بكركي الثلاثاء: المصافحة الأولى والمبادرات الثلاث

في الوقت المناسب، جاءت الدينامية الجديدة لبكركي في عهدها الجديد، مع أن البعض يظن أن التطورات المتلاحقة، أكانت تلك الزلازلية في المحيط اللبناني، أم الأزماتية في داخله، تلقي بظلال من التهميش أو عدم الاهتمام بما يقوم به البطريرك الراعي، فيما التدقيق أكثر في الوضع اللبناني برمّته يدفع إلى الجزم بأن تلك التطورات المقلقة بالذات، هي نفسها ما يجعل دينامية الصرح الآن أكثر ضرورة وأهمية.

في أقل من عشرين يوماً تلت تنصيبه، نجح الراعي في إطلاق ثلاث مبادرات: إعادة الاتصال بين بكركي وحزب الله، عبر إعادة إحياء لجنة الحوار والتواصل بين الطرفين. تحديد موعد للقمة الروحية في بكركي في 12 أيار المقبل، وعقد لقاء «القمة» المارونية في بكركي هذا الثلاثاء، في 19 نيسان الجاري.

في المسار الأول، يبدو الأفق متواضعاً، رغم أهمية الخطوة. ذلك أن القطيعة بين الصرح الماروني وشبه جماعة لبنانية أساسية، مثّلت حالة غير مسبوقة في تاريخ بكركي، من دون أن يعني ذلك تحميلاً للمسؤولية لأي طرف، علماً بأن البداية الرسمية لهذا الوضع بدأت مع البيان الشهير للكاردينال صفير عشية الاستحقاق النيابي في 7 حزيران 2009، حين غمز من قناة حزب الله، معتبراً أن أي انتصار انتخابي له قد يهدّد لبنان، لا في هويته وحسب، بل في انتمائه العربي أيضاً. وتدحرجت العلاقة مذّاك باطّراد عند كل مفترق ومنعطف. اليوم، يحرص الطرفان على إعادة وصل ما انقطع، لكن من دون أوهام. ذلك أن الجهتين تدركان صعوبة التوافق على بعض المسائل العالقة بينهما، وخصوصاً في موضوعي السلاح والعدالة الدولية. وهذا ما أظهرته عمليات جسّ النبض الأوّلية بينهما. لكن ذلك لم يغيّر من إرادة الطرفين في العودة إلى الحوار.

بعض هذا التوصيف لواقع الحال كان قد أرخى بظلاله على مسار المبادرة الثانية التي أطلقها البطريرك، أي فكرة القمة الروحية. فالمعنيون بها كانوا مهجوسين منذ اللحظة الأولى لطرحها بالخوف من انعقادها وانتهائها من دون الخروج بأي إنجاز أو حتى فكرة جديدة. فقيل إن الانتظار والتريّث، رغم الأوضاع المتوتّرة مذهبياً في البلاد، يظلان أفضل من إعطاء أوهام للناس، أو خيبات أمل جديدة، وخصوصاً أن إشكاليّتي العلاقة مع حزب الله، أي السلاح والمحكمة الدولية، لا بد أن يحضرا بقوة أكبر في القمة الروحية، وفي سياق أكثر نزاعية أو حتى صدامية، في ظل الأجواء السنيّة ـــــ الشيعية القائمة، والاصطفاف الكامل للروحي خلف السياسي لدى كل منهما. غير أن البحث في شتى جوانب الفكرة، لم يلبث أن وجد بعض الاجتهادات الممكنة لإخراج مشروع القمة الروحية. فصار تبادل لأفكار من نوع أن يكون جدول الأعمال عمومياً، غامضاً. هذا من جهة، على أن يُجسّ النبض من جهة أخرى بشأن البحث في أفكار من نوع تحييد لبنان عن صراع المحاور الخارجية، وتجديد التعهد بعدم اللجوء إلى العنف أو القوة في قضايا الشأن العام، وصولاً حتى إلى التفكير في خروج القمة بطروحات معينة تلاقي حراك الشباب اللبناني في موضوع النظام الطائفي، ولو من باب الأفكار العامة، وخصوصاً أن المجمع الماروني الأخير كرّس مقولة الدعوة إلى «الدولة المدنية»، من ضمن ميثاق العيش الواحد.

تبقى «القمة المارونية» هذا الثلاثاء، وهي الحدث الأكثر إثارة. ففي الشكل، ستشهد أول مصافحة بين سليمان فرنجية وسمير جعجع. أما في المضمون، فحدود اللقاء واضحة. ذلك أن عملية الإعداد لهذا الاجتماع جرت في لقاءات منفصلة وثنائية شهدها الصرح، بعيداً عن الإعلام وحتى العيون. كانت ثمة فكرتان: اجتماع موسّع يحضره موارنة طاولة الحوار وآخرون، أو لقاء رباعيّ. لم تحظ الصيغة الأولى بالإجماع، فيما لم يعترض الأقطاب على الثانية. فأُقرّت. بقي جدول الأعمال، وهو دقيق وحساس. غير أن حكمة المعنيين لم تلبث أن أخرجته من أيّ تجاذب، بحيث يكون نوعاً من دورة كاملة على المشاركين، كلّ يتقدم بمداخلته، على أن تكون متمحورة حول قراءته للوضع الراهن، وللأخطار والتحديات والمعالجات، على المستويين المسيحي واللبناني، وذلك بمعزل عن رأي المشاركين الآخرين، ومن دون الدخول في أيّ ردود، تجنّباً لأيّ سجال. بعدها تترك كل الأفكار للبطريرك، ليقرّر الخطوة التالية.

مهما تكن النتيجة، فإنها مهمةٌ ومفصلية جداً دينامية الراعي هذه، وخصوصاً في توقيتها الذي يقتضي دوراً مسيحياً، لاحيادياً حيال أي صراع مذهبي في البلاد، بل مانعاً له وحائلاً دونه. وهو ما يعيد إلى المسيحيين بعضاً من علة وجودهم، ويقدم للوطن شيئاً من أصالة كيانه، تماماً كما طلب عون من جعجع في زيارة الأخير اليتيمة للرابية، في 24 تشرين الثاني 2005. بعد ستة أعوام، لا ضير من إعادة المحاولة، لا بل ثمة ضرورة لها.

السابق
تناقض بين معجزتين
التالي
خريطة المعارضة البرلمانية جاهزة