إدمان واشنطن على الحروب … لماذا؟!!

تأسست الولايات المتحدة بالأصل من ثلاث عشرة من المستعمرات الصغيرة والضعيفة الواقعة على الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية.ثم قامت هذه الدويلات بالتوسع في جميع أنحاء القارة، وذلك بإخضاع وإبادة السكان الأصليين من الهنود الحمر، وتم انتزاع تكساس ونيوميكسيكو وكاليفورنيا من المكسيك، كما خاضت هذه المستعمرات حروباً أهلية مريرة في طريقها نحو الدولة الواحدة.

منذ أن أصبحت قوة عظمى حوالي عام 1900، خاضت أمريكا ما يقارب عشرات الحروب الحقيقية واشتركت في عدد لا يحصى من التدخلات العسكرية في جميع أنحاء العالم. رغم اعتبار الأمريكيين أنفسهم شعباً محباً للسلام واستغرابهم توصيف دولتهم على أنها "أمة حروب". وكان /تيدي روزفلت/الرئيس الأمريكي الأول الذي بدأ بعرض الحرب على أنها نشاط ينبغي الترحيب به، وقدم الأمر بالشكل التالي:"إن حرباً عادلة على المدى الطويل أفضل بكثير من السلام الأكثر ازدهاراً"، ونتيجة ذلك فقد صور الرؤساء اللاحقون لأنفسهم أن الذهاب للحرب،مع تردد كبير،هو الخيار الأمثل لهم.

في عام 2008 انتخب الأمريكيون /باراك أوباما/ لاعتقادهم بأنه سيكون مختلفاً عن الرئيس السابق /جورج دبليو بوش/ بشأن مجموعة كبيرة من القضايا، وبصفة خاصة في نهجه لاستخدام القوة المسلحة، بعد أن اتضح للجميع تقريباً أن بوش قد شن حرباً حمقاء وغير ضرورية على العراق، ثم بعد ذلك تفاقم خطأه بسوء إدارته لها (والحرب على أفغانستان أيضاً). وهكذا فقد اختار الأمريكيون المرشح الذي عارض حرب بوش على العراق والذي بإمكانه أن يحدد التزامات الولايات المتحدة مرة أخرى لتتناسب مع مواردها. وعلاوة على ذلك كله، اعتقد الأمريكيون أنه بإمكان أوباما أن يكون أكثر دراية حول مكان وكيفية استخدام القوة، وأن يفهم أدق تفاصيل أدوات السياسة. من جانبها يبدو أن لجنة جائزة نوبل النرويجية قد فكرت كثيراً، عندما منحته جائزة نوبل للسلام لا لشيء قام به، ولكن أملاً في ما سيقوم به.

لكن بعد مرور عامين فقط، وجد الأمريكيون أنفسهم في حرب جديدة. فمنذ توليه منصبه، صعّد أوباما من التورط الأمريكي في أفغانستان وشن حرباً جديدة على ليبيا، وذلك بحجة إنقاذ عشرات الآلاف من الليبيين الأبرياء الذين يذبحون في بنغازي وغيرها. ويبقى لنا أن نرى ما إذا كانت هذه الحرب ستؤتي ثمارها أم لا، وما إذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها سوف ينقذون الأرواح أو يهدرونها. لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: لماذا يستمر كل هذا في الحدوث؟ ولماذا يفعل العديد من الرؤساء الأشياء ذاتها؟ وكيف يمكن لجمهور الناخبين، الذي بدا يائساً من الحرب في 2008، أن يشاهد بسلبية تصعيد الحرب في 2009 وشن حرب أخرى في 2011؟ وكيف لاثنين من الأحزاب السياسية، التي تتصارع دائماً على كل قرش من ميزانية
الحكومة، أن يجلسا بلا مبالاة ليشاهدا الرئيس وهو ينفق حوالي اموالا طاءلة في هذه المغامرة ؟فما الذي يجري هنا؟ ولماذا تبقى أمريكا تخوض حروباً حمقاء؟
أولاً: لأنها قادرة على ذلك

السبب الأكثر وضوحاً هو حقيقة أن الولايات المتحدة تمتلك جيشاً قوياً بشكل ملحوظ خاصة عندما يواجه قوة بسيطة مثل ليبيا، فعندما يكون لديك المئات من الطائرات والقنابل الذكية وصواريخ كروز، يصبح العالم كله مجرد هدف محدد تصوب عليه، حتى عندما توجد بعض المشاكل الطفيفة في مكان ما من العالم، فإنه من الصعب مقاومة إغراء أن تستخدم ما لديك من قوة هائلة. وكأن لدى الرئيس "زراً أحمر كبيراً" على مكتبه، ثم يأتي مساعدوه ويقولون:"سيدي الرئيس هناك شيء مؤسف يحدث لهؤلاء التعساء ولكن إذا ضغطت على هذا الزر، يمكنك أن توقف ذلك. وقد يكلف ذلك بضع مئات من ملايين الدولارات وربما حتى بضعة مليارات. وطالما لم تقم بإرسال قوات أرضية ، فالرأي العام يتماشى معنا على الأقل لبرهة قصيرة وليس هناك خطر من أن أي شخص سوف ينتقم منا-على الأقل ليس في أي وقت قريب-لأن المتمردين هم أيضاً ضعفاء جداً. ومصالحنا الحيوية ليست في خطر يا سيدي، فلا يتوجب عليك أن تفعل شيئاً. لكن إذا لم تقم بالضغط على ذلك "الزر" فإن الكثيرين من الأبرياء سيموتون والخيار لك سيدي الرئيس".

بالطبع ومثل أسلافه، يبرر أوباما لجوءه إلى القوة متذرعاً بمكانة أمريكا الخاصة في العالم في خطابه المعتاد عن "الاستثنائية الأمريكية" التي صاغها بالنسبة للقيم الأمريكية والتزامها بالحرية!! لكن الشيء الاستثنائي الحقيقي حول أمريكا اليوم ليس قيمتها (وبالتأكيد ليس بنيتها التحتية المذهلة أو المعايير التعليمية العالية أو ارتفاع ازدهار الطبقة الوسطى وغيرها) بل هو تركيز القوة العسكرية في أيدي الرئيس، والقيود السياسية الآخذة بالتآكل حول قدرته منفرداً على شن عدوان في أي وقت يحب.

ثانياً: "ليس لدى أمريكا أعداء
خطرون"
العامل الثاني الذي يسمح لواشنطن بالاستمرار في شن هذه الحروب الإختيارية هو حقيقة أن نهاية الحرب الباردة تركت الولايات المتحدة في وضع آمن بشكل ملحوظ، فلا توجد قوى عظمى في نصف الكرة الغربي أو الشرقي حتى! أي ليس لدى الأمريكيين "منافسون أقران" في أي مكان (على الرغم من أن الصين ستصبح قوة عظمى إذا واصلت أمريكا هدر قوتها) وليست هناك دولة في أي مكان يمكن أن تقبل بفكرة مهاجمة أمريكا من دون أن تفكر بالأمر على أنه دعوة لتدمير نفسها. والأمريكيون لا يواجهون مشكلة الإرهاب ولكن ربما هناك مبالغة في هذا الخطر وهو ردة فعلهم على الميل الدائم لحكومتهم للتدخل في شؤون البلدان الأخرى، ولأن الوطن الأمريكي في مأمن من الأخطار الخارجية الخطيرة (وهذا شيء جيد بالنسبة لهم) فهم يملكون ترف الذهاب إلى الخارج "للبحث عن الوحوش لتدميرها". إذا كان الأمريكيون حقاً قلقين حول الحاجة إلى الدفاع عن أرضهم الخاصة ضد خصم قوي، لما توجب عليهم إضاعة الوقت والمال على مشاريع مثل "الحملة الصليبية" ضد ليبيا، لكن موقفهم الجيوسياسي المفضل للغاية يتيح لهم أن يفعلوا هذه الأشياء، حتى عندما لا يكون لها الكثير من المعاني الاستراتيجية.

ثالثاً: سوء إدارة المؤسسة
السياسية
يهيمن على فكر السياسة الخارجية في واشنطن المحافظون الجدد (الذين أعلنوا بصراحة الحاجة إلى تصدير "الحرية" وألا يقوموا بحرب لا تروق لهم أبداً) أو "المتدخلون الليبراليون" المتحمسون حول استخدام القوة لحل المشاكل بالإضافة إلى إمكانية فبركة نوع من الغطاء متعدد الوظائف لذلك. وهؤلاء يسلمون بأنه ليس بإمكان الولايات المتحدة أن تحل كل مشكلة، على الأقل ليس في الوقت نفسه) لكنهم ما زالوا يعتقدون بأن أمريكا هي أمة "لا يمكن الاستغناء عنها" ويريدون منها أن تحل ما يمكنها من المشاكل في العالم. ويتم تطوير وتصدير والدفاع عن وجهات النظر العالمية هذه عن طريق شبكة من مراكز البحوث واللجان ومدارس السياسة العامة والوكالات الحكومية التي لا تنفق دائماً على ما ينبغي القيام به (أو المشاكل التي تستحق الأولوية أكثر) لكن ذلك جميعه ملتزم بمبدأ استخدام القوة الأمريكية كثيراً. وباختصار فإن شكل السياسة الأمريكية الخارجية يوضع من قبل فئة من الحزبيين الذين يقضون سنوات خارج السلطة، محاولين الوصول إليها وعندما يصلون يقومون بقضاء وقتهم في المكاتب، محاولين التقدم بمشاريعهم الخاصة عن طريق الحروب الخارجية.

منذ منتصف الستينيات تشن المجموعة المحافظة الأمريكية حملة ناجحة لا هوادة فيها لإقناع الناخبين في الولايات المتحدة بعدم الإسراف في دفع الضرائب لدعم البرامج المحلية هنا في الداخل، لكن وفي إطار واجبهم الوطني يجب دفع الضرائب ليتم دعم المؤسسة العسكرية التي تكلف أكثر من كل جيوش العالم الأخرى مجتمعة، وهذا ليس للدفاع عن الأراضي الأمريكية ولكن لخوض الحروب في الغالب باسم أشخاص آخرين. وبعبارة أخرى، أصبح الأمريكيون على قناعة أنه من الخطأ أن تنفق عائدات الضرائب على الأمور التي من شأنها مساعدة المواطنين (مثل المدارس الجديدة والرعاية الصحية والطرق والجسور والسكك الحديدية وغيرها). ولا يبدو أن هناك آلية فعالة لإجبار الرئيس على مواجهة الواقع والمبادلات بين الأموال التي تنفق على الحروب الاختيارية والبرامج المحلية التي لا بد في نهاية المطاف من خفضها في أمريكا.

تمنح سلطة إعلان الحرب إلى الكونغرس، وليس للرئيس، لكن تلك السلطة قد نزعت بشكل ثابت منذ الحرب العالمية الثانية. على الرغم من أن الدستور لا يمكن أن يكون أكثر وضوحاً حول هذه النقطة، فالرؤساء الحديثون يشعرون بوضوح بعدم وجود قيود حول أمر القوات الأمريكية بالهجوم على دول أخرى، أو حتى إبلاغ الكونغرس بشكل كامل عما يمكننا فعله في السر. وعملياً فإن نظام "الضوابط والتوازنات" المنصوص عليه في الدستور الأمريكي ببساطة لن يعمل بعد الآن، مما يعني أنه تم ترك استخدام القوة العسكرية الأمريكية فقط إلى الرؤساء وحفنة من المستشارين الطموحين.

ليس لدينا شك بأن أحدنا يمكن أن يضيف المزيد من الأسباب إلى هذه القائمة، على سبيل المثال: الصحافة السلبية والمجمع الصناعي العسكري وغيره. لكن الأسباب التي لوحظت بالفعل تحتاج لأن تقطع شوطاً طويلاً لشرح لماذا الولايات المتحدة التي تزعم أنها محبة للسلام مستمرة في الزج بنفسها في هذه الحروب التي تستنزف ثرواتها!!!
(ترجمة ياسر البشير- البعث السورية)

السابق
الحياة: الخلاف على الأسماء والحقائب “يهز” الاتفاق على صيغة الحكومة العتيدة
التالي
الاشتباه بجذع شجرة في منزل أحد العملاء!