تحديات السياسة الخارجية الثورية

ليس من قبيل المبالغة او التضخيم في شأن الثورة المصرية ـ ثورة 25 يناير ـ ان توضع ضمن ـ او في مقارنة مع ـ الثورات التاريخية الكبرى التي عرفها العالم ابتداء من الثورة الفرنسية في اواخر القرن الثامن عشر، الى الثورة الاسلامية في إيران في اواخر سبعينيات القرن الماضي.

يستند هذا التوصيف للثورة المصرية اكثر ما يستند الى حجم مصر ووزنها القومي والإقليمي والعالمي، ويستند الى تصور واقعي من العالم بأسره لمدى وسعة التأثير الذي ستحدثه في محيطها القريب والبعيد، كما يستند الى ردود الفعل المتباينة التي جمع بينها عامل التقدير من جماهير العالم ومفكريه، ويستند ايضا الى الطبيعة السلمية التي اتسمت بها هذه الثورة حتى وهي تواجه تحديات من الثورة المضادة الداخلية المتمثلة في بقايا وفلول النظام القديم الذي قوضته هذه الثورة او كادت.

وقد اتضح إجماع حقيقي وموضوعي على مكانة الثورة المصرية بين الثورات الكبرى حتى وهي لم تكد تخوض فيما يواجهها، او ينتظر ان يواجهها من تحديات السياسة الخارجية. لقد شكلت تحدياً للسياسات الخارجية لأكبر وأقوى دول العالم ابتداء من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وبريطانيا وحلف الاطلسي … وبطبيعة الحال اسرائيل، التي لا تزال تتخبط سياستها الخارجية بشأن الثورة المصرية بين توقعات وتصورات شتى. اما تحديات السياسة الخارجية الثورية التي سيتوجب على ثورة مصر ان تواجهها، خاصة بعد ان ينجلي الوضع العام المحيط بها والظروف الداخلية ـ اقتصادية واجتماعية وثقافية وحتى اخلاقية ـ فإنها ستضيف أبعاداً قصوى بالغة الاهمية الى قيمة هذه الثورة وقيمة تأثيراتها على الوضع الاقليمي والعالمي.

ولقد سبق ان اشرنا في هذا المكان من «السفير» الى ان من بين مبررات قيام الثورة المصرية ما يتعلق اساسا بالسياسة الخارجية لمصر كما مارسها النظام القديم، وما كان لهذه السياسة من تأثيرات سلبية على وضع مصر ومكانتها الاقليمية والعالمية فضلا عن دورها القومي. ونجد من الضروري ان نعيد تأكيد هذا القول لأن جموعاً كثيرة في المنطقة والعالم لا تأخذه مأخذ الجد او هي لا تتوقع ان تكون للثورة المصرية سياسة خارجية ثورية. وكل ما في الامر ان السياسة الخارجية تأخرت بعض الشيء لتتضح ملامحها وسماتها بعد ان اتضحت سمات التغيير والتحرير في السياسات الداخلية بقدر كاف.

ولعل من الضروري في هذا المجال إلقاء نظرة سريعة على تحديات السياسة الخارجية التي واجهتها الثورات التاريخية الكبرى التي اشرنا اليها. فهذا امر ضروري لتأكيد اهمية السياسة الخارجية وكيفية تحديها في تجاوز الثورات وما يعترضها من اخطار خارجية.

الثورة الفرنسية عندما تفجرت، كانت فرنسا في خضم تحديات خارجية بالغة الخطورة، متمثلة في عداء قوتين من قوى ذلك الزمان هما بريطانيا وألمانيا، بينما لم تكن الثورة الفرنسية تعول إلا على موقف تأييد وتعاطف من الجمهورية الاميركية الحديثة النشأة آنذاك، وما كان بإمكان البريطانيين او الألمان ان يتدخلوا لعرقلة الثورة الفرنسية من ناحية لخشية العدوى ومن ناحية اخرى، لأن الثورة فاجأت اوروبا كلها بانفجارها الهائل فأربكت حسابات القريب والبعيد. واستطاعت الثورة الفرنسية ان تجتاز اخطار السياسة الخارجية في سنواتها الاولى بالانشغال الكامل بشؤونها الداخلية. اما الثورة البلشفية (ثورة اكتوبرالاشتراكية) في روسيا، فكان التحدي الخارجي لها نابعاً اصلا من كونها ثورة استهدفت اوروبا بأكملها، بل استهدفت تغيير العالم بحكم الايديولوجية التي اعتنقتها وسارت على هديها. وأقدمت روسيا بعد ايام من الثورة على نشر ما وجدته في خزائن النظام القديم القيصري من وثائق ومعاهدات سرية مع الدول الاستعمارية والرأسماليات الكبرى وعلى رأسها اميركا وبريطانيا في ذلك الزمان. وكانت تلك صفعة قوية للعالم الغربي الرأسمالي بأكمله، تسببت في اكثر من الإحراج، تسببت في ثورات في بعض المواطن والأوطان. اما الثورة الصينية المسلحة فقد واجهت تحديات السياسة الخارجية قبل انتصارها وبعده متمثلة في العداء التام من جانب اميركا وبريطانيا وفرنسا. وبدت اليابان ـ الخارجة من الهزيمة في الحرب العالمية الثانية ـ مجرد تابع للولايات المتحدة.

وعندما تفجرت ثورة 23 يوليو 1952 المصرية بادئة بحركة عسكرية فإنها كانت نابعة من اعتبارات «خارجية» بقدر ما كانت استجابة للمظالم الداخلية الاجتماعية. ولهذا كانت تحديات السياسة الخارجية سريعة داهمة فظهرت مشكلات من نوع العلاقة مع البلدان العربية بشأن فلسطين وظهرت مشكلات العلاقة مع الغرب والاحتلال البريطاني بشأن تسليح مصر لمواجهة اسرائيل. وتاريخ هذه الثورة معروف حتى امتداداته في ثورة الشباب المصري الاخيرة على الرغم من انقضاء نحو ستين عاماً بين الثورتين.

هذا على سبيل المثال لا الحصر. وفيما يتعلق بمواجهة الثورة المصرية الحالية لتحديات السياسة الخارجية لا بد من ملاحظة ان العالم تعلقت أنظاره وأفهامه في هذا الصدد بما اعلنه المجلس الأعلى للقوات المسلحة ـ الذي يؤدي دور الحامي للثورة والضامن لسلامتها ـ في بيانه الثالث من ان مصر الثورة تفي بتعهداتها الاقليمية والعالمية، فرأى العالم في هذه العبارة من التفصيلات اكثر مما عناه المجلس الاعلى، فاعتبر ان هذا تعهد من مالك السلطة في مصر بالحفاظ على السياسة الخارجية للنظام القديم، وتثبيت اركانها كما هي، بل رأى العالم في تلك العبارة العامة غير المفصلة تعهداً بشكل خاص بشأن معاهدات كامب ديفيد بين مصرالنظام القديم وإسرائيل.

لكن مصر الثورة عندما اعتبرت ان الفرصة مؤاتية للحديث عن السياسة الخارجية ـ وبعد ان ازيح من السلطة وزير السياسة الخارجية للنظام القديم احمد ابو الغيط ـ نطقت بما ارادت الثورة ان توضحه اكثر من اي وقت مضى منذ يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011. فكان هذا موضوع اول حديث ادلى به وزير خارجية مصر الثورة نبيل العربي. قال بالحرف الواحد «ان مصر لديها روح جديدة بعد ثورة 25 يناير وستفتح صفحة جديدة مع جميع الدول بما فيها ايران التي «لا نعتبر انها عدو» وستستعيد مصر دورها الاقليمي مع الالتزام بالاتفاقيات وعدم التفريط في الحقوق». وطالب العربي اسرائيل بأن «تلتزم ببنود معاهدة السلام» موضحاً ان الهدف من المعاهدة كان «معاملة اسرائيل كدولة طبيعية بطريقة ما، ونظراً لعدم قراءة الاوراق بطريقة سليمة فإن البعض تصور انه يجب معاملة اسرائيل معاملة متميزة وهو ما يخالف المعاهدة».

وقال العربي ايضا «ان اتفاقية السلام بين البلدين ليست مقدسة وبها بعض البنود التي يمكن اعادة صياغتها. وأضاف ان اتفاقية كامب ديفيد تحتوي على بنود قابلة للتغيير ولكننا لا نفكر فيها الآن. وطالب بتطبيق ما جاء في المعاهدة بشكل صحيح، خاصة ما يتعلق بتطبيق القرار 242 والذي يعني انسحاب اسرائيل من جميع المستوطنات التي اقامتها». وطالب ايضا بعقد مؤتمر دولي تحت رعاية الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي لتسوية النزاع العربي ـ الاسرائيلي. وهو مطلب لا يمكن ان يكون له تفسير موضوعي الا الابتعاد عن الدور الاميركي الذي هيمن بالانحياز الكامل لإسرائيل منذ عام 1967 .

وفي هذا الحديث لم يكن من الممكن ان لا يتطرق وزير خارجية مصر الثورة الى الموضوع المتعلق بتصدير الغاز الطبيعي من مصر الى اسرائيل بأسعارادنى من اسعار السوق العالمية، فهو موضوع اثار نقمة شعبية اضافت الى اسباب اندلاع الثورة ضد نظام مبارك … وفي هذا الصدد قال بوضوح «ان كل شيء قابل للتفاوض ولكني لا اعرف اسعار الغاز ولكن ما اعرفه انه ينبغي ان يأخذ كل واحد حقه وهي مسألة طبيعية». وعن حرب اسرائيل على غزة وموقف النظام القديم ازاءها قال انه شعر بالخجل من محاصرة مدنيين واعتبره «موقفاً شائناً وغير مقبول يرقى الى مستوى جرائم الحرب».

ان هذه التصريحات ـ وإن تكن جزءا من اول حديث ادلى به الوزير نبيل العربي ـ ترقى الى مستوى بيان في السياسة الخارجية لمصر الثورة… خاصة وقد وصف السياسة الخارجية للنظام القديم بأنها كانت مجرد رد فعل لما يحدث ولم تكن هناك رؤية بسبب القرارات العشوائية. وفي ضوء هذا البيان الواضح لا بد ان نتوقع ان تبدأ اسرائيل حملة ضد السياسة الخارجية للثورة المصرية تخرجها من حالة الارتباك التي تعانيها منذ ان بدأت الثورة. فإسرائيل بهذا تدرك ان سياسة النظام القديم التي مالت ناحيتها وأعطتها ما لا تستحق، وحجمت دور مصر الاقليمي لصالحها قد انتهت وانتهى عهدها. وهنا تبدأ تحديات السياسة الخارجية للثورة المصرية. ويمكن التأكيد بان الصورة بشأن هذه التحديات واضحة وأن الثورة والقائمين على تنفيذ سياستها ليسوا بأي حال خائفين او حتى قلقين من تبعاتها.

وبطبيعة الحال فأن هذه التصريحات لا يمكن ان تعد مستفزة لرد فعل اسرائيلي فقط. فمن المؤكد انها ستجد رد فعل مماثلا من الولايات المتحدة التي تقيس كل شأن يتعلق بالشرق الاوسط بمقياس اسرائيلي بحت. وهذا يعني ان تحدي السياسة الخارجــية لمصر الثورة سيتطلب جهداً اميركياً إضافياً لفهم هذه الثورة التي تغيرت مواقف اميـركا مـنها تغيـراً كبيراً من اليوم الاول وأكــثر من مرة. ويعـطي هذا البيان الواضح عن السياسة الخارجية لمصر الثورة كل انطباع بأن الثورة تعي خطورة هذه التحديات ومع ذلك فإنها لا تريد ان تؤجل خوضها سواء في مواجهة اسرائيل او في مواجهة الولايات المتحدة.

ويأتي ايضاح الوزير نبيل العربي بشأن العلاقات مع ايران في توقيت بالغ الأهمية حيث يجد بعض الاطراف الخليجية ـ التي هزتها التغيرات الثورية حولها ـ ان الفرصة الوحيدة للإفلات من احتمالات الثورة ربما تكون عبر افتعال معارك جانبية مع إيران تقف الولايات المتحدة فيها موقف المؤيد للملوك النفطيين ضد ايران. ولو كان تفكير تلك الممالك النفطية إيجابياً بشأن تطورات المنطقة لأدركوا ان مصر وإيران وتركيا تشكل مثلث القوة الاقليمية القادر على التصدي للتحديات من داخل المنطقة (اسرائيل) ومن خارجها (الولايات المتحدة) بسياسات ايجابية تراعي مصالح شعوب المنطقة وتهجر دور الحارس على النفط ودور الخادم لحلف الاطلسي.

نعم، ان عودة السياسة الخارجية المصرية الى الاهتمام بمصالح مصر ومصالح الفلسطينيين وحقوقهم والعلاقات مع ايران، من منظور ايجابي يحدد اهدافه وسبل التحرك لتحقيقها، هي الطريق السليم الى شرق اوسط جديد قد تكون بعض ملامح الماضي ـ من عهد جمال عبد الناصر – واضحة فيه ولكنه شرق اوسط جديد مناهض للشرق الاوسط الجديد الذي ترسمه اميركا وتريد ان تبنيه على مقاس اسرائيل ومصالحها وأهدافها.

لقد انتهى الشرق الاوسط الجديد الاميركي ـ الاسرائيلي بنهاية النظام المصري الذي كان يرأسه مبارك. انتهى بنهاية السياسة الخارجية المصرية التي كانت تشتري بالفساد سلام اسرائيل وأميركا وتبيع بالمقابل مصالح مصر والعرب وحتى مصالح إيران.
ويبدأ العمل من اجل شرق اوسط جديد يتحدى اميركا ويتحدى اسرائيل ويعرف من هم اصدقاؤه في عالم اليوم. شرق اوسط ترسم ملامحه السياسة الخارجية لثورة مصر.

السابق
هل نحن لبنانيون؟
التالي
تحدي القمصان الكحلية