دراسات عن العنف الجندري: المرأة ضحيّة المجتمع

أطلق صندوق الأمم المتحدة للسكان، والهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية بالتعاون مع وزارة الخارجية الإيطالية، أربع دراسات حول العنف المبنيّ على أساس النوع الاجتماعي في لبنان (الجندر)

في الإطار القانوني والتشريعي، كان لا بد من الحديث عن الدستور أولاً. وفي الدراسة الأولى، التي أعدّها صندوق الأمم المتحدة للسكان عن واقع العنف المبني على أساس النوع الاجتماعي في لبنان، اهتمّ الباحثون، منذ نقطة الانطلاق، بالتزام الدولة اللبنانية الصريح بجميع الضوابط والقيم لضمان المساواة بين الرجل والمرأة وعدم التمييز على أساس الجنس، ذلك لأن الدستور اللبناني يكفل المساواة عموماً بين جميع المواطنين (المادة 7)، من دون أن يشير صراحة إلى المساواة بين الرجل والمرأة أو إلى حظر التمييز على أساس الجنس لا في نصوصه ولا القوانين المحلية الأخرى.

من هنا، رأى الباحثون أن الامتثال اللبناني للمعايير الدولية ما زال محدوداً. وهذا بدوره، يحدّ من التقدّم نحو تحقيق المساواة. وفي ما يتعلق بالأحوال الشخصية، القضية التي كانت محور أخذ وردّ كبيرين خلال الفترة الأخيرة، تعاني المرأة اللبنانية تمييزاً مزدوجاً. يختلف القانون المطبّق على كل امرأة وفقاً للطائفة التي تنتمي لها؛ مما كان ولا يزال يمثل مصدر قلق للجنة الدولية للسيداو (اتفاقية مناهضة العنف ضد المرأة)، التي كرّرت ذلك خلال عرض الملاحظات الختامية للتقرير الدوري الثالث اللبناني حول اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وأوصت بأن «تعتمد الدولة العضو، على وجه الاستعجال، قانوناً موحّداً للأحوال الشخصية والامتثال للاتفاقية لجميع النساء في لبنان بغضّ النظر عن ديانتهن». وأبدت الدراسة المزيد من الملاحظات، فعلى الرغم «من مشروع القانون الذي أشعر برفع سن حضانة الأم لأطفالها في المذهب السني والتعديلات الأخيرة لبعض قوانين الأحوال الشخصية للمسيحيين، الأمر الذي يعكس قبول مبدأ الشراكة بين الزوجين، تتميز معظم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في لبنان بالتمييز ضد المرأة».

وللاستشهاد، تحدثت الدراسة عن التنازل عن مسؤولية الأسرة إلى الرجل، وبعض الممارسات المشروعة الواردة في أي نظام أبوي، والتي تعزز المخاطر والأخطار بالنسبة إلى المرأة، مثل العنف المنزلي الذي لا يزال يُقدّم تحت مبدأ «حرمة الأسرة» و«خصوصيتها». إلى ذلك، تقيّد الأحكام التمييزية التي تدير العلاقات داخل الأسرة بدرجة عالية قدرة النساء على ممارسة حقوقهن وحرياتهن الأساسية، فإذا أرادت المرأة أن تتمتّع بهذه الحقوق والحريات، وكذلك حقوقها داخل الأسرة، فلا بدّ من أن تتمتع بالاحترام، خصوصاً أن الدراسات في مختلف بلدان العالم، تتفق على حقيقة أن أكثر مكان تتعرض فيه المرأة للعنف هو البيت الزوجي. في الخلاصة: التمييز ضد المرأة متجذّر في المجال الخاص، ولهذا السبب تؤكد الاتفاقية ضرورة ضمّ جميع أشكال التمييز ضمن أحكامها، و«في أي مجال» بما في ذلك التفريق الشخصي والأسري. أما في قانون العقوبات، فبدا واضحاً أن الأحكام التمييزية ضد المرأة في القانون المذكور ليست فقط تلك التي لا تتوافق مع القانون الدولي الإنساني، بل تمثل أيضاً الدوافع الرئيسية لكثير من أشكال العنف المبنيّ على أساس النوع الاجتماعي. في نهاية المطاف، يؤدّي كل ما سبق إلى نتيجة حاسمة هي أن واقع التشريع اللبناني في مجال العنف ضد المرأة يتميز باختلاف كبير بين ما شدّد عليه الدستور من حيث التزام لبنان بمواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتجسيد هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات من دون استثناء، والأحكام التمييزية في بعض القوانين، خاصة قوانين الأحوال الشخصية وقانون العقوبات والقوانين التي تمنع المرأة من التمتع بحقوقها الإنسانية وحرياتها الأساسية، مما ييسّر ممارسة العنف ضدها. من المهم أيضاً عدم تجاهل الأحكام التمييزية أو الثغر العديدة الواردة في القوانين الأخرى، ومن بينها على سبيل المثال، قانون العمل الذي لا يحظر التحرش الجنسي في مكان العمل لكنه يعطي الموظفين الذكور والإناث الحق في ترك العمل من دون أي إنذار مسبق إذا ارتكب صاحب العمل أو من ينوب عنه عملاً غير لائق تجاه الموظف أو أحد أفراد عائلته/ها. الأمر اللافت للانتباه هو أن مشروع قانون العمل الذي وضعته وزارة العمل، وأحيل إلى رئاسة مجلس الوزراء في نيسان 2010، لم يقترح أي تعديل لأي من الأحكام المذكورة، ممّا يعني أن الحل الوحيد لضحية التحرش الجنسي هو مغادرة مكان العمل بدون أي عواقب على مرتكبيه أو أصحاب العمل. لذلك، من الضروري إيلاء الاهتمام إلى هذه القضية، إذ لا يكفي أن يذكر قانون العقوبات جريمةً ذات طابع جنسي لمنع التحرش الجنسي في مكان العمل أو الحد منه. والشيء نفسه بالنسبة إلى مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري، إذ تناول المشرّع مسألة الاعتداء وغيره من أشكال العنف، لكن الطريقة التي عولجت بها هذه القضايا وقعت في إطار لا يأخذ في الحسبان البعد الخاص لبعض المجالات. ونظراً لهذا الواقع، ولتأكيد ضرورة تطابق القوانين الوطنية مع الأحكام الدستورية والمواثيق والاتفاقيات الدولية التي التزمت الحكومة اللبنانية بها، وصلت الدراسة إلى السؤال الآتي: ماذا عن المراقبة الدستورية للقوانين ومدى أولوية الأحكام الدولية على القوانين الوطنية؟

أما في ما يخص أوجه معالجة الإعلام اللبناني لموضوع العنف المبني على أساس النوع الاجتماعي، فتبيّن أن هناك ضآلة في الحيز المعطى له مكانياً أو زمانيّاً، وإبعاداً له عن الواجهة ودفعاً إلى الخلف، وطغيان الطابع الخبري البسيط عليه، فالأعمال الصحافية المرافقة لهذه الموضوعات كانت بغالبيتها إما أخباراً بسيطة أو تقارير أو تغطيات، فضلاً عن ارتباط التباين على مستوى جندرية إيلاء أمر هذه الموضوعات بالتراتبية الهرمية البطريركية للأجندة الإعلامية. وجاء في الدراسة أن معالجة هذه الموضوعات غالباً ما تعاني نقصاً على مستوى التقيّد بأخلاقيات المهنة وبقوانين الإعلام في ما يخص تسمية الأطراف المعنيّة بحادثة العنف بوضوح. الأهم من هذا، أن هناك إبرازاً أحادياً ونمطياً للعنف الجندري، إلى حد ما، يخال الناظر إليه كأنّه خارج السياق، ولشدّة تكراره على الوتيرة نفسها يعطي انطباعاً كأنّه أمر طبيعي أو جزء من عاديات الحياة اليومية، إضافة إلى انحياز المعالجة إلى الضحية أولاً وفعل العنف ثانياً، بنحو أدّى إلى إهمال الجاني، إن لم نقل إلى تجهيل الفاعل، وأدى إلى تحريك المشاعر أكثر من الأفكار.

وشملت الدراسة الثالثة مراجعة الموارد والمواد التدريبيّة المتعلقة بالعنف على أساس التنوع الاجتماعي، فتبين أن القليل من ضحايا العنف يبلغون عن تجاربهم، ومن المتوقع أن يؤدي تطوير الموارد حول العنف المبني على أساس النوع الاجتماعي على نطاق واسع إلى زيادة الإبلاغ، كذلك يكفل للمرأة الشعور بالأمان ويضمن لها المعرفة للقيام بذلك. حتى الآن، لا دليل وطنياً يجمع ما هو موجود من موارد ومواد للتدريب في مجال العنف المبني على أساس الجندر.

35% من النساء تعرّضن للخطر

خلال مراجعتهم الأبحاث المتعلقة بالعنف المبني على أساس النوع الاجتماعي في لبنان، تبيّن للباحثين في دراسة صندوق الأمم المتحدة للإسكان أن الحكومة ملتزمة اعتماد خطة عمل لاستكمال «مناقشة» مشروع القانون ووضع سياسات لمكافحة الاتجار بالنساء والعمل القسري للأطفال واستغلالهم جنسياً، وأنّ المجتمع المدني ناشط في لبنان. فقد أجرى الباحثون الاجتماعيون دراسات عدّة عن الناجين من العنف وأثر العنف على صحّة الضحيّة ونفسيتها. وقد أجرت معظمها المنظمات النسائية التي استخدمت النتائج لكسب التأييد بشأن إصلاحات اجتماعية وتشريعية، وفي هذا الإطار، بدأت الدراسات حول انتشارالعنف المبني على أساس النوع الاجتماعي في السنوات الأخيرة. هكذا، تكشف الأبحاث التي أجريت منذ عام 2000، على سبيل المثال، أن 35 % من النساء اللواتي يقصدن مرافق الرعاية الصحية الأولية أبلغن أنهن تعرضن للعنف المنزلي، وأن 16% من الأطفال تعرضوا لاعتداء جنسي مرة واحدة في حياتهم. لكن هذه النسب لا تعكس جيداً حجم المشكلة، كما لا يتوافر استقصاء سكاني وطني حول مدى انتشار العنف.

السابق
التسوّق طريق إلى المتعة… والديون
التالي
نعم، لا بد من حل سياسي!