العثمانيون الجدد يكتشفون شرقاً أوسط جديداً

التأكيد على المصالح المشتركة وتهميش الخلافات هو تحوّلٌ شاملٌ في العلاقات بين الدول. لكن قد يكون الزمن استثنائياً حين تحتاج الدبلوماسية الماهرة لإبراز الخلافات في علاقةٍ يميّزها تنامي المصالح المشتركة.
ركزت الدبلوماسية التركية خلال السنوات الأخيرة على أقامة علاقاتٍ «خالية من المشكلات» مع سورية وإيران.
لكن، وحتّى حين بدأت النتائج الباهرة بالظهور، تصاعدت حاجة أنقرة لوضع مسافةٍ معيّنةٍ بينها وبين جيرانها.
كان الشرق الأوسط ميدان تنافس «العثمانيين» و«الفرس» بشتّى الوسائل طيلة خمسة قرونٍ وصولاً إلى مطلع القرن العشرين.
مشهد ولادة شرقٍ أوسط جديد يجعل القوّتين الإقليميتين تتسابقان للظفر بالقيادة. هنالك طرفٌ ثالث، وهو أمرٌ قابلٌ للجدال، تمثّله قوى الغرب عموماً وبعض العرب- الذين قد يأملون فعلياً إحراز دورٍ في التنافس التاريخي ضمن الوضع الإقليمي المعاصر، الذي يعمل وفق التقديرات الشائعة لمصلحة صعود إيران.

عملٌ غير منجزٍ في غزّة
تبرز السرعة التي قدّمت فيها تركيا تقريراً للأمم المتحدة في نيويورك بصدد احتجاز شحنة أسلحةٍ من طائرة نقلٍ إيرانية تعبر الأجواء التركية في طريقها إلى سورية في 21 آذار وما رافقها من تسريباتٍ إلى وسائل الإعلام- حدث ذلك كلّه بسرعةٍ في غضون أسبوع- تبرز مفاعيل تنافساتٍ إقليمية.

في الحقيقة، تصرّفت تركيا بوصفها «عضواً مسؤولاً» في المجتمع الدولي حين احتجزت طائرةً إيرانيةً تنتهك العقوبات التي فرضها مجلس الأمن على إيران- على الرغم من أنّ «المواد العسكرية المحظورة» المنقولة إلى حلب في سورية لا تتضمّن إلاّ 60 بندقية كلاشنيكوف و14 مدفعاً آلياً و8000 طلقة و2000 قذيفة هاون.

المهمّ في الأمر أنّ كولومبيا، وهي حليفٌ مخلصٌ لواشنطن وترأس لجنة العقوبات، أبلغت من دون إبطاءٍ مجلس الأمن أنّ الحادثة «مسألةٌ بالغة الخطورة» وسارع الدبلوماسيون الغربيون للتعليق بأنّ الحادثة «انعكست إيجابياً على تركيا».
في الواقع، طرأ قدرٌ من التنافر في الصلات التركية- الإيرانية- السورية، التي كانت تتبع بثباتٍ خطّاً بيانياً صاعداً. تتضمّن هذه المسألة أيضاً حزب الله وربما حماس، ولربما لم نسمع بعد القول النهائي. مؤخراً، قال «رئيس الوزراء الإسرائيلي» السابق إيهود أولمرت إنّ حرباً شاملةً على قطاع غزّة أمرٌ محتّم: «إن كان هنالك ما أندم عليه، فهو عدم إنجاز المهمّة بالكامل. ليس بوسعنا تجنّب إنجاز المهمّة. لا يمكن أن تقبل «إسرائيل» وجود كيانٍ إرهابيٍّ في غزة يهدّد مواطني «إسرائيل» من دون القيام بعمل. ليس عملاً عشوائياً، بل عملٌ منظّمٌ ودقيقٌ وخاضعٌ للسيطرة بما يكفي من القوّة لإجراء تغييرٍ على الأرض في غزة».

الأتراك من أقدم محترفي الدبلوماسية المعاصرة. فهم يعرفون أنّ توتّراتٍ تنشأ في سورية، وقد تبنّت أنقرة مقاربةً إرشاديةً تجاه دمشق بدعوةٍ مفتوحةٍ ومتكرّرةٍ للرئيس الأسد بإجراء إصلاحات. فقد تحدّث رئيس الوزراء أردوغان مرّتين إلى الرئيس الأسد. كما كرّر الرئيس غول دعوة تركيا للإصلاح بعد يومٍ من خطاب الرئيس الأسد «الذي أعلن فيه أنّ احتجاجات السوريين نتيجة مؤامرةٍ خارجية».

استخدم غول لهجةً قويةً غائمة: «أياً يكن ما يجب فعله ينبغي أن يفعل، ما لم يعد ممكناً هو وجود نظامٍ مغلقٍ على شاطئ المتوسّط. الأسد يدرك ذلك، كذلك… فنحن نضع خبرتنا في متناوله ولا نريد أن تسود الفوضى في سورية».
كما أعلن مستشار غول إرسات هرموزلو: «انتظار انتهاء الاحتجاجات للقيام بالإصلاح مقاربةٌ خاطئة. ينبغي القيام بالإصلاحات الضرورية الآن وليس غداً. ينبغي أن يتحلّى القادة بالشجاعة… سيكون التحوّل سهلاً إن استطاعت الإدارة السورية القيام بإصلاحاتٍ هامّةٍ تتعلّق بحقوق الإنسان والديمقراطية وإيجاد حلولٍ لمكافحة الفساد».

كذلك أبلغ أحمد داوود أوغلو وكالة رويترز: «الأمر يشبه ما حدث في شرق أوروبا نهاية التسعينيات… من يحاول منع هذا المسار سيواجه مزيداً من المصاعب كما هو حال ليبيا… ما من دليلٍ على (وجود مؤامرةٍ خارجية)… نؤيّد الإصلاحات والدمقرطة (في سورية) لكن يجب أن يكون التحوّل سلمياً وليس عبر العنف، أو مهاجمة المدنيين أو محاولة الإبقاء على الوضع الراهن أو خلق عدم استقرار».

تبدّلٌ ملحوظٌ في المواقف
للهجوم التركي المفاجئ على سورية خلفيةٌ معقّدة. ما من دولةٍ عربيةٍ خاصمت الأتراك أكثر من سورية «القومية». في التراث الشعبي السوري، يقدّم العثمانيون بوصفهم أجلافاً، وتحت السطح مباشرةً يستلقي نزاعٌ إقليميٌّ يعود تاريخه إلى العام 1939 حين سلخ الأتراك (لواء اسكندرون) من سورية. هنا يكمن أيضاً معنى احتجاز الطائرة الإيرانية التي تحمل الأسلحة في طريقها إلى سورية.

مرّةً أخرى، تتواصل تركيا مع حزب الله وحماس، متجاهلةً مزاعم سورية (وإيران) بأنّها واسطة التواصل، وفي محاولةٍ لتعزيز مصداقيتها الإقليمية وتلميع موقفها مع السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي. دول المجلس، من جانبها، تعتبر أمراً حسناً أن تقوم أنقرة برمي سهمها من قوس طهران. وخلافاً لحالة إيران، التي ترى السعودية أنّ أهدافها تجاه حماس وحزب الله تحتسب وفق معيار كلّ خسارة يعادلها ربح، لا تستهدف جهود تركيا لدفع وضعها السياسي تهديد أو تهميش مصالح الرياض.
بالتالي، تتّسم زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إلى أنقرة بأهمّيةٍ بالغة. فقد أقلقت السعوديين الصلات المزدهرة بين أنقرة وطهران. وإذ تخشى الرياض أن تكون طهران هي المستفيد الوحيد من الاضطرابات الحالية في الشرق الأوسط، يرى السعوديون أنّ تركيا وحدها يمكن أن تكون ثقلاً موازياً لإيران في السيناريو الطارئ حيث تسود الفوضى في مصر وسياسات واشنطن في المنطقة مشوشة. لكن وفي الوقت نفسه، تحرّر السعوديون من وهم حماسة أردوغان لـ«عالميةٍ ثالثة» أصبحت بالغة التطرّف بينما في النهاية ينبغي لكلّ شيءٍ في الشرق الأوسط أن ينزلق إلى الطائفية- تركيا «سنّية» (وسلفية) وكذلك السعودية، لكن إيران «شيعية».

من الممكن تخيّل أنّ فيصل ذكّر الزعيم التركي- عاش غل في جدّة ثمانية أعوامٍ ويعرف طريقة تفكير السعوديين- أنّه وسط فورة الثورة العربية من أجل الدمقرطة، ينبغي عدم نسيان أنّ العرب فضّلوا في نهاية المطاف وعبر التاريخ العثماني البابَ العالي على الهيمنة الفارسية. لكنّ الأتراك آخر من يحتاج لهذا التذكير.

كان للعثمانيين سيطرة طائفية شاملة على مسلمي الشرق الأوسط وتلاعبوا بالاختلافات المذهبية وشجّعوا الطائفية وساندوا الأقليات بمهارة ورباطة جأش. أيّاً يكن الأمر، هنالك تبدّلٌ ملحوظٌ في المواقف التركية منذ مغادرة فيصل أنقرة وعودته إلى بلده.

مزاجٌ مترقّبٌ ومندفع
تبدو تركيا وازنةً مع الانحدار المفاجئ لنفوذ الولايات المتحدة وصورتها. يعود الشرق الأوسط إلى انقساماته التاريخية وهنالك حشدٌ ينتظر من يقوده على الرغم من رغبة إيران المعلنة في الاندفاع. كذلك تأخذ تركيا في حسابها أنّ عائدات حمل أعباء القيادة في منطقة الخليج الغنية بالنفط تفوق التصوّر- ثروةً ونفوذاً وقوّةً ومجداً. وإذا بلغت الحدود القصوى من التهوّر، قد تطمح تركيا أيضاً لتكون وسيطاً بين محمييها العرب والغرب الذي يتجاهلها.
هكذا، وبينما تتطفّل بصفاقةٍ على التحالف الإيراني السوري، تملي تركيا على دمشق الرجوع إلى السرب العربي (ببعد طائفي محدد)، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر سيتوجّه داوود أوغلو إلى المنامة «لمعاينة الوضع على الأرض» ومتابعة المشاورات التي أجراها مع السعودية ودولة الإمارات اللتين زعمتا وجود يدٍ إيرانيةٍ وراء احتجاجات البحرين.

قال داوود أوغلو: «قد يؤدّي تصاعد التوتّر في البحرين إلى تصاعد التوتّر في الخليج». وفي اختلافٍ بيّنٍ عن موقف إيران، لم تعارض تركيا التدخّل السعودي في البحرين. (عارضت ذلك بدايةً ثمّ كفّت عن ذلك).
تقدّر تركيا أيضاً تمويل دول المجلس للبحرين لمساعدتها على إجراء الإصلاحات. كذلك تشعر تركيا أنّ على دول المجلس حلّ المشكلات ضمن المنطقة، وكما قال هرموزلو، «يجب ألاّ تبحث (دول المجلس) عن حلولٍ خارج المنطقة بتفويض دولٍ قويّةٍ كمقاولين ثانويين». واجه أوغلو تحدّياً عسيراً للإبحار بين المصالح الإيرانية والسعودية في البحرين. ومن المرجّح ألاّ ترحّب طهران بمشهد الدبلوماسية التركية وهي تخوض في مسائل البيت الشعبي.
مرّةً أخرى، الموقف التركي من الوضع في اليمن (حرجٌ للغاية) قريبٌ من الموقف السعودي ويبتعد عن الموقف الإيراني. تتّفق تركيا مع السعودية على أنّ الأولوية هي إبقاء اليمن موحّداً وتفادي النزاع الطائفي. وتؤيّد تركيا تغيّراً تدريجياً فقط في القيادة اليمنية.

كم هي واقعية طموحات العثمانيين الجدد الأتراك؟
الحقيقة القاسية هي أنّه، وعلى الرغم من كلّ الجهود المتواصلة، لا تزال تركيا بعيدةً عن أن تصبح عاملاً مهيمناً في الشرق الأوسط. في المقابل، قد ينتهي نمط الترقّب التركي بتوليد القلق في المنطقة من تدخّلها في السياسات العربية- العربية.
مع ذلك، تركيا في مزاجٍ مندفع… ومعدّل نموّها الاقتصادي الذي بلغ 8.9 بالمائة في العام 2010 وناتجها المحلّي الإجمالي المذهل الذي بلغ عتبة 10 آلاف دولار للفرد، واقتناعها بمؤهّلاتها كنموذجٍ ساطعٍ للبلدان الإسلامية.
لكنّ الأتراك لا يهمّهم النظر إلى الحياة من وجهة نظر الآخر. في الذاكرة العربية، لا يتضمّن الموروث العثماني أكثر من مجموعةٍ من العادات تجاوزها الأتراك ولا شيء غير ذلك- القهوة والنرجيلة والبقشيش والخازوق.
العرب، أخوة الأتراك في الدين، مستاءون من الحقبة العثمانية. لا أحد يتحدّث التركية في العالم العربي والجميع مهتمّون بتعلّم الإنجليزية أو الفرنسية.
الوضع ببساطة: هنالك الكثير ضمن خمسة قرونٍ يصعب نسيانه. أردوغان شخصيةٌ شهيرةٌ في المنطقة، لكنّ المسألة هي هيبة السلطان الشخصية.

(قاسيون السورية)

السابق
إرتدادات ربيع العرب وشظاياه
التالي
36 سنة على 13 نيسان 1975