معوقو الحرب: الأوجاع النفسية أقوى من الجسدية

يكفي أن تنظر إلى الشظايا الغائرة في أجسادهم والقذائف التي مزّقت ضلوعهم، لتعرف حجم ضراوة الحروب التي عاشها لبنان بدءا من العام 1975. منهم مَن بُتر أحد أطرافه وخسر إحدى حواسه، آخرون جروحهم لم تندمل، على رغم مرور 36 عاما، لا يزالون تحت العلاج حتى اليوم. هم الذين التقطت عيونهم مشاهد في يوم غابت عنه كاميرات وسائل الإعلام، وسجّلت ذاكراتهم أحداثا غابت عنها تسجيلات الصحافيين، هم شهداء الحرب اللبنانية الأحياء، تستعيد "الجمهورية" معهم لحظات ربما تفوت التاريخ وربما تسكن فيه.

"في أواخر العام 1983، بينما كنت على الجبهة على محور إقليم الخروب – المغيرية، أُصبت بقذيفة بُترت على إثرها قدماي، يومها كانت الطرق مقفلة، ولا وجود لسيارات الإسعاف، فنقلني أحدهم في سيارته إلى مستشفى بعقلين، حيث تمت معالجتي. وحتى اليوم لا أزال أعاني". بشيء لا يخلو من الحسرة، لم يجد أحمد خالد أي صعوبة في استرجاع ذكريات الحرب الأهلية، فيقول: "كيف يمكن نسيانها ونحن لا نزال نراها؟ فهي ترافقنا يوميا، صبحا، ظهرا ومساء، تنام وتصحو معنا".

في كل لحظة ينظر فيها أحمد إلى إعاقته الجسدية يتأثر، على رغم أنه يحاول منذ سنوات التأقلم مع الواقع الأليم قدر المستطاع. لكن، على حد تعبيره، "ما من شيء يمكن أن يخفف آلام المُصاب، ولا سيما الوضع السياسي الراهن، الذي يجعلنا نندم أحيانا على لحظات القتال التي ناضلنا في أثنائها". عزاء احمد الوحيد انه تزوج ونجح في تكوين أسرة وإنجاب الاولاد.

يعتبر أحمد ان جميع اللبنانيين ضحايا، "فمن لم يصب جسديا تأثر نفسيا". وقد أمل من السياسيين عدم توريط لبنان بحرب جديدة، كذلك دعاهم إلى التخفيف من حدة خطابهم السياسي، منبّها من خطورة "الارتهان للخارج والارتباط بمحاور إقليمية".

"السرقات شغلت

بعضهم عن القتال"

من جهته، يعتبر هيثم زهيري "أن الحرب الأهلية من الأساس لم يجب ان تحدث"، واصفا إياها بالأيام "الوسخة". ويروي: "بعض اللبنانيين قاتلوا دفاعا عن قضيّة حق، ومنهم من استغلّ الفرصة ليسرق وينهب، حتى تحوّل، بعد الحرب، إلى أغنى الأثرياء". يأسف هيثم لغياب أي قاعدة ومعايير قتالية في الحرب اللبنانية، "ذهب الحق في عزاء الباطل".

في أيلول 1982، أصيب هيثم في منطقة وطى المصيطبة، يوم وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا، فيقول: "كان في حوزتي بعض القنابل ورشاش كلشن، إثر اشتباكات دارت مع الإسرائيليين، سقط رفيقي شهيدا، في حين أصبت برصاصتين متفجرتين في الورك والمعدة". على رغم خضوعه لأكثر من 23 عملية، يعتبر هيثم نفسه محظوظا، فيقول: "الحمد لله، بعدنا طيّبين". ويضيف: "حتى اليوم، أمضيت نصف عمري في المستشفى، وقد تحول جسدي إلى خارطة بعد سلسلة العمليات، وخسرت 12 سنتيمترا من قامتي". في هذا السياق، يلفت هيثم إلى أن "الوجع النفسي أقوى من الجسدي، فالأول تبقى آثاره مدى العمر، في حين أن الثاني يمكن تخفيفه بواسطة المسكنات".

كثيرة هي المشاهد التي تثقل ذاكرة هيثم، أبرزها استشهاد رفيق له، لمّا يمضِ على زواجه شهر، فيقول: "إلى جانب مشاهد السرقات التي أظهرت كم أن الناس مادية ورخيصة، استشهاد صديقي العريس الجديد فارس يحزّ في قلبي حتى اليوم، غادر قبل أن يرى الوجه الآخر من الحياة". ويضيف: "هذه الايام التي نعيشها أصعب من الظروف التي اختبرناها، نشهد أخيرا حربا اقتصادية، فنحن نحيا ونموت يوميا مئة مرة". لذا، تمنّى لو يمتنع "الشعب عن اتباع أي زعيم سياسي، وبالمقابل أن تمد الدولة يد العون إلى مصابي الحرب، بعدما ضاقت بهم ظروف الحياة".

هذه أكثر اللحظات تأثرا…

التحق فادي سعيد وهو في الـ 16 من عمره، بصفوف القوات اللبنانية العام 1983، إبان حرب الجبل، ويروي: "بعدما كان لبنان مقسما طوائف واحزابا، والمسيحيون يدافعون عن وجودهم الحر، ونظرا إلى ظروف التهجير وحصار المناطق المسيحية من القوى المعادية، كان الواجب يقضي بحمل البندقية والالتحاق بالرفاق المدافعين عن المجتمع المسيحي".

تعرّض سعيد في فترة نضاله لإصابات كثيرة، إلا ان واحدة منها كادت تكون القاضية، فيروي: "في أثناء المعركة التي شهدتها منطقة النهر- بيروت، اخترقت رصاصة عمودي الفقري. كنت يومها في الـ19 من عمري، وأنا اتابع حياتي منذ ذلك الحين على كرسي متحرّك".

قد يكون الجرح الذي خلّفته الحرب في نفس سعيد عميقا، إلا انه ليس أعمق من الأسى الذي يعتريه إزاء الاوضاع الراهنة، فيوضح: "لا اشعر بأن الحرب اللبنانية انتهت، عندما نقارن بين بوسطة 13 نيسان 1975 وبوسطة 13 نيسان 2011 التي لم تنفجر بعد. ويضيف: "لكن ما يجمع بين التاريخين دولة مفككة، قوى امنية غير قادرة على تطبيق القوانين على الجميع، سلاح غير شرعي خارج الدولة ومؤسساتها، تخوين واتهامات بين المسؤولين، قلق وتخوف من المستقبل وعلى أولادنا، المشهد العام يشبه كثيرا 13 نيسان 1975، ولكن بفارق صغير أن كثيرا من اللبنانيين يتفادى الحرب من دون حلول بديلة".

على رغم انه أصبح في ما بعد منسّق مصابي الحرب في القوات اللبنانية، ورئيس جمعية "كروس رود"، لا ينكر سعيد أنه بين وقت وآخر يسأل نفسه عما إذا كان يندم على نضاله وتحمّل إعاقته. لكن سرعان ما تغلبه العزيمة والإرادة، ويجيب: "كيف اندم على ولائي لبلدي، لطائفتي التي كانت مهدّدة من الغريب ومن الطوائف الأخرى في حين ان الدولة ومؤسساتها تخلت عني". ويوضح: "لم اكن مهددا بالموت كفرد بل كعائلة ومجتمع ومعتقد وايمان. اصابتي ليست اصعب من رفاق استشهدوا في سبيل قضية وجود".

أما عن نمط الحياة الذي اختبره في مسيرته النضالية، فيروي سعيد، أن الثكنة تتحول إلى منزل ثانٍ في ظل وجود شباب مثل الأخوة، "نأكل معا ونمضي معظم اوقاتنا معا". في هذا السياق، يسترجع سعيد إحدى الذكريات الأقرب إلى قلبه، فيقول: "أحد الرفاق الذي تشاركت معه الغرفة، كنّا نمزح مرارا بشأن الاصابة والموت ونراهن من يمكن ان يستشهد قبل الآخر. في اثناء الحرب استشهد رفيقي وأحسست بشعور لا يوصف بالحزن، ولم اصدّق انه اختفى ولم يعد له وجود. كانت تلك اللحظة من اكثر اللحظات جدية وتأثرا في بداية حياتي".

بالنسبة إلى سعيد، "حمل البندقية واللباس العسكري والعيش في ثكنة عسكرية لشاب في عمر 16 عاما، يعني الشعور بالقوة والعنفوان والحماسة والتميز عن أصدقاء المدرسة ". ويضيف: "لكن عند المشاركة في المعارك ورؤية رفاق يصابون امام ناظري، واستعمال البندقية لقتل العدو والانتقام منه، يراود المرء شعور غريب يصعب فهمه ويناقض مفهوم المحبة وعدم الأذية التي تربينا عليها، ما ولّد عندي سلسلة من الكوابيس بعد اول مرة اطلقت النار على انسان آخر وأذيته".

أبعد من الإعاقة الجسدية

"صحيح ان الحرب الأهلية خلّفت كثيرا من المعوقين جسديا، إلا ان المعوّق الحقيقي من لم يتحرر بعد من ذهنية الحرب على رغم مضي 36 عاما على اندلاعها". هذا ما عبّر عنه مسؤول كشافة الحرية في القوات اللبنانية وليد الخوري ويوضح: "الحرب في نظري انتهت يوم صمت المدفع". تعرّض خوري في أثناء الحرب لإصابات كثيرة، إلا أن آخرها أفقدته رجله، "كنت أرغب في متابعة النضال حتى آخر يوم من الحرب، ليس في الدفاع عن الوطن أي خسارة".

يعتبر خوري أن القتال مجرّد وسيلة للدفاع عن الوجود وليس غاية بحد ذاتها. لذا، لا يرى نفسه "ضحية استغلال ولا حتى كبش محرقة، كما يظن الناس، بكل إرادة ومعرفة مسبقة قررنا خوض معركة وجودية". في هذا الإطار، يلفت خوري إلى ان "المعوق بعد الحرب قد ينجح في التأقلم مع وضعه الصحي، لكن المجتمع اللبناني لا يرحمه في نظراته".

على رغم ذلك، يؤكّد خوري انه لم يفقد إرادته يوما في البقاء، موضحا: "إن القتال ليس إلا ممارسة يحتاج فيها المرء إلى لياقة بدنية، ولكن عليه التحلي بمعرفة عميقة لقضيته، والاقتناع بأسباب الدفاع عنها".

كثيرة هي الأحداث التي كان شاهدا عليها خوري، إلا انه في هذه المناسبة، يتذكر أصدقها، ويخبر: "استشهد احد الرفاق بعيدا مني، إلا انني عمدت إلى الاعتناء بجثته، وحضرتها، بهدف أن تكون صورته أجمل وأوضح في عيون مودعيه. لذا، حرصت على الاعتناء به قبل ان تراه عينا أمه للمرة الأخيرة". ويضيف: "مشهد آخر يحز في بالي، يوم قطع رأس احد المقاتلين، وهو ينجز مهمة عسكرية".

بعد مسيرة النضال الطويلة التي خاضها، كان لخوري رسالة خاصة في هذه الذكرى: "دوركن ما خلص، الحرب انتهت، دوركن ان تؤمنوا ان هذه الحرب لن تعود، وان التزاماتكم ومشاركتكم في التغيير ستشكل الفرق".

في هذه الذكرى السنوية، لن نردد "تنذكر ما تنعاد"، أو "كفى"… وإلى ما هنالك من شعارات أخرى. فقد أظهرت السنوات الأخيرة أن ترداد العبارات عينها، لم يحل دون وقوع اشتباكات مسلحة في مناطق متفرقة في لبنان، ما أدى إلى سقوط المزيد من الضحايا، وتزايد عدد المعوقين. مؤشرات كثيرة تؤكّد ضرورة ولوج خطوات عملية، تحصّن الساحة الداخلية، وتزيد الشباب تمسكا بوطنهم، وذلك قبل فوات الأوان… لأن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين؟

السابق
13 نيسان… هل تذكرون؟
التالي
النابلسي: الحكومة البحرينية تحاكي الحكومة الاسرائيلية في ممارساتها مع الشعب البحريني