لعنة لبنان

لم تعد الحرب الاهلية مجرد ذكرى، يتوقف عندها اللبنانيون كل عام لكي يزعموا انهم نسوها، ويمر امامها اشقاؤهم العرب لكي يثبتوا انهم براء منها ومحصنون ضدها. فقد استقرت في الوعي اللبناني بصفتها خيارا ابديا، وانتشرت في العقل العربي باعتبارها مخرجا وحيدا. صارت المصطلح الاكثر شيوعا في اللغة العربية، والاكثر تداولا في توصيف احوال العرب باللغات الاخرى.

هي الان اشبه بلعنة حلت على جميع الدول العربية من دون استثناء، مثلما سبق ان استوطنت لبنان ولا تزال ترفض ان تغادره. يعيشها الجميع بدرجات متفاوتة من الانكار، الذي لا يلغي حقيقة انها باتت الصورة الثابتة في الاذهان، عندما يفتح اي نقاش سياسي، او ديني، او ثقافي، او حتى عندما يثار اي جدل حول الاخر، الاميركي او الغربي او حتى الاسرائيلي.. الذي يشهد من الحروب الاهلية العربية اكثر بكثير مما يشهد من حالات المقاومة الوطنية.

للذكرى اللبنانية مرارتها الدائمة عند الجيل الذي عاش الحرب، وكذلك حنينها الخاص (والمريض) الى تلك الايام البائسة، فقط لان الخوف مقيم من الاسوأ، ولانه ليس هناك دليل على ان الاجيال الجديدة لم تتعلم الدرس، بل ثمة في صفوفها من هو مستعد ومتحمس لخوض تلك التجربة من جديد، بناء على ادعاءات طائفية ومذهبية عصرية مبتكرة، وبأشكال واهداف تفوق بخطورتها تلك التي حددها اللبنانيون لانفسهم في منتصف سبعينيات القرن الماضي.

المخيلة اللبنانية المريضة والمقفلة على فكرة الحرب الاهلية ولا شيء سواها، لن تعدم وسيلة من اجل ابهار العالم كله والتفوق على المنافسين العرب الذين كانوا يشعرون ان تمزق لبنان هو عارهم الاكبر ومسؤوليتهم الاخطر، فباتوا يتسابقون اليوم على استلهام تجربة بيروت من اجل رسم خطوط التماس في عواصمهم، بين الطوائف والمذاهب والعشائر غير المموهة هذه المرة بأي مضمون سياسي، وغير المخبأة خلف ستار الصراع مع العدو الاجنبي، حسبما كانت الادعاءات اللبنانية في ذلك الزمن المشين.

لا يزال لبنان يعيش حالة الحرب الاهلية، ويضخها بالدماء بين الحين والاخر، لكي لا يفقد صلته بذلك التقليد الراسخ الجذور، ولكي يؤكد اليوم اندماجه في محيطه العربي الذي يدفع الان ثمن التورط في الحرب اللبنانية وفي تصديرها خارج حدوده، مثلما يدفع ثمن الفشل في بناء دولة وطنية واحدة افضل من تلك التي رسمها المستعمر الاوروبي وحكمها ثم تركها لابنائها قبل ان يعود اليها مؤخرا.

لم تعد اللبننة مصطلحا معيبا او غريبا على احد من الاشقاء العرب. فقد انتج كل بلد عربي مصطلحه الخاص الذي يستوحي التجربة اللبنانية ويتقدم عليها بأشواط. وبات كل شعب عربي يتوق الى اشتقاق مفرداته المميزة من قاموس الحرب الاهلية، المعتمد في كل مكان من المحيط الى الخليج، من دون اي افق حتى بإيجاد لغة مهذبة لتوصيف الاوضاع العربية، او للعثور على وسيلة لطرد تلك اللعنة المقيمة لعقود طويلة مقبلة.

السابق
في ذكرى الجلاء وذكرى البلاء
التالي
النفط والأمن الإسرائيلي وإيران