هَاو إِلنا يا جنوب

قيل سابقا إنّ إثارة ملف التعدي على الأملاك العامة أو على القانون في الجنوب او "الضاحية" "يستهدف المقاومة وأشرف الناس لمحاولة الإقتصاص منهما بضرب الطائفة الشيعية".

لكن أمس خرج الرئيس نبيه بري ليلقي اللوم على السلطات الامنية لـ"عدم قيامها بالاجراءات المطلوبة لمنع التعديات وعمليات البناء على الاملاك العامة في الجنوب"، رغم الاتصالات التي قال إنّه اجراها في هذا الصدد.

يأتي هذا الموقف غير المفهوم في ظل فلتان عشوائي تشهده بعض البلدات الجنوبية في البناء على الأملاك العامة ومشاعات القرى، إذ لم تتمكن القوى الأمنية من ردع المعتدين وان حاولت فانه يتم التعامل معها بخشونة من قبل المواطنين، كما حصل في طيردبا وطير فلسيه ويارين وكوثرية السياد، حيث عمد عدد من المواطنين الى طرد الدوريات ومنعوا عناصرها من تسجيل محاضر ضبط بحقّ المخالفين.

هذا الانفلات بدأت مقدماته في مشاعات بلدة البيسارية من قبل بعض مهجري بلدة يارين الحدودية السنية، وبغطاء سياسي من قبل النائب بهية الحريري، وبموافقة بري، وتوج ذلك المصالحة بينهما بعد قطيعة دامت اكثر من عام. وفورا تبع "المصالحة" انفلات غير مسبوق في قرى الزهراني وقرى ضمن قضاءي صور والنبطية (الشيعية). فقد قدّرت مصادر أمنية بناء اكثر من ألفي وحدة سكنية في الشهر الأخير، بشكل مخالف.

هذه الاستهانة بالاملاك العامة وتحويلها الى ملك خاص ليسا ظاهرة جديدة، ولم تبدأ قبل شهر، بل هي بدأت منذ تحرير الجنوب في العام 2000. يومها كانت حجة الذين "كسروا" المشاعات أنّهم ساهموا في تحرير الجنوب ولا يملكون أراض ليبنوا بيوتا لهم عليها، بعدما رووها من دمائهم. وكان هؤلاء يحظون بدعم حزبي وسياسي و"مقاوم". وتطورت هذه الأفعال غير القانونية إلى عملية نهب منظمة تمت خلال مسح الاراضي في قضاءي بنت جبيل ومرجعيون.

وربما لا يوجد بلدة خضعت اراضيها لهذا المسح، المستمر منذ 3 سنوات، الا وشهدت قيام بعض المتنفذين بمصادرة مشاعات واملاك عامة لحساب شخصي او لصالح جهات معنوية غير رسمية. هم الذين يحظون بغطاء مباشر اوغير مباشر من طرفي الثنائية الشيعية، وبشكل هادىء ومنظم ومنسق مع عناصر امنية.

هذا التعدي على الاملاك العامة هو على الأرجح رشوة سياسية سعيا إلى محاولة تنشيط الاستقطاب السياسي وترميمه لدى البعض. وهي ببساطة رشوة سياسية من جيب الدولة إلى "مفاتيح" انتخابية.

التعدّي يمتدّ إلى مناطق الأوزاعي وحرش القتيل والرمل العالي في الضاحية الجنوبية. وهي مناطق بات الجزء الأكبر منها مملوكا من جهات حزبية او متنفذة، بعدما اشترت مئات المنازل التي بنيت خلال الحرب على املاك عامة وخاصة، وعمدت الى تأجيرها لعمال سوريين وعائلات لبنانية وغير لبنانية.

اليوم تعمد هذه الجهات، وغيرها من افراد، الى بناء طبقات جديدة، وغالبا لاستثمارها تجاريا بانتظار مشروع "أليسار" الشهير، وكلّ يغري النفس باستعادة تجربة التعويضات الشهيرة في "وادي ابو جميل"، وادي الذهب في تسعينات القرن الماضي.

أحد العناصر الامنية، ممن كانوا موكلين قمع المخالفات في الضاحية أفصح أنّ "بعض الضباط والرتباء هم طرف في ما يجري، يقفون إلى جانب القوى السياسية المسيطرة، وتسعيرة السماح ببناء سقف مخالف هي 3 آلاف دولار".

وفي الاعراف اللبنانية لا يعين ضابط امني او عسكري في منطقة من دون موافقة الجهة السياسية الفاعلة فيها، فيصعب التمييز بين حاميها وحراميها وبين اشرف الناس وارذلهم.
والرئيس برّي، في تصريحه الشاجب او الشاحب اليوم، بدا "قذّافيا"، إذ هاجم نفسه، كما نزل القذافي الى الشارع ليتظاهر ضد نفسه مطلع ثورة الليبيين عليه. فهو يتذكر جيدا أنّه استقبل المئات والآلاف من أبناء القرى الجنوبية، الذي حجّوا إليه جماعات ووحدانا، طالبين منه منع "سرقة" أراضي المشاعات، طول السنوات العشر الماضية، وكان دائما يعد بالتحرّك ويقول إنّه لا يرضى
بهذا وذاك.

لكنّ العارف بأمور الجنوب يدرك جيدا أنّه لا يمكن أن تمرّ "مجزرة" تاريخية بحقّ أملاك الجنوب وأحفاده المنتظرين، من دون "يد" للزعيم الجنوبي فيها. مجزرة جعلت بعض القرى عاجزة عن بناء مستوصف لأنّ أملاكها المشتركة "سرقت" كلّها.

إنّه تحالف الفساد والسلطة مع المتطفّلين على فكرة "المقاومة" إلى جانب السارقين والجشعين والمتنفذّين وأصحاب الملايين، ضدّ مستقبل الجنوب وأبنائه. بل إنّه "تبذير" للأرض التي حرّرت بدماء الجميع، واستولت عليها قلّة تبيعها بقروش من الفضّة، ما يرقى الى مستوى الخيانة والعمالة و"بيع العرض"، الذي هو الأرض.

هكذا تضيّع "سلطة" الجنوب، منذ 10 سنوات، ما تعب الجنوبيون 50 عاما في تحريره. وهكذا تنتهي الأفكار الكبيرة حين تتزوج الفساد: سماسرة خيانة مشروعة.

السابق
جنبلاط وكونيللي عادا الى بيروت وحماده وبيتون وكمال والعطية غادروها
التالي
الراي: عربة تشكيل الحكومة في لبنان وضعت خلف الحصان… المثقل بالمصاعب