توازن الضعف بين التسوية السياسية والحسم العسكري

كما كان متوقعاً، لم يكن بوسع الهجوم الغربي على ليبيا أن يسقط نظام العقيد القذافي، فالضربات الجوية التي استهدفت، نظام الاتصالات، والطيران الحربي الليبي، وبطاريات الصواريخ، والدبابات، ومراكز القيادة، وحتى المجموعات العسكرية التابعة للقذافي التي تحاصر المدن المتمرّدة الموالية للثوار لم تكن كافية لإسقاط حكم العقيد القذافي في ليبيا.

وإذا كان الهجوم العسكري الغربي قد استطاع حماية بنغازي من كارثة إنسانية بتدمير قوات كتائب القذافي التي كانت تتقدم نحوها، وبالتالي حماية الثورة الليبية من السحق العسكري مع ما يمكن أن ينجر عن ذلك من ارتدادات بشأن الثورات الديمقراطية العربية، فإن الأمر البديهي أن حسم الحرب الحالية، وبالتالي إسقاط نظام العقيد القذافي لا يمكن أن يتم من خلال الضربات الجوية فقط، بل لا بد من وجود قوات برية موازية ومتفوقة بالرجال والسلاح لحسمها، إضافة إلى تسليح الثوار الليبيين.

ففي مقارنة مع الحربين السابقتين في كل من أفغانستان، والعراق، كان الهدف من وراء هاتين الحربين، إسقاط نظامي حركة "طالبان" في كابول، وحزب البعث في بغداد، وهو الأمر الذي تطلب تدخل القوات العسكرية البرية لقوات التحالف الدولي في البلدين كليهما لحسم المعركة على الأرض. أما في واقع ليبيا، فإن القرار الصادر عن مجلس الأمن رقم 1973 الذي ينص على إنشاء منطقة حظر جوي وحماية المدنيين الليبيين من ضربات قوات كتائب القذافي، لا يجيز إنزال قوات احتلال أجنبية لإسقاط نظام العقيد القذافي، فضلاً عن أنه قرار يسوده الالتباس بشأن مدّ الثوار الليبيين بالأسلحة.

إن مشكلة التدخل العسكري الغربي في ليبيا الذي أيدته دولاً عربية عديدة، وجاء في سياق "التدخل الإنساني" لحماية الشعب الليبي من القمع الوحشي الذي يتعرض له من جانب نظام القذافي الديكتاتوري، تنبع من حسابات الدول الغربية للمخاطر والمكاسب التي ستجنيها من النفط والسوق الليبية. والحال هذه، افتقد هذا التدخل العسكري إلى استراتيجية واضحة تتعلق بالدفاع عن حرية الشعب الليبي، وإرساء ديمقراطية حقيقية في ليبيا، ذلك أن الضربات الجوية التي نفذتها قوات التحالف (بعض القنابل على الطريق إلى بنغازي، وصاروخ توماهوك على مقر قيادة القذافي، وقذائف قليلة لترويع سرت، إضافة إلى حفنة من قذائف "آر بي جي" لإبقاء الثوار بعيدين عن الوقوع في فخ اليأس) لم تكن من القوة بحيث تكون قادرة على إسقاط نظام القذافي، أو تفسح في المجال لكي يحقق الثوار الليبيون نصراً عسكرياً.

ولما كان عامل الزمن هو الحليف الحقيقي لنظام القذافي، فإنه مع إطالة زمن التدخل الغربي في ليبيا الذي سينعكس سلبيا على شرعية نضال المعارضة الليبية بإظهارها أمام العالم العربي بأنها تابعة للغرب، وهو ما سيعقد عليها الأمور كثيرا بأن تزعم تحليها بسلطة أخلاقية في حالة توليها الحكم في طرابلس، سيعمل القذافي على إبراز نفسه بأنه بطل قومي على غرار عمر المختار في مواجهة " الفاشية والإمبريالية الغربية" كما حدث عشية العدوان الأميركي على ليبيا في نيسان /أبريل عام 1986 .
غير أن العقيد القذافي الذي أدرك أن نظامه بات مهددا بالسقوط، لجأ إلى السلاح في مواجهة ثورة الشعب الليبي السلمية، وكان على شفا حفرة من أن يرتكب مجزرة في مدينة بنغازي، وهو ما أعطى المبرر الكافي للتدخل العسكري الغربي في ليبيا . لكن هذا التدخل الفرنسي جنبا إلى جنب مع نظيريه الأميركي والبريطاني لا يقلص من شرعية الثورة الليبية، ولا من شرعية الثوار الليبيين الذين لجأوا إلى استخدام السلاح في مواجهة الآلة العسكرية الجهنمية للعقيد القذافي، ولا يدعم زعم القذافي القائل إن الإمبريالية الغربية تسعى وراء النفط الليبي، لأن لو كان الأمر كذلك، فإن الدول الإمبريالية الغربية أسهل عليها أن تتعامل مع الطغاة من أمثال القذافي، لأن النفط الليبي تحتكر عملية استخراجه وتسويقه الشركات الاحتكارية النفطية الغربية، كما أن عائدات النفط الليبي المقدرة بعشرات المليارات من الدولارات مودعة من قبل القذافي وأفراد عائلته والمقربين منه في البنوك الغربية .

بعد ما يقارب الشهرين من اندلاع الثورة الليبية، وثلاثة أسابيع من التدخل العسكري الغربي في ليبيا، أفرزت التطورات العسكرية والسياسية الراهنة الخارطة الجديدة التي عليها ليبيا في الوقت الحاضر: هناك الشرق الليبي الممتد من الحدود المصرية ولغاية أجدابيا والبريقة الغني بالنفط الذي يسيطر عليه الثوار الليبيون – حقول النفط الواقعة في المناطق التي يسيطرون عليها تنتج ما بين 100 إلى 130 ألف برميل في اليوم – ويحظى بدعم الدول الغربية، وهناك الغرب الذي يسيطر عليه العقيد معمر القذافي وكتائبه، والذي يفتقر إلى الثراء النفطي الذي عرفت فيه ليبيا تقليديا.

في ظل توازن الضعف بين قوات العقيد القذافي وقوات الثوار عديمة الخبرة القتالية، وفي ظل الجمود الميداني الذي ما زال يخيم على سير المعارك بين الثوار الليبيين والقوات الموالية للعقيد معمر القذافي، تعيش ليبيا في ظل استحالتين:
أولا: استحالة التسوية السياسية بين نظام القذافي والمعارضة الليبية، التي تصر على رحيل العقيد القذافي وأولاده عن السلطة في طرابلس، فيما يصر هؤلاء الأخيرين عبر الوساطات مع الحلقات الضعيفة في منظومة الحلف الأطلسي (تركيا واليونان)، على بقاء العقيد معمر القذافي كمرجعية سياسية قيادية لليبيا، وعلى أن يقود نجله سيف الإسلام المرحلة الانتقالية للقيام بالإصلاحات المطلوبة تحت سقف سياسة النظام الليبي.

وثانيا، استحالة الحسم العسكري سواء من جانب كتائب القذافي التي تطمح لاسترداد الشرق الليبي، بسبب ضعفها الناجم من فرض منطقة حظر الطيران، والحصار البحري المفروض في ظل سلطة الأمم المتحدة، وافتقاد هذه الكتائب الدبابات والمدفعية وغيرها من الأسلحة الثقيلة من جراء القصف والصواريخ ذات التصويب الدقيق.أو من جانب الثوارالليبيين الذين هم أضعف من أن يزحفوا باتجاه الغرب لإسقاط نظام العقيد القذافي في طرابلس.

ويظل المخرج الحقيقي من هاتين الاستحالتين، يكمن في انتهاج استراتيجية جديدة لتحرير الشعب الليبي من طغيان نظام العقيد القذافي وأبنائه، تقوم بالدرجة الأولى على اعتراف المجتمع الدولي، ولاسيما الدول الغربية المتنفذة بالمجلس الوطني الليبي بوصفه الممثل الشرعي الوحيد للشعب الليبي، وتسليح الثوار الليبيين بالمعدات والأسلحة الثقيلة من أجل بناء جيش تحرير شعبي تقوده قيادة عسكرية محترفة، يضم الآلاف من المقاتلين المدربين تدريباً جيداَ، بهدف خوض معركة إسقاط نظام القذافي، وبناء سلطة الشعب الديمقراطية.

وهذا يقتضي من الدول الغربية المعنية بتحقيق السلام والحرية والديمقراطية في ليبيا، التحرر من المعوقات التي تكبلها، مثل الخوف من أن تذهب الأسلحة إلى تنظيم القاعدة، أو عدم معرفة هوية الثوار الحقيقية، وأن تقدم المساعدة للمعارضة الديمقراطية الليبية كي تبني مستقبل بلادها على نحو أفضل.

السابق
عون vs ميقاتي: نبش قبور الاتصالات
التالي
الحياة: اليوم الذكرى 36 لاندلاع الحرب الأهلية: السلام بيننا أو على لبنان السلام..لا للفتنة والتباعد