تأملات في الزمن الثوري العربي

لم تكن قضايا التغيير والاصلاح مطروحة على جدول اعمال معظم الحركات السياسية العربية المنظمة (سواء مرخصة او محظورة) قبل ثورتي الشعبين العربيين في مصر وتونس، خارج نطاق اسوار الانظمة العربية القائمة. وهي التي اتقنت المرواحة في موقع الاعتراض او التنديد او المطالبة بتعديل بعض التوجهات الداخلية والخارجية والاجراءات المتبعة من الانظمة.

كما لم يكن يخطر بذهن قادة هذه الحركات، او المثقفين الذين يدورون في فلكها او حتى المستقلين عنها، ان الاوضاع باتت ناضجة لاحداث التغيير الجذري والدعوة او السعي اليه.

ان غفلة القيادات الحزبية ومثقفيها ليست محصورة بالعجز والمراوحة في المكان، والتخاذل والرضوخ للتعايش مع انظمة مستبدة فاسدة وتابعة، بل تجاوزتها كلها احيانا للجلوس في احضان الانظمة، وتقبل غالبا بموقع الديكور التجميلي لمفاسد ومساويء الانظمة مقابل رشوة الترخيص بالعمل او الانخراط المحدود في مؤسساتها.

افكار مسبقة وافتراضات تستحق المساءلة:

باستطاعتنا القول ان هناك دليلا افتراضيا كان يتبعه معظم المعنيين بشؤون التغيير والثورة والاصلاح في الوطن العربي، يستندون اليه بصورة مضمرة يرشد تفكيرهم وممارساتهم. ويمكن الاشارة الى ابرز بنود هذا الدليل غير المكتوب على النحو التالي:
1) الزعم انه لا بد من توفر قائد ملهم لأي ثورة، يتمتع بمواصفات شخصية جذابة (كاريزما) يكون لها مفعول السحر على الجماهير لتحريكها.
2) الزعم بضرورة وجود حزب سياسي منظم يتولى لعب دور الطليعة الثورية المنظمة، القادرة على تفعيل دورها وجذب عضوية لها في كافة القطاعات الانتاجية والمهنية، يؤدي الى تأثيرها في النقابات والاتحادات والهيئات القائمة او التي يتم السعي لتشكيلها.
3) الاحساس بأن آلية وآفاق التغيير مسدودة وقد تتوفر فقط حين اقدام طليعة عسكرية سرية داخل القوات المسلحة، تعمل للتحضير لانقلاب عسكري على النظام وتكون قادرة على تجاوز المغريات التي يعرضها النظام لضمان ولائها له او تتفلت من الرقابة الصارمة للاجهزة الامنية.
4) القناعة بأن لم يعد بالامكان تحدي الانظمة الاستبدادية بهدف اسقاطها لانها تفننت في توفير الحماية لنفسها من خلال اطواق الاجهزة الأمنية التي انشأتها: الحرس الجمهوري / الملكي / الاميري، اضافة الى اجهزة الشرطة والأمن المركزي والمباحث والبوليس السري والقوات الخاصة مضافة الى القوات المسلحة النظامية . يشكل هذا التورّم المفرط للاجهزة الأمنية مقرونا باجراءات قوانين الطواريء في معظم الدول العربية، وممارسة اقصى درجات القمع والعنف ضد معارضي النظام، ادى الى سيادة منطق الخوف والجزع والتخاذل والرضوخ للأمر الواقع ، وكأن التغيير اضحى من المستحيلات امام القوى التي يمكن ان تنشده.
5) الجلوس على مقاعد الانتظار حتى "يسقط من السماء" مشروع نهضوي عربي جديد، او تتمكن كل أو أحد التيارات الفكرية والسياسية العربية من صياغته، فبدون هذا الدليل لن تهتدي قوى التغيير الى برنامج يرشد نضالها.
6) الارتهان من موقع العجز وفقدان المبادرة والشجاعة من قبل العديد من قوى التغيير المفترضة، ومراوحتها في موقع المناشدة والمطالبة للأنظمة بهدف الضغط عليها لادخال بعض الاصلاحات وحتى الشكلية منها المجسدة بمقولة "ضرورة ان تتصالح الأنظمة مع شعوبها."
7) الخشية والرعب من طروحات التغيير مرده ان مخاطر الانقسامات العرقية والطائفية والمذهبية وحتى القبلية في العديد من الاقطار العربية تفرض الحذر والحساسية، والخوف من ان يتم الانسياق وراء رغبات ومخططات خارجية (صهيونية واميركية) لاحداث المزيد من التفتيت والتشرذم والتجزئة داخل البلدان العربية وعلى امتداد الوطن العربي. وهكذا تحولت هذه العقبات الموضوعية التي يمكن تجاوزها الى مبررات تعطيلية تجمد المبادرات الثورية.
8) ساد لدى بعض النخب العربية وخاصة الليبرالية منها منطق "فزاعة" المد الاسلامي الراديكالي "الارهابي،" او لمقولة النقص الديموقراطي Democracy Deficit الذي تم الترويج له من قبل الولايات المتحدة والقوى الغربية كلما تمت الاشارة الى احتمالات وامكانيات التغيير في الوطن العربي. وتكثفت هذه المقولات بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. واشتدت التحذيرات من ان تسفر اي انتخابات حرة ونزيهة عبر عملية ديموقراطية واصلاحية الى سيطرة المتطرفين الاسلاميين على الحكم. يستند هذا المنطق الى خطيئة كبرى مغرضة تهدف الى تكريس عجز الشعوب العربية والاسلامية وكأنها تعاني من خلل جيني (genetic) يمنعها من ممارسة الديموقراطية او أن تسعى لها.
9) اعتبار ان المطالب ذات البعد الاقتصادي والمعيشي هي المحرك شبه الحصري لاي تحرك جماهيري احتجاجي، وخاصة ما يتعلق بالحد الادنى للأجور او غلاء السلع الأساسية، وتفشي البطالة، وكذلك انتشار الفساد على نطاق واسع، ويمكن ان تقترن احيانا ببعض المطالب ذات الصلة بالحريات العامة، والاعتراض على القمع والاضطهاد والاعتقالات التعسفية.
10) يتوجب اعطاء الاهمية والاولوية لتركيز النشاط الاحتجاجي الجماهيري في العاصمة، ولذلك نادرا ما تجري التحركات بالتوازي مع مدن رئيسية اخرى. فالمطلوب، وفق الفهم النخبوي القاصر، احداث الضجة الاعلامية والسياسية تبدو فيها العاصمة المسرح الاساسي للتأثير.

هذه المسلمات / الافتراضات العشرة كانت قائمة حتى انبلاج الثورتين التونسية والمصرية، وما تلاها مؤخرا من انتفاضات وتحركات جماهيرية مستدامة واسعة في العديد من الاقطار العربية الاخرى (خاصة في ليبيا واليمن). بالاقرار بصحة العديد من الجوانب التي تضمنتها هذه المسلمات، الا ان التطورات والوقائع جاءت لتؤكد محدوديتها وقصورها عن الاحاطة بما جرى، لا بل تجاوزتها في حقل الاختبار الميداني بوصفها الشروط الضرورية الوحيدة، او المرتكزات المؤشرة نحو المسار الطبيعي للتغيير في الوطن العربي.

جاءت التطورات الميدانية للثورتين بعمقها وسرعتها لتؤكد ان التغيير الثوري لا ينتظم وفق تقديرات وتصورات تجري في الغرف المغلقة، او يبرر عدم رفع سقف المطالب الشعبية باتجاه السعي للتغيير الثوري الشامل وطرح شعار اسقاط النظام.

أوهام جديدة يتوجب الحذر من تكريسها:

مع انتصار المراحل الاولى والحاسمة من ثورتي الشعبين العربيين، التونسي والمصري، باسقاط رأسي النظام، بن علي ومبارك، شاعت لدى العديد من الاوساط الاعلامية والفكرية والسياسية مقولة تصف الثورتين بانها ثورات "الفيس بوك والتويتر" والانترنيت، او شبكات التواصل الاجتماعي؛ وارجعوا هذه الانتصارات الى الاستخدام المنظم لوسائل التواصل على الشبكة العنكبوتية واجهزة الاتصال الحديثة. كما اطلق البعض ايضا عليها اوصاف ثورات الشباب او الطبقات الوسطى.

بالطبع لا يجوز انكار الدور الطليعي والبارز للشباب وحركة المدونين على الشبكة المعلوماتية في التنظيم وشجاعة الاقدام والمبادرة الى تحدي النظام، ولكن من الخطأ ان نقع في اوهام الاستنتاج انها فعلا ثورات الانترنت. ولو عدنا الى الاحصاءات المتداولة في العامين الاخيرين، 2009 و 2010، حول نسبة مستخدمي الانترنت من السكان في كل من تونس ومصر لوجدناها بمعدل 33% في تونس و 21% في مصر، على وجه التقريب، من مجمل السكان. ولو اخذنا في الاعتبار ان نسبة القادرين على التعامل والاستخدام المتمرس والوافي مع شبكة الانترنت وابعادها المتنوعة، بما هو ابعد من البريد الالكتروني ، فانها لا تتجاوز نصف هذه النسب، لادركنا حجم المغالطة التي نقع فيها بان ننسب هذه الثورات التي اشتركت فيها كل قطاعات المجتمع لا مستخدي الانترنت فقط. لا شك ان الانترنت، كوسيلة تحريض، واستخداماتها المتنوعة ساهمت في التحفيز والتنظيم والدعاية والتواصل وليس بصنع الثورة.

ليست ثورات الفضائيات ايضا:

هناك وهم آخر قد يترسخ في الاذهان مفاده انها ثورات الفضائيات، وخاصة بعد الدور البارز والمتميز للقنوات الفضائية في نقل احداث الثورة وتطوراتها بصورة مباشرة وحيّة، وذهب البعض الى تقدير الدور الخاص الذي لعبته قناة "الجزيرة،" باعتبار الثورتين التونسية والمصرية بانها ثورات صنعتها "الجزيرة،" وبأننا نعيش في "عصر الجزيرة."

بالطبع لا يجوز اغفال اهمية القنوات الفضائية او التقليل من دورها الحيوي في نقل احداث الثورة وتأمين التواصل السريع لمجرياتها مما ساعد في صياغة المزاج الجماهيري الجمعي حولها. ولكن مهما كان تقديرنا لمكانة ودور الاعلام الفضائي والوسائط الاعلامية الاخرى المساندة، يبقى الاعلام الوسيلة التي تعكس الحراك الجماهيري وليس الصانع له.

الصمغ اللاصق للحراك الثوري في تونس ومصر:

يخطيء كثيرا من يروج لفكرة غياب الشعارات الوطنية والقومية عن حراك الثورتين، التونسية والمصرية، لانه سيقع في فخ الفهم الميكانيكي وحتى السطحي لتفسير اسباب الطوفان الجماهيري الذي انساب الى الشوارع والميادين في البلدين بصورة مستدامة وغير مسبوقة. صحيح ان شعارات رئيسية ثلاثة رفعت في مستهل الحراك الشعبي تمحورت حول الخبز والحرية والكرامة الانسانية، قبل ان يتصدرها شعار "الشعب يريد اسقاط النظام." ويكمن الفهم الميكانيكي في محاولة اسقاط تجارب سابقة للحراك الجماهيري العربي الاحتجاجي خلال مراحل العدوان الصهيوني او الاميركي على اجزاء في الوطن العربي، حيث ترفع تلقائيا شعارات مثل "الموت لاسرائيل والموت لاميركا،" على الحراك الثوري التونسي والمصري الاخيرين. وكأن رفع مثل هذه الشعارات وحدها يكفل تأكيد "عدائية" الجماهير للحلف الاميركي – الصهيوني.

لندقق مثلا بشعار الكرامة الانسانية قليلا دون ان ننسى ايضا شعار "الشعب يريد اسقاط النظام." ونحاول قراءة معانيهما في الحالة العربية وخاصة حالتي نظامي الساقطين مبارك وبن علي. لا يمكننا فصل الكرامة الانسانية عن الكرامة الوطنية والقومية في حالتنا العربية تحديدا، فالذل والمهانة التي يعانيها المواطن العربي بحثا عن لقمة عيشه او فرصة عمل او سكن لائق لأسرته او تعليم لاولاده، او لدى تعاطيه مع بيروقراطية حكومية ينخرها الفساد، يماثلها ويمتزج معها ذل وهوان يمس كرامته الوطنية والقومية تحت نير حكم استبدادي يصادر حريته ويكتم انفاسه ويقتل احلامه ويسلبه اي شعور بالعزة والعنفوان الوطني والقومي، نتيجة الدور الوكيل التابع والخادم الذليل المطيع للمشيئة الاميركية والصهيونية.

وفي حالة النظامين التونسي والمصري، لم يتورع بن علي ومبارك عن الانغماس في التآمر على الشعوب العربية، وقيامهما بأدوار قذرة ودون خجل ضد شعبنا في فلسطين ولبنان والعراق وقواه المقاومة (على سبيل المثال لا الحصر.) وشكلت مشاركة وتواطؤ نظام حسني مبارك في شن الحرب العدوانية على غزة ومن ثم حصارها ذروة في الغدر والتآمر.

يبدو ان بعض المغرضين او المنزعجين من انتصار الثورتين يحاولون اخفاء تذمرهم بعد تأخر التحاقهم وتأييدها، ويصرون على التبجح بغياب شعارات وهتافات الدعم والتأييد لفلسطين عن الصدارة. وكأن اسقاط الانظمة الوكيلة للحلف الاميركي – الصهيوني لا تشكل ابلغ هتاف واصدق المواقف نصرة لفلسطين والقضايا الوطنية والقومية العربية. او انها ليست بلاغا صارخا مبينا على التحرر من التبعية والخنوع. وفي الحالة المصرية تحديدا، حملت رياح الثورة تطلعات الشعب المصري وآماله في استعادة المكانة والكرامة والدور التاريخي القيادي لمصر على المستوى العربي، وتجسد توقهم لعودة مصر القوة الاقليمية الوازنة بعد طول غياب من تقزيمها وتهميشها من قبل حسني مبارك ونظامه الخانع.

يكفي ان نتذكر العبارة التي ترددت على كل شفة ولسان المواطن المصري في كل مكان بفعل الثورة "أفخر باني مصري او مصرية." لقد استرد المواطن شعوره بالعزة والكرامة و هلل للاطاحة بمن سلبه ذلك الشعور الانساني النبيل. انه تعبير عن استعادة مصر لقرارها الوطني والقومي بعدما فقدته بخروجها الكارثي من المعسكر العربي وتقييدها باتفاقيات كامب ديفيد، وسلخها عن عروبتها وثقلها في ادارة الصراع العربي – الصهيوني. انه التعبير الاوفى عن الاستجابة لوجدان الشعب المصري المجسّد للوجدان العربي الجمعي.

لقد دخلت ثورتي تونس ومصر التاريخ العربي الحديث والسجل العالمي بوصفهما عناوين مرحلة جديدة لنهضة عربية من طراز جديد استطاع تفادي العنف الثوري او الانتفاضة المسلحة معتمدا على زخم الحراك السلمي الجماهيري، الحاشد والمستدام، بصورة غير مسبوقة في تاريخ ثورات الشعوب. وسيدرس علماء الاجتماع وخبراء تحليل التكوين النفسي والثقافي للشعوب هاتين الثورتين الفاصلتين طويلا، لمحاولة سبر اغوارها وفك اسرارها، ومعرفة القوة الخفية الكامنة والمحركة. كما سيحاول علماء السياسة والباحثون تحديد العنصر او العناصر الحاسمة التي وفرت اللحظة الفاصلة في ايصالها الى خاتمتها الظافرة.

قد ينجح بعض المحللين والخبراء في تقديم تفسيرات متنوعة للعنصر الحاسم والمحرك للثورتين، فيركز بعضهم على الاسباب الاقتصادية والمعيشية والبطالة والفساد، وآخرين على الاستبداد والطغيان والظلم والقمع وخنق الحريات وتزوير الانتخابات. طبعا لا يمكن لأي عاقل ان يقفز عن الاعتراف بجدوى كل هذه العوامل مجتمعة، ولكنني اعتقد ان القوة الكامنة والجبارة التي لعبت الدور الحاسم، وكانت بمثابة الصمغ اللاصق لكافة الاسباب المذكورة آنفا، هي توق الجماهير الى تحرير ارادتها واستعادة الشعور بالكرامة الانسانية والوطنية والقومية المهدورة. هذا الشعور العابر للتصنيفات الطبقية والعرقية والاجيال؛ وعندما ندرك ونقر بهذه الحقيقة فلن نحتار او نستغرب او نغفل عن الاعتراف بان الشعارات التقليدية المؤشرة على القضايا الوطنية والقومية، لم تكن فعلا غائبة عن جوهر الحراك الجماهيري حتى لو تم التعبير عنها باشكال رمزية مكثفة ومضمرة من خلال صدارة شعار الكرامة الانسانية الشاملة.

اما الذين يصرون على استبعاد الاثر القومي العروبي التلقائي والطبيعي في جوهر الثورتين التونسية والمصرية، فما عليهم سوى الاجابة على سؤال لماذا شهدنا تحركات وانتفاضات شعبية في بلدان عربية، مباشرة بعد الثورتين او بالتوازي معهما، تتمثل بها وخاصة في ليبيا، اليمن، البحرين، الاردن، الجزائر وغيرها. لماذا لم نلحظ ارتدادات للثورتين في بلدان اخرى غير عربية (وان كان المجال متاحا وممكنا قريبا) تعاني شعوبها من الطغيان والاستبداد والمشاكل الاقتصادية والمعيشية المماثلة.

مسألة التغيير والعنف الثوري:

لم يلحق بمنطق العنف الثوري والكفاح المسلح التشويه والتسفيه اكثر مما لحق به في العقود الاخيرة على يد بعض الفصائل التي كانت تحمل لواءه في المقاومة الفلسطينية وانخرطت في اتفاقيات اوسلو، كنتيجة منطقية لتبني شعار الحل المرحلي الذي مهد لها، لأن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال اعدل قضية عالمية تبرر الكفاح المسلح المشروع ضد اطول واقسى احتلال استيطاني عرفته الشعوب في التاريخ المعاصر. كان ولا يزال العنف الثوري وسيلة مشروعة ضد المحتل الغازي الخارجي او الطاغية المستبد الداخلي. عندما يلجأ الى حملة ابادة منظمة ضد شعبه والقوى التي تعارض نظامه. ورغم ان مشروعية العنف الثوري او اللجوء للسلاح اضحى مرتبط بحق الشعوب الدفاع عن النفس، ولا يكتسب مشروعيته بنظر ما يسمى بالمجتمع الدولي المهووس بالارهاب في ظل النظام الدولي الراهن، الا عندما يتحقق انتصاره ويحظى عندها بالاعتراف. وبالمقابل ساد منطق احتكار العنف (بلا حدود او ضوابط) من قبل القوى المهيمنة على النظام الدولي او من قبل السلطات الحاكمة، واضفاء المشروعية عليه بدون رادع رغم الانتهاكات التي تقوم بها ضد القانون الدولي والانساني.

اشرت الى التجربة الفلسطينية في العقود الاخيرة لما تشكله القضية الفلسطينية من رمزية نضالية عالمية، حاضنة لفكرة العنف الثوري المشروع، وحاملة لرايته على المسرح النضالي العالمي للشعوب المضطهدة، والتواقة للحرية والكرامة. لان مجمل الوضع العربي لن يستقيم افقه النضالي ما لم تعد شعلة العنف الثوري والكفاح المسلح تضيء من جديد دروب النضال، وتصون التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني في مسيرة تحرره الوطني نحو التحرير والانتصار الناجز على الكيان الصهيوني الغاصب، وكذلك على امتداد الساحات العربية التي تقاوم الاحتلال الاميركي المباشر ووكلائه الاقليميين، بدءا من العراق وانتهاء بكل المحميات الاميركية- العربية. وارى علاقة وثيقة جدا بين المقاومات العربية المسلحة وبين الحراك الجديد النضالي السلمي للشعوب العربية الذي بدأه الشعب العربي التونسي البطل.

جميع هذه النضالات تشكل روافد لحركة تحرر عربية متجددة، وسيصوغ كل شعب عربي في كل قطر عربي اسلوبه الخاص في تحقيق اهدافه، ولكن لا يجوز ان يغيب عن الصورة انه في كل الحالات – وليس في الحالة الليبية الراهنة التي فرض نظام القذافي الدموي تحولها الى انتفاضة مسلحة تدافع عن الشعب الليبي وتعمل على محاصرة آخر معاقل النظام لاسقاطه- لا بد الاخذ في الحسبان ان تتحضر الطلائع الثورية لامكانية استخدام العنف الثوري، وهذا لا يعني انه الطريق الوحيد عربيا. فكل حالة ثورية ستفرض تكتيكاتها الميدانية، ولكن يتوجب دائما توفر الاستعداد الكفؤ لتشكيل وحدات سرية مدربة ومتمرسة كقوة احتياطية للتدخل في اللحظة المناسبة لحماية التحرك الجماهيري السلمي من بطش ووحشية الانظمة المجرمة التي لن تتورع عن السعي لاجهاض الانتفاضات الشعبية في مهدها. فعلى كل الشعوب العربية التواقة الى الحرية والكرامية ان تعد كتائب الحماية لثورتها، والتدخل الميداني الضروري والمحدود عند الضرورة، ثم الانسحاب السريع لدى ردع وتراجع ادوات الاجرام عن الايغال في تنفيذ مخطط الثورة المضادة.

ملاحظات اخيرة حول التراكم النضالي:

لاستكمال المشهد الثوري العربي الذي فجرته ثورتا الشعبين التونسي والمصري، لا بد من الاخذ في الاعتبار ان هناك ظروفا موضوعية مساندة لعبت ادوارا ممهدة وحافزة، شكلت جميعها تراكما في الوعي الجماهيري المتجدد بكسر حاجز الخوف، وتصليبب العزم والمبادرة للشعوب العربية، ويمكن الاشارة الى بعضها باختصار شديد:
1) نجاح المقاومة العراقية في هزيمة مشروع الاحتلال المباشر والهيمنة على القطر العربي العراقي، وافشال مخططاته لاخضاع الشعوب العربية.
2) انتفاضتي الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة في العقدين الماضيين.
3) انتصار المقاومة اللبنانية التي قادها حزب الله في لبنان، وتتوجت بطرد الاحتلال الصهيوني عن معظم الاراضي اللبنانية في 25 أيار 2000.
4) صمود وانتصار الشعب اللبناني ومقاومته ضد عدوان تموز 2006.
5) صمود انتصار الشعب الفلسطيني ومقاومته التي قادتها حركة حماس في غزة ضد العدوان الصهيوني في عام 2008 و 2009، واستمراره في تحدي الاحتلال والحصار.
6) الانتفاضات العمالية والشعبية المختلفة منذ عام 2005، وخاصة في مصر وتونس.
7) تسريبات ويكيليكس للتقارير الديبلوماسية الاميركية التي زادت في تعرية وفضح انظمة العمالة والتبعية العربية ورموزها.
8) تنامي مزاج جماهيري غاضب ومعترض على مشاريع التوريث التي كانت بعض القيادات الهرمة من انظمة التبعية العربية تدبرها في العلن والخفاء (مصر، اليمن، ليبيا، تونس، الجزائر) كنماذج صارخة.
9) تجاهل الارادة الشعبية عن قوانين انتخابات جائرة وتزوير الانتخابات ، وآخرها المثال الوقح للانتخابات المصرية لمجلسي الشعب والشورى.

لا شك ان ثورات الشعوب العربية الواعدة بالتغيير والتي حققت حتى اللحظة انتصارات بارزة، ادخلتنا في عصر يختصر فيه الزمن ويحقق انجازات في غضون اسابيع مما كان يعتقد انه يحتاج الى سنين وعقود. انه الزمن الثوري والوعي الثوري الجديد لشعوبنا التي صمّمت على دحر الاستبداد والاحتلال وزرع الأمل بنهضة عربية جديدة.

(قاسيون السورية(

السابق
نصيحة برتقالية لميقاتي: تحرر من هاجس الحريري
التالي
مصادر الحريري للجمهورية: اتهامات سوريا دليل على الوضع المأزوم الذي تمرّ فيه