالة البحرين). واخيراً العنف التحريمي وهو العنف الذي استند الى فتوى شرعية حرّمت الحراك الديمقراطي (التظاهر)، ونفت كل تغيير يتأتى من طريقه. ثم حصرته في باب المناصحة بين الحاكم والرعية من دون ان تحتسب ان مضمونها يرى الى المجتمع بأنه مجتمع الصمت المقعّر!….
وإزاء هذه المظاهر العنفية انتظم مسار الحراك الشعبي في غير نموذج او شكل تاريخي للتغيير: التغيير البنيوي، وهو شكل ينشد تغيير النظام الاستبدادي بآخر مدني وديموقراطي. لكن هذا الشكل قد يصطدم بعقبات تقوده الى المراوحة او التراجع او الانتكاسة، ما يفرض على الكتلة المدنية ان تبقى متيقظة وان تعتبر ان التغيير عملية صراعية ليست فقط مع راس النظام او مع رموزه، بل ايضاً مع بعض الأطراف التي تنضوي في حركة التغيير وتجيد فن اقتناص الفرص لحساباتها الفئوية. والاصلاح الدستوري وهو شكل يتوخى قدْراً من التعديل في النظام من دون ان يطال جوهر بنيته، اي ان التعديل يتوسل خفض الاستبداد السلطوي الذي يتوقف حجمه نقصاناً او زيادة على وتيرة الحراك وقوة المجتمع المدني او ضعفه . والشكل الثالث هو التغيير «النصحي». وهذا شكل جديد تفتقت به عبقرية الحاكم العربي، ويستحق ان يدخل الى قاموس علم الاجتماع السياسي لجدّته وفرادته. وقد جاء في متنه: ان «عقلاء» القوم وهم من أهل السلالة الحاكمة وتابعيها وتابعي التابعين، يتناصحون في ما بينهم حول الاصلاح والتغيير. ثم يقررون ان افضل سبيل اليهما هو السخاء في الاعطية والتكريم والحسنة. ومع هذا السبيل ينتفي ايّ شكل للتغيير، ويبقى على الحراك الشعبي ان يحرر المجتمع من الاستبداد القروسطي ويقدم نصحه في التغيير بمنطق عقلاني حديث..

يكشف ما تقدّم، ان لكل بلد عربي نموذجه الخاص او شكله التاريخي الخاص في التغيير. وهو شكل يرتبط بقوة الحراك في البلد المعني وبمساحته المجتمعية اي بمدى شموله واتساعه. كما يرتبط بوتيرته وبطبيعة التوازن بينه وبين قوى النظام واطرافه. غير ان اختلاف اشكال التغيير لا يعني انتفاء المشترك بينها. اذ ان هناك نموذجاً مرجعياً لها قوامه: الحرية، الديمقراطية العدالة، الكرامة الدولة المدنية… الخ. وذاك ما تبدى كما تبين في غير شكل وفاق خصائص كل بلد من البلدان العربية على الصعيدين المجتمعي والسياسي..

وفي مقابل هذا النموذج، ثمة نموذج مرجعي للنظام الاستبدادي العربي في علاقته بحركات التغيير، هو العنف السلطوي المنظم. وقد اظهر هذا العنف ان النظام الاستبدادي لا يدفع عنه فقط «شرور التغيير وآثامه» بل يعمل ايضاً على وظيفة أصلية في سياسته، تكمن في استدراج متبوعه، الغرب الكولونياني، طلباً لعونه في تبرير قمعه للحراك الديموقراطي. اما ذريعته في القمع، فإنها جاهزة ومعلّبة وتحيل الى ان بديله سوف يكون الاسلام الاصولي، وانه ما زال وفياً على تكليف الغرب له في محاربة الإرهاب. ولذلك يغدو قمعه مطلوباً من اجل الاستمرار بوظائفه «النبيلة»ّ. لكن حجة النظام الحقيقية تتمثّل في استجداء الشرعية من متبوعه الخارجي بعد ان نزع الحراك الشعبي عنه كل شرعية داخلية…

وسواء كان الأمر ذريعة او حجة، فقد وجد الغرب سانحته المثالية.فأخذ يتكيف مع المسار التغييري ويسعى الى توجيهه او ضبطه، بما يخدم سياسته في الاستتباع ويؤمن مصالحه الاقتصادية. ثم استثمر السانحة وتدخل عسكرياً في ليبيا بعد ان أظهر نظامها الاستبدادي عنفه العاري، وبعد ان حظي تدخله بقرار مؤيد من الجامعة العربية وبموافقة المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا.

وفي هذا المساق من التدخل الخارجي والعنف العاري، اخذت الحالة الليبية تترك تاثيراتها السلبية في المسار التغييري في البلدان العربية كافة. فالصراع الداخلي وتشابكه المعقد مع قوى الخارج قد يدخل ليبيا في حرب اهلية او في حرب استنزاف طويلة، وقد يرسم خريطة تقسيمية غير معلنة او غير رسمية لها، الأمر الذي يتيح للقوى الغربية ان تفرض وصايتها على حركة التغيير الليبية ما لم يُحسن المجلس الوطني الانتقالي حُسن السياسة والتدبير لجبه هذه الاخطار المحتملة على بلاده.. وأمام حالة كهذه تضررت وتيرة الحراك العربي وصورته السلمية؛ ووجدت القوى المحافظة او القوى المضاة للثورة حسب اللغة المتداولة، لحظتها المؤاتية لكي تناهض التغيير بفعالية اكبر وتكبح مساره او تحرفه عن مقاصده او تسعى الى اجهاضه تحت عنوان تسوية او مصالحة بين طرفي الصراع، وكل ذلك يجري بدعم الخارج الغربي من اجل ما يسمى الحفاظ على الأمن والاستقرار في دول «الاقليم المحافظ»ّ. وفي الملوس، ها هو الاستبداد السلطاني في الخليج العربي، يقود الحركة المضاة للثورة سواء بالتدخل العسكري المباشر (التدخل في البحرين)، أم من خلال العنف «التحريمي» او من طريق الدعم السياسي لأنظمة استبدادية معلومة (دعم سلطنة عُمان والمغرب). كذلك، فإن بعض القوى المنضوية في الحراك، أفادت من الحالة المذكورة.فنزعت في الخفاء وأحياناً في العلن الى عقد صفقة مع اطراف وقوى في النظام السابق بغية ان تتفرد بالسلطة، كما هي حال طرف او ربما اكثر من الاسلام السياسي في مصر. ومن ثم لكي تعيق او تمنع المآل الديمقراطي للتغيير من الوصول الى نهايته المنشودة.

هنا، يتبين بوضوح ان مسار التغيير هو عملية معقدة وممتدة، تتداخل فيها العوامل الداخلية والخارجية، وتترافق مع تضحيات كبرى تدفعها كتل التغيير جراء تغول الاستبداد العربي.. ومع ذلك يبقى هذا المسار يعبّر عن مرحلة انتقالية يعيشها العرب من المحيط الى الخليج. والمرحلة الانتقالية كما هو معلوم، هي عبارة عن مخاض عسير تكثر فيه آلام الصراع واشكاله. وفي الوقت نفسه تكبر معه الآمال بولادة جديدة.

ان الحراك الديمقراطي في البدان العربية يظل ابقى من اشكال العنف الاستبدادي لانظمتها بما فيها الشكلين الاقْصَيَيْن العاري والتحريمي. ذلك انه يحيل الى بناء تاريخ عربي جديد. وجديده سوف ينفتح طال الزمن أم قصر، على مشروع نهضوي يتوفر على شروط التقدم والتحديث، وبه يتحول الاستبداد والحكام وسلالاتهم الى هامش صغير مكتوب بالرصاص في الملحق الاخير من كتابه.

السابق
نجاد لبري: التضامن بين إيران ولبنان أحبط كل مؤامرات الأعداء
التالي
وفد برئاسة بري للكويت اليوم لتقديم العزاء بالخرافي