مسؤولية الأحزاب اللبنانية في إعادة إنتاج الحروب الداخلية

بعد انقضاء ست وثلاثين سنة على الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان (نيسان 1975)، لم يزل السؤال حاضراً عن أسباب هذه الحرب من جهة وإمكانية استعادتها من جهة أخرى.
لقد قدمت العديد من الأطراف وجهة نظرها لتوضيح مسبباتها سواء في ردها إلى عوامل داخلية أو خارجية. غير ان هناك ما يمكن ان نعتبره «توافقاً» على اعتبار البيئة المجتمعية عاملاً مهما في تفجير الحروب السابقة، ومولّدة للحروب المتوقعة بين مرحلة وأخرى، الأمر الذي جعل الطائفية والطوائفية السياسية «صاعقاً» دائم الحضور للعب دوره في الاجتماع السياسي اللبناني.

من هنا فإن «التنوع» الذي يفاخر به اللبنانيون تحول إلى نقمة على البلاد وعلة على العباد، كونه يتعرض للتصدع والتصادم المميت عند كل مفصل وطني أو إقليمي.
ان «حروبنا» الداخلية، وإمكانية تجددها هي بالتأكيد متعددة الأبعاد ومتداخلة الأسباب. وبالتالي لا يمكن حصرها في هذا البُعد او ذاك. رغم أهمية البعد الطائفي ـ المذهبي، وخطورته وإمكانية اللعب على أوتاره بين فترة وأخرى.
غير أن ما تم إغفاله، من حيث المبدأ، عند التطرق للحروب الداخلية في لبنان، او تهميشه والمرور عليه مروراً عابراً، هو موقع الأحزاب والقوى السياسية ودورها في تفجير الوضع الداخلي، او تهيئة الظروف المناسبة لتفجير البلد وناسه.
من هنا فإن اعادة البحث في دور هذه الأحزاب، وتسليط الضوء على موقعها في «الحروب اللبنانية» المتنقلة يبدو مسألة ضرورية لفهم إحدى أهم معضلات الاجتماع السياسي اللبناني من جهة، وفتح النقاش عن مبرر هذه الحروب وتجددها من جهة ثانية، وإعادة الاعتبار «للمسؤولية الذاتية» في ما كنا عليه، وما نحن فيه، وما يمكن ان نصل إليه من جهة ثالثة، والسعي لتحديد معالم لانبعاث مجتمعي متجدد من جهة رابعة.

ان تصويب النقاش باتجاه الأحزاب والقوى السياسية في لبنان كفاعل جدي وأساسي في تجديد الانقسام المجتمعي بأشكاله العنفية ـ الدموية، لا ينطلق من أحكام مسبقة واتهامات جوفاء ضد الظاهرة الحزبية، أو ضد هذا الطرف أو ذاك. بل هي محاولة لتبيان «القواسم المشتركة» التي تكاد تجتمع حولها أطياف الظاهرة الحزبية في لبنان وإن بنسب مفاوتة. ولعل أهم ما يمكن رصده لتحديد مسؤولية الأحزاب السياسية في لبنان في إعادة إنتاج الحرب الداخلية يكاد يتلخص في العوامل المتداخلة الآتية:
أولاً: التهرب من المسؤولية: رغم انقضاء كل هذه السنوات على أحداث (1975 ـ 1989) الدامية، فإن أياً من القوى السياسية لم يعترف، عملياً، بمسؤوليته عما جرى، او يحدد مسؤوليته عن الفظائع التي تم ارتكابها مباشرة أو غير مباشرة. ولعل النقد الأوضح، عملياً، هو ما قدمه محسن ابراهيم في تأبين جورج حاوي.

من هنا تغيب المراجعة المسؤولة، والتقويم النقدي الجريء لتجربة الأحزاب ونشاطاتها «غير السوية» في بلادنا، الأمر الذي يجعل هذه الأحزاب خارج المسؤولية وخارج المساءلة من جهة، ويعطيها مبررات للاستمرار باعتبارها «نقية» النفس والجسد من جهة ثانية، ويحولها من جهة ثالثة إلى أحزاب «معصومة» لا يطالها الباطل، او تقع في «الشرك».
ثانيا: الوكيل المعتمد: تجسد الأحزاب والقوى السياسية أدوات الصراع العنفي ـ المادي في أرض الواقع. وبالتالي فإنها القوة «الضاربة» والمُجيشة عند اشتداد الصراع السياسي وتحويله إلى اقتتال عسكري ـ دموي. وهي من هذا الموقع ارتضت لنفسها بشكل او بآخر ان تكون «وكيلا» حصرياً ومعتمداً لهذا الطرف الاقليمي او الدولي أو لذاك. فتحت ذريعة «حماية الذات» من الآخر في الوطن، او لحجج أخرى أغلبها وهمي وذاتي ومصلحي قبلت ان تكون أدوات سياسية يمكن تحريكها والتحكم بخياراتها إلى حد بعيد.

وقد غلّفت هذه الأحزاب عملية الارتهان بمعطيات ومبررات لم تعد مقنعة. فالاتجاه «القومي» لم يجد أزمة للعروبة الا في لبنان، وتعامى عن أمراض الدول القومية والعروبية، و«الكياني» لم يجد في الآخر في وطنه إلا شريكاً مشكوكاً في لبنانيته و«ناقصا» في وطنيته. لذلك كان التخوين، ولم يزل، سمة الخطاب السياسي، مما يُستر على هذه التبعية ويعمقها، ويحول البلد إلى ساحة مباحة لكل اللاعبين على حساب الوطن وناسه.
ثالثا: العجز الداخلي: ساهمت الأحزاب والقوى السياسية، ولم تزل، في لبنان في تكريس الأزمات المعيشية والسياسية والاقتصادية… في لبنان، سواء لجهة تهميشها، أو لجهة عدم متابعتها ومعالجتها، أو لجهة تحويلها إلى متاريس سياسية بين الفئات والمناطق اللبنانية. فقد عمدت الأحزاب السياسية، ولم تزل، إلى الالتفاف على القضايا العادلة التي ترتبط بالمواطن أو ببعض الفئات والمناطق، وذلك من خلال تصوير هذه القضايا على أنها انتقاص من «الحصة» وتطاول على الطائفة او المذهب. من هنا غابت البرامج الحزبية التي تركز على المواطن والمجتمع وحضرت «هموم» الطوائف وأركانها، الأمر الذي جعل «قضايانا» المجتمعية عصية على المعالجة، وجعل طرح هموم الناس ومشاكلهم مسألة ثانوية، وحوّل حقوق المواطن (افراداً وجماعات) بؤراً للانفجار والتفجير وحواجز تُلغي التلاقي بين اللبنانيين…

رابعاً: التكاذب السياسي: مارست الأحزاب السياسية، ولم تزل، لعبة التذاكي على اللبنانيين بشكل مشوه و«ممقوت». وذلك من خلال القطع الحاد بين الخطاب الوطني الجامع الذي تدّعيه وتبشر به، والسلوكيات الفئوية والمذهبية التي تعيشها وتمارسها. هذا إذا استثنينا الخطاب التعبوي المزدوج. بمعنى ان الخطاب الموجه للداخل الحزبي ـ المذهبي الطائفي، يبدو على قدر كبير من الخطورة، وهو بعامة يتعارض مع المعلن للخارج غير الحزبي ـ الطائفي ـ المذهبي.
من هنا يبدو النمط السياسي السائد في الأحزاب السياسية في لبنان يرتكز على مثلث عصي على الفهم وقوامه: التفكير شيء والقول شيء، والممارسة شيء، الأمر الذي جعل، ولم يزل، المجال السياسي في لبنان فسحة للتكاذب والخداع، مما عمق المفهوم السلبي عن العمل السياسي والنشاط الحزبي.

لهذه الأسباب، وغيرها الكثير الكثير، تتحمل الأحزاب والقوى السياسية في لبنان مسؤولية ما أصابنا من حروب، وما نعانيه حاضراً من توترات وتصدعات، وما قد نتوقعه من انفجارات عنفية. فلقد تخلت الأحزاب السياسية في لبنان عن الدور التحديثي للحزب بحسب المفهوم الحديث، فابتلعها المجتمع وبنيته المتصدعة، وحولها إلى فاعل انقسامي حاضرة دوما ومستعدة باستمرار لإعادة تجديد «الحروب» المتنقلة. فهل يمكن للظاهرة الحزبية في لبنان أن تخرج من «شرنقتها» او تستعيد بعضاً من وظائف الحزب السياسي؟ وكيف؟ وهل يمكنها ان تساهم في إعادة الهدوء إلى نفوس اللبنانيين، والاطمئنان إلى غدهم؟ وكيف؟

السابق
الجراح نفى اتهامه بالتدخل في أحداث سوريا
التالي
ظاهرة تفشي المخدرات في صيدا