حـل العقـدة الحكوميـة بالمستقلّيـن وبالشبـاب

لعلّ العقبة الأبرز في طريق تأليف الحكومة، إذا صحّ ما يشاع إعلامياً، هو المطالبة بالثلث المعطل أو الضامن في جهتين مختلفتين؛ وهي مطالبة منطقية نسبياً: فكتلة التغيير والإصلاح ذات حضور نيابي وازن يجيز لها، بعد رفض المعارضة الجديدة المشاركة في الحكومة، المطالبة بنسبة من الوزراء موازِنة لحضورها النيابيّ، بصرف النظر عن دقة حساباتها أو احتمال المبالغة فيها، وبصرفه أيضاً عن خطورة تمتّع فريق واحد بحقّ تعطيل قرارات الحكومة (الحقيقة أن هذا الحقّ يتمتع به فرقاء آخرون أيضاً). كما أنّ الخوف من تفرد الأكثرية الجديدة بالقرار ووقوع البلد في شبه ما وقع فيه في عهد الحكومات الحريرية، ووعد المعارضة السابقة، في حال حصولها على الغالبية النيابية، بمعاملة المعارضة اللاحقة بمثل ما عوملت هي به عند تأليف حكومة الوفاق الوطني، كل ذلك يجيز الاقتراح بتكوين ثلث معطل من وزراء رئيسي الجمهورية والحكومة وجبهة النضال الوطني، وإن لم يكن الثلث المعارض في الحكومة السابقة معطلاً ولا ضامناً، بل متمتعاً بثلث أصوات الحكومة فحسب، ولولا انحياز النائب وليد جنبلاط إليه لما سقطت الحكومة؛ كما أنّ الإلحاح على حقّ رئيس الجمهورية في إدخال موالين له إلى مجلس الوزراء بدعة تبعد عنه صفة الحَكَم بين السلطات، وتجعله عرضة لسهام النقد عند وقوع وزرائه في الخطأ أو في ما هو أكبر منه، وتُجرِّد المادة الدستورية التي تنفي عنه أي تبعة عند قيامه بوظيفته من المعنى، وتوجب إلغاءها.

المطالبة الممتنعة
لكن هذه المطالبة، وربما مطالبات أخرى أقل أهمية، تؤدي إلى شيء من الامتناع، حتى لا نقول الاستحالة. فإذا تمتعت كتلة التغيير والإصلاح بالثلث المعطل، وتمتع وزراء الرئيسين ووزاء جبهة النضال بمثل ذلك، بقي لسائر الحكومة أقل من ثلث الوزراء، وهذا أمر لا يستقيم. ولا بد إذن من صرف النظر عن التعطيل أو الضامنية. إن نظرية الثلث المعطل نظرية استثنائية أملاها الخطأ القاتل الذي ارتكبته حكومة السنيورة في 5 أيار المشؤوم، وأدى إلى شبه حرب أهلية، وقضى بعقد اتفاق الدوحة، ثم بنشوء حكومة تسوية، ولا أقول وفاقاً وطنياً. أي أن تلك النظرية نظرية ظرفية احترازية ترمي إلى تحاشي مثل ذلك الخطأ، وإلى تجنيب البلد أي فتنة. أما وقد انتقضت تلك التسوية وتفرق العشاق الألداء، فقد صار من المنطقي العودة إلى المتعارف، والمعمول به في حكومات العالم، وهو وحدة التكوين الحكومي وانسجامه وتكامل عناصره، بحيث لا يكون فيه فريقان: واحد غالب، وثان كابح.

عنصر المستقلين الأغلبيّ والمعدِّل
والعلة في طالبَيْ الثلث المعطل تجاهلهما للعنصر المعدِّل، إذا صحّ التعبير، أي الذي يؤدّي حضوره في الحكومة إلى التوازن ومنع الصدام، وهو عنصر المستقلّين. إن هذا العنصر كائن في أضخم جمهور لبنانيّ، وقد لا يستقيم أمر الحكومة الموعودة بغير إشراكه فيها، والنائب نجيب ميقاتي رُشح لرئاسة الحكومة أصلاً بوصفه مستقلاً، وإن كان في استقلاله خلاف. وربما صحّ الزعم أن المستقلّين هم أضخم جمهور في لبنان. فجمهور «المستقبل» مثلاً لا يتجاوز ثلث السُنّة (وعذراً للوصف المذهبي الذي لا يمكن تجاهله في هذا النظام الطائفي)، ويبقى الثلثان الآخران مستقلَيْن في أكثرهما؛ وربّما صحّ الحساب نفسه في الموارنة، وبنسبة أقل في الشيعة. فبدل البحث عن الثلث المعطل أو الضامن، في هذه الجهة أو تلك، ليدخلْ الحكومة مستقلّون غير معادين للغالبية الجديدة، وغير متأثرين بالغالبية القديمة. وهذا الدخول يعضد الحكومة ويمنحها تأييد الغالبية النيابية والشعبية المطلقة في وقت معاً، وقد يهدّئ من مخاوف المعارضة الجديدة، ويجعل محاربتها للحكومة بغير وجه حق أمراً صعباً، حتى إذا حصلت تلك المحاربة ارتدّت على أهلها.

إشراك الشباب غير الطائفيّ
ولا بأس من أن تُشرَك في الحكومة، ولو بنسبة رمزية، تلك الحركة الشبابية المباركة الداعية إلى سقوط النظام الطائفيّ، شرط أن يكون المختارون منها مستقلّين حقاً لا ادّعاء. صحيح أن الاختلاف وَسَم هذه الحركة فبدت هدفاً للنقد، ولا سيما من قبل أنصار الطائفية السياسية، لكن الاختلاف ليس مأخذاً عليها، بل دليل على حرية التفكير والتعبير وتنوّعهما، وربما انتفاء الانتماء الحزبيّ. إن المريض يشكو ويئن، وقد يزعم أن وراء مرضه هذه العلة أو تلك، وأن ما ينفعه هو هذا الدواء أو ذاك، وليس على الطبيب الذي يسمعه أن يسخر منه، أو يرفض عيادته، إذا تبين له أنّه مخطئ في تقدير العلة أو في تسمية الدواء، بل عليه أن يصوّب رأيه، وأن يعالجه بالطريقة العلمية الناجعة. حسبهم أنهم صرخوا من علة الطائفية، وأكدوا أنها علة، على حين أن غيرهم اعتبرها دواء وضرورة، أو اعتبرها، إذا استحى، علة ليس الآن وقت معالجتها. وما أغبى المريض الذي يكذب على ذاته، أو الذي يخدع الطبيب لحاجة في نفسه.
وصحيح أيضاً أن الساسة دسوا بين المتظاهرين من يدّعون دعواهم حتى كادوا يختصرون إسقاط النظام الطائفيّ بالزواج المدني، وأنهم بدل أن يعالجوا قلب النظام ورأسه، حاولوا أن يبدأوا بمعالجة شيء آخر صلته بالسياسة واهية. لكنّ هذه الظاهرة طبيعية ولا تخدع إلا قليلي المعرفة.

وصحيح أن بعض المخلصين توهموا، وبعض المتذاكين حاولوا الإيهام، بأن المطالبة بإسقاط النظام الطائفي تعني المطالبة بالعلمانية، مع أن النظام اللبناني علماني. لكنّ مصطلحي العلمانية وإلغاء الطائفية يختلطان على كثير من الناس، ومن واجب المفكرين المنهجيين رفع ذلك اللبس، بما يكتبونه ويقولونه.

هذا الموقف ليس رفضاً للزواج المدني الاختياري، فذلك الزواج حقّ لمن يريده بمقتضى الحريات العامة، ولا سيما حرية المعتقد، التي يكفلها الدستور اللبناني، وتكفلها المواثيق الدولية التي وقعها لبنان وشارك في صوغ بعضها. لكن الزواج المدني لا يحل مشــكلة النظام الطــائفي، لأنه أمــر شخصي، ولذلك نسبوه إلى الأحوال الشخصية.

مشكلة الطائفيين المتذاكين
ومن الطبيعي إلاّ يكون أي منا معادياً للعلمانية، وهو يعيش في ظل نظام علماني، لكن المشكلة أن الداعين إلى العلمانية من الساسة يعرفون الواقع العلماني للنظام اللبناني: يقرأونه في الدستور وفي القوانين، ويسمعونه من المفكرين، عبر الوسائل الإعلامية والثقافية المختلفة، وهم مع ذلك يتجاهلون وجوده، ويحاولون استغباء الناس بالمطالبة بالعلمانية أو بالزواج المدني كلما طُرح موضوع الطائفية السياسية. وكثيرون سمعوا إحدى المشاركات في المظاهرات المعادية للنظام الطائفي وهي تطالب بإشراك المهاجرين في الانتخابات، فتساءلوا: ما صلة ذلك بالنظام الطائفي، بل أليس ذلك مطلباً طائفياً؟ قد تكون الصبيّة بريئة في مطلبها، ولكن غير البريء هو من أوحى لها ما قالت.

والأنكى من ذلك كله أن الساسة الطائفيين الذين يعلنون، بطريقة غير مباشرة، تسفيههم للدستور اللبناني وخرقَه بلا خجل، وذلك برفضهم تطبيق مادته الخامسة والتسعين القاضية بإنشاء هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية لدراسة الطرق (ولنضع خطاً تحت العبارة الأخيرة) الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية، هؤلاء الساسة ينصّبون أنفسهم أولياء على الوطن ومدافعين عنه بإزاء تلك الهيئة المريبة، ويقترحون طرقاً تمهيدية لإلغاء الطائفية السياسية، وكأن عيال الطائفية هم أقدر الناس على محاربتها، وكأن الدستور نص على أن تكون الهيئة المشار إليها مجموعة من الجهلة والمتعصبين والفاسدين، لا من الرؤساء الثلاثة ولا من «شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية»!

إن اندساس أولئك الساسة أو أتباعهم في المظاهرات ومحاولة تشويه معناها الثوري الحقيقي، وإن تعدّد الشعارات التي أطلقت في تلك المظاهرات، كل ذلك لا يشينها، بل يؤكد ضرورة قيام الهيئة الوطنية لدراسة إلغاء الطائفية السياسية، فتبحث في مطالب أولئك الشباب وغيرهم بحثاً علمياً جدياً، وتقدم الاقتراحات بشأنها. وفي ذلك الحين يكون إشراك الشباب اللاطائفيين في الحكومة دليلاً على الاعتراف بهم، وبصحة مطلبهم العامّ، وطريقاً إلى سماع صوت الأجيال الصاعدة في أروقة الحكم، وربما كانت هذه الأصوات عاملاً على زيادة الدم النقي في أوردة الدولة، وعلى التغلب على الدم الفاسد المملوء كحولاً ومخدرات الذي يعرض لبنان لفقدان المناعة. فهل يفعلها نجــيب ميقاتي ويأتي بأكثر من ربع الحكومة من المستقلّين، على أن يكون بينهم ولو واحــد من الشباب المتظاهرين على النظام الطائفيّ، فيـــجدد دم الحكــم ويتحــاشى المطالبة بالثلث الضامن أو المعطل من أي طرف أتت؟

السابق
4 جرحى في حادث سير مع اليونيفل
التالي
كي لا يسقط “النظام الطائفي” في أحضان الطائفيين