أسئلة رهبانية: ألا خيار لنا إلا «المحمية الإيرانية» أو «الإمارة السعودية»؟

منذ رفع سعد الحريري شعار «لا للسلاح» كان التوجه واضحاً أن الأمور تسير إلى التصعيد. فبعد «الإخراج القسري» من السرايا الحكومية، تأكد للحريري وحلفائه في الداخل، وداعميه في الخارج، ان الزمن زمن مواجهة، والمرحلة ستزداد صعوبة.
قال الحريري «لا للسلاح». شمر عن ساعّديه، حقيقة ومجازا، في «13 آذار»، وأعلنها مواجهة «بكل السبل الديموقراطية والسياسية والسـلمية».
ابتسم «الخصوم» في سرهم، خصوصا أن أحدا لم يعلن برنامجا وتصورا لكيفية التعامل مع نزع السلاح. التزم «حزب الله»، المعني الأول بالموضوع، بالصمت. استمع للمصوبين على سلاحه من دون تعليق. ليست المرة الأولى. وهو يعلم أنها لن تكون الأخيرة، وإن كانت الجهة المصوّبة، هذه المرة أكثر إيلاما. فمع الانقسامات الوطنية والسياسية والمذهبية، على امتداد الخارطة العربية، يصبح خروج آلاف «السنة» في بيروت للمطالبة بإسقاط «سلاح المقاومة» أمرا شديد الدلالة على الحساسيات وتعقيدات المرحلة والظروف.

بالأمس، خرج «حزب الله» عن صمته. فبعد رفض الحريري ان يكون لبنان «محمية إيرانية»، اتهم «حزب الله» الحريري بمحاولته تحويله «محمية أميركية ـ اسرائيلية».
وها هو «البلد الصغير» يدخل لاهياً وعابثاً في «لعبة الكبار». لعبة فرضتها عليه تركيبته وجغرافيته وتاريخ «طوائفه» المعقد. لكن المقلق ان اللاعبين يبالغون في توّهم ادوارهم. ويدخلون اللعبة، مفترضين احجاما وادوارا تفوق قدراتهم وقدرات البلد على التحمّل.

ووسط الصراع «السنيّ» ـ «الشيعي» المقنع حينا والمباشر احيانا، والصراع «العربي» ـ «الفارسي» المعلن تارة والمضمر طورا، يقف المسيحيون بأحزابهم منحازين الى واحد من المعسكرين. يراهن كل منهم على فوز فريقه و«خطه» وخياره السياسي، لكن خارج هذين المعسكرين، هناك مسيحيون يتابعون ويأسفون ويتحسرون…

من هؤلاء عدد من الرهبان تلاقوا للبحث في شؤون كنــسية ووطنية. كانوا ثلاثة وعلى جدول أعمالهم اقتراحات «كنسية» يسعون إلى إعدادها لتقديمها الى البطريرك الماروني الجديد بشارة الراعي. لكن متابعتهم للتطورات جعلت الوضع السياسي، او «الشأن الوطني»، كما يفضلون التعريف، يتقدم على مناقشاتهم الكنسية.

يقول أكبرهم وأكثرهم تماسا مع الشأن العام «إن المطالبين بإبعاد لبنان عن سياسات المحاور الاقليمية والدولية يندرجون تحت خانتين: إما هم طوباويون ومثاليون وحالمون، وقد نكون نحن منهم. وإما هم جاهلون بالتاريخ القريب والبعيد، وبأوهام الطوائف ورؤيتها لنفسها وحجمها وأدوارها. نحن لا نستطيع الا أن نتأثر بما يحصل حولنا لكن يمكننا العمل على تخفيف الصدمات قدر الامكان، وتجنب اعتماد سياسة الملكية أكثر من الملك نفسه، وخوض مغامرات دونكيشوتية». ويسأل «مما تشكو سياسة القصب أمام الريح؟ وأين الخطأ في تبريد الرؤوس الحامية لتقطيع المرحلة؟ ما الذي يمنع المسؤولين اقله من التلاقي؟ ان تراشق الطوائف بين بعضها البعض بتهم العمالة لدولة او جهة لا يساعد في تمرير هذه الفترة الحرجة».

يبادر راهب آخر الى التعبير بصراحة اكبر فيسأل «اين دور المسيحيين في كل ما يجري؟ اين مصلحتهم؟ وهل اصبح خيارنا ان ننحاز اما الى «محمية ايرانية» او «إمارة سعودية»؟ كيف اصبحنا في هذه الخنادق؟ كيف ننجر الى مثل هذه الخيارات»؟
اما ثالثهم فيبدي تفهما «للعبة السياسية التي تستند في جزء منها الى تحالفات خارجية، خصوصا في بلد صغير مثل لبنان». لكنه يضيف «لأننا بلد صغير ولأننا مجموعات تختلف على معظم الامور بما فيها رؤيتنا لهذا البلد ودوره، علينا ان نبتدع صيغة ميثاقية جديدة. واذا كانت «لاءان» في اساس تكوين البلد فلما لا نجدد هذه اللاءات اليوم. لا لإيران ولا للسعودية. فمع احترامنا لكل الشعوب وخياراتها في انظمة حكمها، هل في هذين النظامين ما يطمح لبنان الى التماثل به؟ هذا «اللبنان» الفريد بتنوعه وخصوصيته وميزاته هل يرتاح الشيعي فيه الى نمط الحكم الإيراني؟ وهل السني يرتاح الى الاسلوب السعودي في الحكم؟ هذا قبل ان نتحدث عن المسيحيين وطموحاتهم ودورهم المفترض. نحن نريد علاقة جيدة وممتازة مع كل الدول وفي طليعتها إيران والسعودية. لكننا لا نرضى بأن نتحول ادوات صراع في ايدي هذه الدول او غيرها».

يتفق الرهبان الثلاثة على «ضيق نظر الاحزاب السياسية المسيحية. وعلى «تبعية» غير مبررة او مفهومة في ان ينحازوا الى طرف من اطراف الصراع الكبير في المنطقة».
ينتقد الراهب الاكبر سنا «غياب الهدف الواضح الابعد من الخصومة الآنية». لا يحبذ «تكبير الحجر» بالكلام عن «مسيحيي الشرق وصليبهم ودور مسيحيي لبنان في الحفاظ على الحضور المسيحي في الشرق». يقول «لنتواضع قليلا. لنعرف كيف نحمي وجودنا بعقلانية ونسهم في بلورة خطاب مختلف يجمع ويقرب الناس ولا يصنفهم في معسكرات خارجية. وبعدها نتواصل مع الجميع. فنحن في شراكة مع الكنيسة الجامعة في كل اقطار الارض، ومع مسيحيي الشرق بطبيعة الحال. لكن علينا ان نخرج نحن من عقدة الذمية التي بدأت تتبلور في اداء السياسيين وتحالفاتهم وعلى الارجح في صورتهم عن نفسهم وعن جماعتهم».

يراهن الرهبان على «انتفاضة» ما تغيّر واقع الامور. لكنهم يقرون معا ان «ذلك صعب لأسباب كثيرة وربما ابرزها انقطاع لبنان عن الانخراط في مفاهيم انسانية وثقافية متجددة، على الرغم من الانفتاح الشكلي الكبير على وسائل الاتصال والتكنولوجيا. لكن مجتمعنا يغرق اكثر في مفاهيم وطقوس من حقبات سحيقة لا صلة لها بالحداثة وقيمها».

السابق
النهار: موقف الحريري من التدخل الايراني في لبنان هو جزء من مشهد عربي تحكمه مشكلة اسمها ايران
التالي
ربيع الجيوش بدل ربيع الشعوب، ودمشق بينهما