الراعي بين الحسابات الفاتيكانيّة والوقائع المحليّة

نجح البطريرك مار بشارة بطرس الراعي عند اختياره لسدة البطريركية في 15 آذار الماضي في ادخال حيوية جديدة على صعيد الكنيسة المارونية والبطريركية المارونية. ورغم ان البطريرك السابق مار نصر الله بطرس صفير بقي حتى لحظة استقالته من الموقع البطريركي متمتعاً بنشاط لافت واداء مميز وحيوي ومثير للنقاش والاشكالات في الوقت نفسه، فتحت عملية انتخاب البطريرك الجديد الباب أمام تغيرات هامة، سواء على صعيد الجسم الكنسي وفريق العمل في البطريركية المارونية، أو لجهة كيفية التفاعل مع الأحداث والتطورات.

ومع ان البطريرك الراعي حرص على التأكيد دائماً أنه يسير في الاتجاه السياسي والكنسي نفسه الذي سار عليه البطريرك صفير، فإنه بدأ بإطلاق سلسلة من المواقف التي تشير الى وجود بعض التغيرات في الأداء السياسي، ومنها ما قاله عن «استعداده للقيام بزيارة رعوية لسوريا وان هذه الزيارة ليست من المحرمات» في حين ان البطريرك صفير رفض القيام بهذه الزيارة رغم تلقيه الكثير من الدعوات من القيادة السورية.

أما على صعيد الأوضاع اللبنانية الداخلية فقد اطلق البطريرك الجديد سلسلة من المواقف اثارت بعض الالتباسات مع تأكيده الانتفاح على جميع القوى والفعاليات السياسية والحزبية.

وتشير مصادر مطلعة على أجواء الكنيسة المارونية «إلى ان الفاتيكان أدى دوراً أساسياً في عملية التغيير التي حصلت داخل البطريركية المارونية وان هناك رغبة فاتيكانية بانتهاج سياسة جديدة من قبل هذه البطريركية».

فما هي الظروف التي أحاطت باختيار البطريرك الراعي؟ وأي دور للفاتيكان في التغييرات التي حصلت أو قد تحصل داخل البطريركية المارونية؟ وماذا عن الحسابات المحلية والسياسية في أداء البطريرك الراعي؟

العناصر المؤثرة في الاختيار

تتعدد الروايات التي تتحدث عنها المصادر الكنسية وبعض المصادر السياسية المسيحية حول العوامل الؤثرة في عملية اختيار البطريرك الراعي لمنصبه الجديد. ففيما تقول بعض المصادر «ان هذا الاختيار جرى بتوجيه مباشر من الفاتيكان لإحداث تغيير حقيقي داخل الكنيسة المارونية على الصعيدين الديني والسياسي وانه استجابة لرغبة قوية داخل المجتمع المسيحي»، تقول مصادر أخرى إن اختيار البطريرك الراعي «جاء نتيجة حسابات دولية وفاتيكانية ومحلية وانه كان هناك مطارنة آخرون لهم الأولوية في الوصول الى هذا الموقع، لكن الأمور تغيرت في اللحظات الأخيرة من عملية الانتخابات، ما أدى إلى تقدم حظوظ البطريرك الراعي على غيره».

وتكشف المصادر الكنسية «انه قبل حصول عملية الانتخابات للبطريرك الجديد عمد الفاتيكان من خلال بعض المؤسسات المسيحية الى اجراء استطلاع داخل البيئة المسيحية حول «البطريرك المفضل» لدى المسيحيين وان المطران الراعي حصل على 32٪ من الأصوات متقدماً على جميع المطارنة بأكثر من 25 نقطة، وان هذا الاحصاء أدى دوراً أساسياً في ترجيح حظوظه بين المطارنة وعلى صعيد الفاتيكان».

لكن مصادر سياسية مسيحية أخرى اشارت الى «انه كان هناك تنافس بين الراعي ومطارنة آخرين وان حظوظ الراعي لم تكن متقدمة كثيراً على غيره نظراً إلى قربه الشديد من البطريرك صفير ومن بعض القوى السياسية اللبنانية في قوى 14 آذار»، و«ان الفاتيكان لم يكن يفضل اختيار البطريرك الراعي، لكن بعض الجهات الدولية وجهات لبنانية محلية تحركت بقوة لدعم الراعي والقيام بحملة مكثفة لاختياره بطريركاً».

وبغض النظر عن أي الروايتين أكثر دقة وصحة، فإن كل المصادر الكنسية والسياسية اللبنانية تؤكد «ان اختيار البطريرك الراعي أدخل حيوية كبيرة على صعيد البطريركية المارونية وانه سيكون له دور كبير في المرحلة المقبلة لتعزيز دور الكنيسة المارونية لبنانياً وإقليمياً ودولياً».

بين الحسابات الفاتيكانية والوقائع المحلية

لكن ما هي العناصر التي ستؤثر في أداء البطريرك الجديد؟ وما هو الفارق بين الحسابات الكنسية والوقائع المحلية في التحكم في مواقف البطريرك الراعي؟

تقول المصادر السياسية المسيحية «ان الفاتيكان يسعى إلى إعادة تعزيز دور البطريركية المارونية على الصعيد العربي والاقليمي، وذلك في إطار سياسة حماية الوجود المسيحي في الشرق، وانه لذلك يقتضي الانفتاح على بعض الدول العربية والإسلامية كسوريا وايران، وان البطريرك الراعي سيعتمد هذه السياسة وهذا ما بدأه بإعلانه الاستعداد لزيارة سوريا رعوياً وعدم تدخله في القضايا السياسية بين لبنان وسوريا.

أما على صعيد المواقف المحلية والسياسية للبطريرك الراعي، فيبدو ان الصورة ليست واضحة تماماً، سواء لدى الأوساط المسيحية أو الجهات اللبنانية، فمنذ انتخابه بطريركاً بدأ الراعي اعلان سلسلة مواقف تؤكد انفتاحه على الجميع وان البطريركية المارونية ليست لطرف دون آخر، وقد لقيت هذه المواقف ترحيباً من معظم الأطراف اللبنانية.

لكن بموازاة هذه المواقف بدأ الراعي يطلق بعض التصريحات التي تشير الى تبنيه مواقف تدعم اطرافاً معينة دون أخرى ومنها تأكيده ضرورة بقاء الوزير زياد بارود في موقعه في وزارة الداخلية بعكس ما يعلنه العماد ميشال عون وتكتل التغيير والاصلاح، وقد أثار إعلانه أن «حكومة اللون الواحد هي حكومة غير دستورية» بعض الأسئلة والالتباسات، سواء لجهة صحة هذا الموقف أو لكونه امتداداً لبعض المواقف التي يطلقها قادة 14 آذار.

لكن بعيداً عن الحسابات السياسية التفصيلية والمواقف من بعض التطورات التي قد تدخل البطريرك الراعي في سجالات داخلية، من الواضح ان الراعي بدأ تحركاً مكثفاً في جميع الاتجاهات من أجل العمل على فتح قنوات الحوار مع جميع الأطراف، وشكلت جولته على القيادات السياسية والدينية فرصة لبحث عقد قمة روحية إسلامية – مسيحية وللدعوة في الاسراع في تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي.

اذن نحن امام مرحلة جديدة على صعيد الكنيسة المارونية والبطريركية المارونية، وقد يكون من السابق لأوانه الحكم على أداء البطريرك الراعي ومواقفه قبل مضي فترة من الزمن، لكن لا بدّ من التأكيد ان مهمة البطريرك الجديد لن تكون سهلة سواء من أجل حماية الوجود المسيحي في لبنان والمشرق لجهة اعادة التواصل مع جميع الأفرقاء في لبنان والمنطقة. لذلك إن أداء الراعي سيكون محسوباً ومراقباً بدقة من الجميع، والكل سينتظر ماذا سيحمله إلينا من متغيرات في الرؤية الاستراتيجية للكنيسة المارونية في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تطورات كبيرة.

السابق
فرح كئيب في مطار بيروت مع العائدين من أبيدجان
التالي
ماذا قصد بري بأن كتلته لم تعد في 8 آذار؟!