العائدون لامسوا المجزرة: رأينا رواندا 1993

قالوا لهم على الهاتف إن الطائرة ستهبط في الخامسة فجراً، وتأخرت. «التأخر طبيعي» يقول أحد الآباء المنتظرين في المطار، ملوّحاً بيده المجعّدة، كمن يطرد هماً ثقيلاً. المهم أن ابنه عائد. أما تفاصيل الرحلة، فهوليودية، تقريباً. ستة أيام في القاعدة العسكرية الفرنسية. وهنا لا بد من توقف. تخيّل إمكان العيش في قاعدة عسكرية ليس سهلاً. يترك الوالد الإجابة عن هذه الأسئلة لمحمد إبراهيم عطية، ابنه العائد. لا يفوت الأب الخمسيني أن يكيل المدائح للفرنسيين. فهم، نقلوا ابنه من القاعدة العسكرية براً إلى مدينة لومي في توغو، ومنها إلى أكرا، عاصمة غانا، حيث استقل الطائرة مع نحو 159 لبنانياً إلى بيروت. محمد سيعود بعد ساعتين مرتدياً سروالاً قصيراً «شورت»، وقميصاً «نصف كم». توقّع والده، الآتي من بلدة قانا، أن ولده سيعود شبه حافٍ، إذ إنه لا يضع في رجله إلا «شحّاطة إصبع»، كما أخبره على الهاتف. الحقائب والذكريات وكتب الدراسة جميعها بقيت في أبيدجان. وهناك ما هو أثمن من هذا. النجاة ليست تامة. فمحمد ترك خلفه والدته وشقيقه الأكبر، المحاصرَين في منطقة أدجمي، من جانب المتمردين. أخبراه على الهاتف أنهما يسمعان أصوات الرصاص أكثر مما يتنفّسان. الطعام شارف على الانتهاء. والرجل عاش في ساحل العاج طويلاً، ويملك تصوراً افتراضياً عما تخلفه الاضطرابات في أفريقيا.

الاضطرابات في أفريقيا تعني أمراً من اثنين: الموت أو العودة بوفاض خالٍ. المغتربون يخشون هذه القاعدة المتداولة جنوباً، كما يقول أقارب للمواطنة العائدة أمل عليّان، التي تقطن في أيبدجان منذ 8 سنوات. أمل من قرية البياضة الساحلية، لكنها على الأرجح تعرف ضاحية «الزون كاتر» في أبيدجان أكثر من أيّ مكان آخر. أهلها، يعرفون «المنطقة الرابعة»، باسمها الفرنسي. يصفون مناطق واسعة تستكين فيها أحياء لبنانية كاملة، على نسق الأحياء السورية والإيطالية في نيويورك الأميركية خلال عشرينات القرن المنصرم، كما ينقلها الأدب اللبناني المعاصر. يتحدثون عن البلاد الأفريقية البعيدة كما يتحدثون عن قراهم الدافئة. المدارس لبنانية. المطاعم لبنانية. كل شيء لبناني في تلك الأحياء. واللبنانيون، كما ينقل علي حمدان، أحد المنتظرين، يتعثرون بعضهم ببعض. اليوم، بعد تفاقم الشعور بخسارة الوطن العاجي البديل، يتحدث كثيرون منهم عن ثقافة أسسوها هناك يخشون اختفاءها. كانوا يطلقون على المناطق النائية أو الريفية البعيدة عن أبيدجان لقب «البر» مثلاً. وهذا مصطلح متعارف عليه في أواسط الجالية اللبنانية هناك. وفي الحديث عن التوزيع الجغرافي للبنانيين، يصعب إغفال قصة صفاء نادر، ابنة بلدة جنّاتا. أقل الفرنسيون صفاء إلى قاعدتهم وبقي زوجها محاصراً في مدينة ماركوري داخل مقر عمله، منذ الجمعة الفائت. أسبوع مر والزوج ما زال محاصراً.

وفي العاشرة من صباح أمس، انتهى حصار العائلات في المطار اللبناني. حطت الطائرة الآتية من بلاد الله الضيقة في بيروت. وبيروت أكثر ضيقاً بالنسبة إلى كثيرين ما زالت قلوبهم في القارة السوداء. سحر مازن، التي كان بكاؤها منتظراً لحظة عودتها، تركت ذاكرة السنوات السبع الأخيرة في أبيدجان. وكان هناك عائدون كثر يقبضون على جوازات سفر لبنانية ويتبادلون الحديث باللغة الفرنسية، اللغة المألوفة في ساحل العاج. يتحدثون عن خطورة الطرق البريّة، إلى الحدود مع توغو، بوركينا فاسو، وتانزانيا. ساحل العاج بلد كبير لكن لا أحد يستطيع تخطي عشرة أمتار خارج المنزل. عصام متيرك، الذي يصفه مغتربون هناك، بالراعي، لأنه يعزف على «المجوز»، يؤكد أنه ألقى بنفسه أمام دبابة فرنسية. عادوا إليه بعد عشر دقائق بعدما أقنعهم بأن أولاده ينتظرونه. هرب بلا أشيائه، حتى ملابسه التي أتى بها إلى بيروت، وفرتها له الجالية اللبنانية في توغو. قصة متيرك أقل إثارة بكثير من قصة علي بنوت. علي أب لثلاث بنات وشاب، حوصر في «بناية زرقط» المشيدة منذ خمسين عاماً. جميع سكانها لبنانيون. هاجمها أنصار واتارا في العاشرة صباحاً. يتذكر: اقتربوا كثيراً. كسروا الأبواب وحطموا المبنى الملاصق أولاً لوجود مكتب رسمي فيه تابع لغباغبو. سمع أن المتمردين يقتلون بلا رحمة. اتصلوا بالقوات الدولية فجاء الرد سريعاً: «ليس لدينا مهمة». وبعد دقائق قليلة اتصل المحاصرون بقيادة الجيش الفرنسي في سباق مع الزمن. المتمردون يقتربون من المبنى، ويخططون لاقتحامه. يروي علي كيف شاهد أحد التجار اللبنانيين عشرات السيارات، التي بنى عليها تجارته، تُكسّر وتُنهب أمام عينيه من دون أن يحرّك ساكناً. وسريعاً ما وصل الفرنسيون جواً. صعد سكان المبنى جميعاً إلى السطح، ومن بينهم علي وعائلته، حيث أقلتهم مروحية تابعة للجيش الفرنسي من هناك إلى القاعدة العسكرية. اقتحم المتمردون المبنى وقد شاهدهم الناجون يفعلون ذلك من الجو.

على ذمة العائدين، النجاة من البر مستحيلة. لا طريق للخروج من المجزرة إلا عبر الجو، البحر، أو الفرنسيين. متمرّدو الحسن واتارا لا يميّزون بين أجنبي ومؤيد للرئيس المخلوع غباغبو، وقد سرت شائعات عن علاقة التاجر اللبناني إ. ع. د. بغباغبو، لشدة نفوذه المالي، مما أضر بسمعة اللبنانيين، لكن، هذا كله شيء والواقع على الأرض شيء آخر. الحديث عن تمرد في ساحل العاج، أو فلتان مسلّح، يعني تفشي الميليشيات في السهول والأزقة. يعني ذلك انتشار الأسلحة الرشاشة في أيدي متمردين فقراء، وتالياً، عنفاً عشوائياً صعُب على جميع العائدين وصفه. ثمة قتل بلا توقف. أحد العائدين، أتقن وصف المجزرة: لا شيء في أبيدجان سوى انتظار أن يأتوا ليذبحوك. ومشهد كهذا مألوف أفريقياً، إذ إنه متناقَل عبر مغتربين آخرين في القارة السوداء، كما أنه موثق سينمائياً في بلاد مجاورة لساحل العاج. ماذا لو كانت الصور كمثيلاتها الآتية من رواندا 1993 فعلاً، كما قال حسن، أحد العائدين. هناك حيث «التوتسي» يذبحون «الهوتو»، وكل من يصادفونه، فيما تنسحب القوات البلجيكية التابعة للأمم المتحدة لأن «الأوامر تقضي بذلك»، كما جاء في فيلم مايكل كاتون جونز الشهير، «خلف البوابات»، الذي يحاول توثيق موت نصف مليون إنسان. في ساحل العاج أيضاً البشر متروكون للمذبحة، إذ ينقل العائدون صوراً مشابهة. ومن شاهد الفيلم يمكنه أن يتخيّل. قوات غباغبو من جهة، ورجال واتارا من جهة أخرى. اللبنانيون، ببساطة، ينقلون «الموقف المخزي المعتاد لجنود الأمم المتحدة»، و«يتفهّمون» قدرة الجيش الفرنسي. يسبّون دولتهم التي «تتبجّح» بعودة العشرات، فيما لا يزال عشرات الآلاف ينتظرون موتاً مجانياً. فالمجزرة مستمرة حتى الساعة.

السابق
لبنانيو ساحل العاج يشربون مياه المكيفات
التالي
يا بيّي الله يحميك الدولة مش عم تسأل فيك