الراي : لبنان يرقص فوق حبل السرّة السوري

عندما قرر «حزب الله» (الشيعي) اقصاء الزعيم السني الأبرز عن السلطة، ومن الموقع السني الاول في البلاد، كان يدرك ان هذه «الخطوة الاستراتيجية» التي يمليها الصراع في لبنان وعليه من شأنها القفز الى واقع مجهول باقي الهوية.
لم يكن «حزب الله» الذي استخدم فائض قوته في المعادلة الداخلية والاقليمية بـ «قلب الطاولة»، يملك «خريطة طريق» واضحة لما بعد قراره بـ «اجتثاث الحريرية» من السلطة، وكان يميل في حينه الى التعاطي مع كل خطوة بما يلائمها.
خصوم «حزب الله» ادركوا بدورهم ومنذ اللحظة الاولى لانقلابه السياسي ـ الدستوري ان اندفاعته تتجاوز تحوطه من القرار الاتهامي في جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وتهدف الى امساكه بالقرار السياسي والاستراتيجي للبنان و«دولته».

ورأى خصوم الحزب يومها ان قلب الأكثرية البرلمانية من مكان الى آخر نقل لبنان من ضفة الى اخرى، وصار جزءاً من محور «الممانعة» الذي يشكل «حزب الله» رأس حربته، وهو الممتد من طهران الى دمشق، مروراً ببغداد وأمكنة اخرى في المنطقة.

غير ان بعض طلائع هذه الاندفاعة لـ «حزب الله» في لبنان باسقاط حكومة سعد الحريري وبين السعي لـ «تتويج» نتائجها بتشكيل حكومة بديلة برئاسة نجيب ميقاتي، انفجرت ساحات عربية على نحو مباغت وكرت السبحة من تونس الى مصر فليبيا واليمن والبحرين ومن ثم سورية.
بعد هذه الثورات التاريخية المتدحرجة و«مفارقاتها» غير المتشابهة، لم يعد الوضع في عموم المنطقة كما كان قبلها، ولبنان الذي غالباً ما كان الساحة الاكثر حساسية في اختبار التحولات من حوله هو الآن في قلب ارتدادات الواقع الجديد وحساباته المستجدة

وفي عملية رصد «أولية» للتداعيات على لبنان، تميل الدوائر المراقبة الى لفت الانتباه الى أمرين، هما:
* انفجار الصراع العربي ـ الايراني على نحو غير مسبوق مع دخول قوات «درع الجزيرة» الى البحرين والاعلان عن نتائج التحقيق في شبكات التجسس الايرانية في الكويت، وتبادل الحملات الاعلامية «الحامية» بين طهران والرياض، الامر الذي ينعكس «تلقائياً» على الوضع في لبنان، الذي شهد صراعاً «مبكراً» اسمه الحركي الصراع بين محوري الاعتدال (العربي) والممانعة (ايران وسورية).
* بلوغ تسونامي الثورات الشعبية سورية عبر الاحتجاجات، التي لم تلجمها الوعود الاصلاحية للنظام ولم يحد من وهجها الكلام عن وجود «مؤامرة» خارجية، ما جعل نظام الرئيس بشار الاسد امام تحديات فعلية لا يمكن تقدير نتائجها، رغم الانطباع عن ان الخارج والداخل منحا الرئيس الاسد «فترة سماح» لترجمة الأقوال بالأفعال وضمان الاستجابة لمقتضيات التغيير بطرق سلمية ومن دون ابطاء.

ومع انتقال سورية الى «عين العاصفة» اصبحت العين على لبنان المقيم في منتصف الطريق بين انقلاب سياسي لم يكتمل، وانقلاب اقليمي في ذروة نشاطه، وهو الامر الذي يفسر وقائعه السياسية الحالية، وأبرزها:
* عجز «السلطة الجديدة» التي يتقدمها «حزب الله» عن تشكيل حكومة مضى على مخاض تأليفها نحو شهرين ونصف الشهر، ولأسباب تتجاوز الخلافات التقليدية على المكاسب. فثمة اعتقاد في بيروت ان الصراع يدور حول «الامرة» في الحكومة وعلى «لمن القرار»، اضافة الى كم هائل من الارباكات المتصلة بارتدادات الواقع الجديد في المنطقة.

* دفع زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، الذي يقوم اليوم بأول زيارة لمصر بعد سقوط الرئيس حسني مبارك، بالمعركة الى مداها الاقليمي عبر «فتح النار» على الدور الايراني في العالم العربي، على النحو الذي يلاقي الموقف العربي العام المستجد من ايران، ويخطو الى الامام في المواجهة مع «حزب الله»، الذي كان سارع للرد على الحريري، الذي كان اعلن رفض تحويل لبنان «محمية ايرانية».
بلوغ هذا الصراع المتماوج على وقع الاحتجاج العربي على دور ايران والاحتجاجات في سورية يجعل الوضع في لبنان مفتوحاً على تطورات «غامضة» يصعب استشرافها قبل انقشاع مصير النظام في سورية، ان لجهة قدرته على احتواء الاحتجاجات المتعاظمة وان لجهة سقوطه المريح او المريع، خصوصاً وانه يشكل «حبل السرة» في ارتباطة لبنان الاقليمية.

وفي معنى آخر ثمة من يعتقد بان لبنان سيكون اسير السيناريوات التي يعتمدها النظام في سورية في التعاطي مع التحديات التي تواجهه، وهو ما يجعله مرشحاً لاحتمالات مفتوحة، أقلها حفظ الحد الأدنى من تماسكه وأكثرها اثارة الذهاب الى الحرب.
وفي ظل هذا الوضع، كان منسوب التوتر ارتفع الى درجات غير مسبوقة بين «حزب الله» و«المستقبل» على خلفية تنديد الرئيس الحريري «بالتدخل الايراني السافر في الداخل العربي»، وتشديده على انّ لبنان ودول الخليج «لن ترضى بان تكون محمية ايرانية» ومتهماً طهران بـ «الخطف المتدرج للمجتمعات العربية»، وذلك غداة الهجوم الاول من نوعه الذي شنّه رئيس حكومة تصريف الأعمال «بالاسم» على سلاح «حزب الله» كما على مواقفه «غير المسؤولة» من قضية البحرين و«السياسات الخرقاء التي اعتُمدت خارج الدولة» بازاء ملف ساحل العاج والتي غمز فيها من قناة رئيس البرلمان نبيه بري.

فقد خرج «حزب الله» عن صمته في بيانين متلاحقين اصدرهما ليل الخميس، وردّ فيه عبر الاول على موضوع معالجة ملف اللبنانيين في ساحل العاج، فوصف كلام الحريري في هذا الاطار بانه «محاولة بائسة للتنصل من المسؤوليات الملقاة على عاتقه بوصفه رئيساً لحكومة تصريف الأعمال، وهو الذي أدار ظهره بالكامل لهذه القضية الوطنية (ساحل العاج) ثم قام بتحرك لرفع العتب بعد تفاقم الأمور»، متهماً اياه بـ «استغلال آلام أبناء الجالية في المزايدات الداخلية، وهذا ما يؤكد اعتماد هذا الفريق على الكيدية».

اما في البيان الثاني فردّ «حزب الله» على كلام الحريري الذي تناول ايران، فاعتبر ان هذه المواقف «تحريضية ضد الجمهورية الاسلامية في ايران وهي ترجمة أمينة لما سمعناه من مواقف أخيرة لوزير الحرب الأميركي روبرت غيتس من الرياض حول الدور الايراني في المنطقة». ولفت الى انها «تأتي في سياق محاولة مكشوفة للتعمية على التدخلات الأميركية في شؤون المنطقة ومصادرة ارادة شعوبها التواقة للحرية وللتخلص من الهيمنة الأميركية ولحرف الانظار عن تمادي العدو في ممارساته ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وسعيه الدؤوب لتهويد القدس».

واضاف الحزب «ان مواقف الحريري لا تمت الى موقع لبنان ودوره ومصالحه، انما تنسجم مع أهداف المخطط الأميركي لبث التفرقة والفتن بين دول وشعوب المنطقة، وتحوير الصراع عن وجهته الأصلية مع العدو الاسرائيلي خدمة للمشروع الأميركي الذي بدأ يتهاوى منذ هزيمة جيش العدو في يوليو 2006 التي كشفت وثائق «ويكيليكس» حجم رهانات الحريري على تلك الحرب لجعل لبنان محمية أميركية ـ اسرائيلية».
ولم يتأخّر ردّ تيار «المستقبل» على ردّ «حزب الله» اذ أصدر بياناً شكر

فيه الحزب «على بيانه الذي يثبت لجميع اللبنانيين ان هذا الحزب هو الناطق الرسمي باسم ايران في لبنان، اذ ان ما استثاره ليس كلام أي من اللبنانيين بشأن سلاح «حزب الله» ودوره في الاعتداء على الدستور والقانون وعلى أمن اللبنانيين واستقرارهم، انما ما استثار هذا الحزب هو كلام موجه للقيادة الايرانية».

اضاف: «بغض النظر عن ان «حزب الله» لم يفاجئ أحدا حين عاد ليختبئ خلف غشاوة التخوين بدل الاستماع الى ما تقوله أكثرية العرب وأكثرية اللبنانيين اليوم، فان أكثر ما يثير اعجابنا هو استناد الحزب المعادي لأميركا والتي يصفها بكل الموبقات، الى وثائق أميركية مسربة باعتبار انها مقدسة. ولا يسعنا في هذا المجال سوى احالته الى بيان حليفته حركة «أمل» في هذا المجال».
وفي السياق نفسه، اعتبر الامين العام لتيار «المستقبل» احمد الحريري «ان لبنان لن يكون ساحة ايرانية او منبراً ايرانياً لتهديد العرب في امنهم واستقرارهم»، مشددا على «ان هناك من اللبنانيين لا يعرفون ان كل فائض قوة سيذهب مع رياح التغيير التي بدأت في لبنان وانتشرت في كل البلدان».

في هذه الأثناء كان لافتاً دخول الرئيس نجيب ميقاتي على خط سجال «حزب الله» ـ «المستقبل» موجّهاً انتقاداً غير مباشر للحريري على خلفية مواقفه، اذ اعلن من طرابلس «اننا أمام فرصة جدية للاستفادة من الظروف في المنطقة العربية لتأتي الانعكاسات ايجابية على لبنان، لكن ذلك يستدعي من كل القوى السياسية على اختلافها تهدئة الخطاب السياسي وتفادي الانزلاق الى ما يؤجج التوتر أو محاولة استثمار شعارات سياسية لا أرى انها تخدم لبنان أو تفيد أبناءه الى أي فئة أو حزب أو تيار أو تجمع انتموا، فضلا عن انها تؤذي اللبنانيين لانها تقحمهم في خلافات مع دول شقيقة وصديقة وقفت الى جانب لبنان ومساعدة ابنائه في ظروف قاسية مر بها وطنهم». اضاف: «وفي هذا السياق أرى ان من غير المفيد اعلان مواقف من مسؤولين لا تعكس موقفا لبنانيا واحدا ولا تعبّر فعلا عن ارادة لبنانية جامعة، خصوصا اذا كانت هذه المواقف التي تعلن اليوم تختلف عما سبق ان أعلنه المسؤولون انفسهم في مناسبات سابقة، وليست بالتالي موقف الدولة اللبنانية».
وفي الملف الحكومي، اعلن ميقاتي «ان المشاورات تسير بخطى وطيدة نحو انجاز التشكيلة التي ينتظرها اللبنانيون»، موضحاً ان «الاتصالات حققت تقدماً مهماً وهي تجري في أجواء ايجابية، وكل الاطراف يدركون ضرورة الاسراع في تشكيل الحكومة وفق القواعد الدستورية وعلى أساس تمثيل القوى السياسية والكفاءات لتكون الحكومة منسجمة وقادرة على القيام بالعمل المطلوب».

وعن شكل الحكومة والتوازن فيها قال: «ان مقاربتي للتشكيلة الحكومية لا تنطلق من الاعداد والحصص بل من وجوب الاطلالة على اللبنانيين بحكومة تضم أفضل الكفاءات والخبرات من كل التوجهات السياسية»، مضيفاً: «ان ما يتم تداوله في وسائل الاعلام من صيغ حكومية وتحليلات للتوازنات داخل الحكومة غير دقيق، لان منطلقات تشكيل الحكومة لا تقوم على المحاصصات الضيقة وانما تستند بشكل رئيسي الى احترام القواعد الدستورية التي يجب العودة الى التزام نصوصها لانها تشكل صمام الامان الذي يحمي كل مكونات الشعب اللبناني ويحافظ على الاستقرار الذي أطلقه اتفاق الطائف».

وكانت «بورصة» المفاوضات المتعلقة بتشكيل الحكومة تحدثّت عن صيغتين رئيسيتين يجري التفاهم على احدهما كصيغة ليتم اسقاط الاسماء على الحقائب من ضمنها وهما:
* تقسيم الحكومة العتيدة الثلاثينية على طريقة الثلاث عشرات اي عشرة وزراء للعماد ميشال عون و«المردة» و«الطاشناق» من دون النائب طلال ارسلان، وعشرة وزراء للرئيس ميشال سليمان والرئيس نجيب ميقاتي والنائب وليد جنبلاط وعشرة وزراء للأكثرية الجديدة من ضمنها «حزب الله» و«امل». وهذه الصيغة تعني ان «حزب الله» وحلفاءه المباشرين حصلوا على الثلثين «الصريحيْن» في الحكومة بما يخوّلهما امرار كل القرارات من دون استثناء.
* تقسيم الحكومة على طريقة 19 لتحالف عون ـ «حزب الله» ـ المعارضة السنية، و11 للرئيسين سليمان وميقاتي والنائب جنبلاط، على ان تكون لعون من ضمن الـ 19 وزيراً حصة من 10 وزراء مع وجود «وزير ملك» في وزارة الداخلية يكون «الجنرال» وافق على تسميته. وهذا يعني اذا صح ان رئيس الجمهورية خسر الوزير زياد بارود في الداخلية وان «الجنرال» حصل على الثلث زائد واحد «مقنّعاً» من خلال الوزير الـ 11 المضمر.
ويذكر ان معلومات كانت اشارت الى انه تم تذليل عقدة توزير المعارضة السنّية في الحكومة العتيدة على قاعدة ان يختار الرئيس عمر كرامي شخصية شمالية قريبة منه (من خارج طرابلس) عوض نجله فيصل الذي لا يمكن لميقاتي السير به مراعاة لحليفه النائب احمد كرامي الذي وقف معه «على الحلوة والمُرة».

على انه في غمرة هذه الصيغ وعلى وقع اعلان الوزير غازي العريضي الذي تولى التفاوض باسم جنبلاط في الملف الحكومي انه «تمّ الاتفاق على صيغة حكومية، والنقاش بدأ في الساعات القليلة الماضية حول الحقائب والأسماء بين المعنيين»، برز موقف للعماد عون اشار فيه الى ان «على رئيس الحكومة المكلف ان يقبل المخاطرة أو يستقيل»، مشيرا الى «ان اسباباً كثيرة معلنة حول تأخير تشكيل الحكومة، انما التأخير الحقيقي سيتمحور حول انتظار أحداث معيّنة خارجية»، ومشيراً الى «ان كل العالم «يتمرجل» على لبنان، ولكن هذا الوطن هو الذي سيلوي الذراع الاميركية في المنطقة».

وعلى وقع هذه التطورات، بقي ملف سجن رومية المركزي في واجهة الاهتمام، مع احتواء التمرد داخله وبدء مرحلة ازالة آثار «الاعصار» الذي ضربه والذي جعله سجناً «منكوباً» يحتاج الى ما يشبه «اعادة الاعمار»، فيما تواصل تحرك الاهالي الاحتجاجي والذي استمرّ على شكل اعتصامات امام مقر قصر العدل في بيروت وقطع طرق في مناطق عدة ولا سيما البقاع مطالبين بقانون عفو عام.
وبرز امس في سياق احتواء غضب الاهالي الممنوعين من مواجهة ابنائهم السجناء قبل بعد غد، ان النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا كلف المحامي العام التمييزي شربل ابو سمرا ترؤس وفد من اهالي السجناء والاعلاميين دخلوا السجن واطلعوا على اوضاعه، بناءً على طلب الأهالي الذين اعتصموا صباحاً أمام قصر العدل في بيروت وسط انتشار أمني كثيف.

وكان لافتاً خلال الاعتصام استمرار الشائعات «المريبة» التي اشارت مصادر امنية الى ان هدفها منع اخماد «حريق» رومية وابقاء «الشرارة» مشتعلة. وفي هذا الاطار، لاحظ الاعلاميون امام قصر العدل انه كلما كانت المفاوضات تتقدم خطوة مع الاهالي، كانت اتصالات تاتي اليهم متحدثة عن تعرض السجناء في رومية للضرب والتعذيب، حتى ان احد الرجال راح يصرخ ان ابنه اصيب برصاصة في قلبه وانه يخضع حالياً لعملية جراحية وانه في حال حرجة، وكان يحمل منعه قميصاً قال انها لنجله، وفيها ثقب لكن اي آثار دماء لم تكن عليها كما ان الثقب فيها لم يكن على جهة القلب.

ولفت ما نقلته صحيفة «اللواء» عن مصدر أمني بارز من ان التحركات الاحتجاجية هي بمثابة «فقاعة صابون»، لافتاً الى ان «اللعبة» باتت مكشوفة، مشيرا الى ان هدفها هو التهويل وارباك الدولة، بقصد الوصول الى وضع مشابه لما يجري حول الوطن من تحركات. واكد المصدر ان حركة السجناء في سجن رومية اجهضت تماما وقضينا عليها مثلما قضينا في السابق على «فتح الاسلام» في مخيم نهر البارد.

السابق
السفير: أبيدجان: واتارا يقرّر تجويع غباغبو
التالي
إسرائيل على الجانب الخاطئ من التاريخ