موازنة الإنماء والإعمار والمليارات

كل من تابع أو حضر جلسات لجنة المال والموازنة النيابية المخصصة لمساءلة وزارة المالية حول المخالفات التي كشف ديوان المحاسبة النقاب عن بعضها، استمع ملياً لمرافعة نواب «المستقبل»، الذين استساغوا لعب دور «هيئة الدفاع» عن المرحلة الحريرية.

هؤلاء لم يجدوا في أيديهم إلا أمرين يشهرونهما في وجه «المحكمة»، على أمل البراءة. الأمر الأول كان تكرار التأكيد أن المخالفات والأخطاء التي رافقت حسابات الدولة منذ العام 1993 حتى الآن، هي بحت تقنية وتعود بدايتها إلى تصفير الحسابات في ذلك العام. أما ورقة الدفاع الثانية فكانت مشروع القانون المتعلق بـ«تدقيق حسابات الإدارات العامة والمؤسسات العامة»، الذي وضعته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى وأحيل إلى مجلس النواب في 25 أيار 2006.

لم يوفر نواب «المستقبل» المدافعين عن نزاهة النهج المتبع منذ عقدين من الزمن، مناسبة وإلا وأكدوا نيتهم في الاصلاح الجدي، وإلا «كيف يمكن تفسير الدعوة إلى فتح الملفات القديمة والتدقيق بها؟».
عندها خرج رأي مخالف يعلن تخوفه من القطبة المخفية التي تضمنها المشروع، وتتركز في المادة الثالثة منه، وتنص على «الاجازة للحكومة التعاقد مع شركة دولية أو أكثر لإنجاز عملية التدقيق».
المعترضون على مشروع القانون، ومنهم رئيس لجنة المال النائب ابراهيم كنعان، الذي نشرت «السفير» ملاحظاته حول مشروع السنيورة، استغربوا كيف يمكن للحكومة، إي السلطة التي يفترض أنها تخضع للتدقيق، ستكون هي الجهة المسؤولة عن هذا التدقيق، أي أنها ستقوم بمراقبة أعمالها، فتكون المراقِب والمراقَب، وهو ما يتعارض مع كل أنظمة المحاسبة في العالم. والمعترضون تساءلوا: لماذا الاستعانة بشركات التدقيق الدولية بدل تفعيل عمل المؤسسات الرقابية الوطنية، التي أمعن الحكم على مر السنوات على شلها وإفراغها من كل مضمون؟. وكيف سيكون أداء هذه الشركات وهي المعروفة بأنها لا تُغضب زبوناً؟.

الوثيقتان اللتان حصلت «السفير» عليهما ربما تعززان وجهة النظر المشككة بالدور الذي تلعبه هذه الشركات، إلا أنهما يطرحان حكماً علامات استفهام على الهدف من وراء اصرار البعض على الاستعانة بهذه الشركات واعتبارها أنها الحل السحري لمشاكل البلد.

القصة بدأت منذ العام 1990، عندما تعاقد مجلس الانماء والاعمار مع إحدى كبرى شركات التدقيق العالمية («ديلويت أند توش»)، للتدقيق في بياناته السنوية. ومنذ ذلك الحين تقوم تلك الشركة بإعداد تقارير سنوية بمضمون شبه موحد مع تغيير في الأرقام فقط: «لقد فحصنا الميزانية العمومية لمجلس الإنماء والاعمار كما في 31/12/…. وبيان الواردات والنفقات وأرصدة الأموال المنتهية في ذلك التاريخ وفقاً لأدلة التدقيق الدولية، وذلك فيما عدا ما جاء في الفقرات التالية (تتضمن بعض الملاحظات). وقد شمل فحصنا إجراء الامتحان اللازم للقيود والسجلات الحسابية كما شمل إجراءات المراقبة الأخرى التي وجدناها مناسبة».

ويضيف التقرير السنوي: «برأينا، وفيما عدا تأثير أي تعديلات كانت قد تترتب فيما لو تمكنا من القيام بخطوات التدقيق المشار إليها في الفقرات السابقة، فإن الميزانية المشار إليها أعلاه تظهر بصورة عادلة الوضع المالي لمجلس الإنماء والاعمار كما في 31/12/…. ونتائج أعماله المنتهية في ذلك التاريخ وفقاً للأصول المحاسبية المتعارف عليها».

وفيما كانت هذه التقارير تسير بما تشتهي سفينة المجلس خلال كل السنوات السابقة للعام 2003، فإن ميزانية ذلك العام ارتطمت بجبل جليدي، جعل التشكيك أمراً مباحاً. ففي 20 كانون الاول من العام 2004، أنهت الشركة المعنية تقريرها المعتاد عن العام 2003، والذي كان كالعادة بعنوان: «تقرير مدقق الحسابات المستقل»، إلا أن المفارقة برزت بعدما تبين أن هذا التقرير لم يكن وحيداً، إذ حصلت «السفير» على نسخة من تقرير ثان يتضمن تدقيقاً لحسابات السنة نفسها ومؤرخ بالتاريخ نفسه، ولكن بعنوان مختلف «تقرير مفصل حول البيانات الحسابية». وكذلك بمضمون مختلف يتضمن رأياً مناقضاً للرأي الأول: «لقد دققنا البيانات المالية في مجلس الإنماء والاعمار، كما في 31/12/2003، وللسنة المنتهية في ذلك التاريخ وأصدرنا تقريرنا بتاريخ 20/12/2004، الذي تضمن تحفظات على بعض بنود الميزانية العمومية وبيان الواردات والنفقات وأرصدة الأموال لجهة بعض الأمور المحددة لخطوات التدقيق. لقد أجرينا تدقيقنا وفقاً للمعايير الدولية للتدقيق وقد شمل تدقيقنا، الذي قمنا به على أساس العينة والاختبار، إجراء الامتحان اللازم للقيود والسجلات الحسابية كما شمل إجراءات المراقبة الأخرى التي وجدناها مناسبة.

بناء على التدقيق المشار إليه أعلاه، وعملاً بأحكام المادة 73 من القانون رقم 326/2001، نرفع لحضرتكم هذا التقرير، مع الإشارة إلى أنه كما جاء في الفقرة الأولى أعلاه، قمنا بتدقيقنا على أساس العينة والاختبار، بمعنى أن إجراءات المراقبة التي سنأتي على ذكرها قد أجريناها على عينات اخترناها من عناصر أو مكونات الحسابات المعنية».
وفيما تضمن التقرير الأول 14 ملاحظة، أرفق بالتقرير الثاني 545 تعديلاً (أرقام خاطئة ومتناقضة بحاجة لتعديل).

ويتبين من مقارنة التقريرين أن هناك فروقات كبيرة في مالية مؤسسة، سميت ولا تزال «سوبر وزارة»، لكثرة المسؤوليات والملفات والمشاريع التي تمسكها، ومنها: إدارة القروض الخارجية، تنفيذ مشاريع البنية التحتية من طرقات ومرافئ ومياه وكهرباء ومستشفيات ومدارس وهاتف ثابت ومطارات، تلزيم معالجة النفايات، التخطيط العام والقطاعي، المنسق الوطني مع جميع المؤسسات الدولية والإقليمية والصناديق الدولية والعربية.
وتظهر هذه البيانات التي يتضمنها التقرير الثاني، على سبيل المثال، أن مجموع النفقات حسب الدفاتر في الميزانية المقدمة من المجلس للعام 2003 تبلغ نحو 618 مليار ليرة، فيما تؤكد شركة التدقيق أن النفقات الحقيقية هي 575 ملياراً أي بفارق 43 ملياراً. وفيما تشير ميزانية المجلس إلى أن فائض الاموال المتبقية نهاية العام لا يتجاوز 196 ملياراً يتبين بعد التدقيق أنها يجب أن تكون 503 مليار، أي بفارق نحو 200 مليون دولار.
ومع افتراض حسن النية، إلا أن أسئلة كبيرة تطرح وتتطلب توضيحاً من مجلس الانماء والاعمار وكذلك من شركة التدقيق التي يتعامل معها. إذ، هل يعقل أن تتضمن ميزانية إحدى أبرز المؤسسات الحكومية كل هذه الأخطاء الحسابية، وهل يعقل أن شركة التدقيق ظلت على مدى سنوات تثني على ميزانية المجلس لتكتشف في العام 2003 الحاجة إلى كل هذه التعديلات؟

وتكتفي «السفير»، في هذا الجزء، بنشر الميزانية المقدمة من المجلس للعام 2003 مع الفائض في الأرصدة والواردات والنفقات والتعد
يلات الناتجة عن تدقيقها، كما وردت في التقرير المفصل حول البيانات المالية الذي أصدره مكتب التدقيق الدولي «ديلويت أند توش» بتاريخ 20 كانون الأول 2004.

السابق
اللعبة البحرينية ومكاسب إسرائيل
التالي
إنذار باطل بتسونامي سياسي