الخطوات الصحيحة لإسقاط النظام

سنسلّم، بدايةً، بأنّ حركة أو حملة «إسقاط النظام الطائفي» قد انطلقت بفعل مبادرة مجموعات شبابية، تأثّرت بدورها بانتفاضتي تونس ومصر خصوصاً، كذلك، سنسلّم بأنّ الأحزاب غير الطائفية لم تكن، مجتمعةً أو منفردة، ذات دور مباشر في إطلاق هذه الحملة، كما سنسلّم، ثالثاً، بأنّ مبادرة مجموعات الشباب، من جهة، وغياب مجموعة الأحزاب من جهة ثانية عن عملية المبادرة، قد أدّيا دوراً تعبوياً كبيراً، ووفّرا قدرةً على الجذب باتت تفتقر إليها كلّ قوى التغيير اللبنانية اليسارية والقومية والديموقراطية. وسنسلّم أيضاً، بأنّ التحرّك الذي انطلق تحت شعار إسقاط النظام الطائفي قد ولّد حيوية مدهشة، ودفع بعشرات الآلاف إلى المشاركة أو التعاطف والتأييد، وبأنّ الحملة الشبابية المبادرة (رغم بعض ثُغر تحرّكات المناطق وكذلك الشجارات التي ترافق الاجتماعات) لا تزال تستطيع الكثير والمزيد في مجالات التعبئة والجذب والتطوير والاستمرارية…
رغم كلّ هذه الأمور التي ذكرناها وسواها ممّا لم نذكر، لا بدّ من القول إنّ شروط تطوير حملة أو حركة «إسقاط النظام الطائفي»، تتطلب تعبئة أو مشاركة أو دعم قوى عديدة، بما يتخطّى ما هو متاح حالياً في نطاق التحرّك الذي انطلق في أواخر شهر شباط الماضي. وينطلق هذا التقدير من حقيقة بديهية تتمثّل في أنّ الشرط الأساسي لحصول التغيير، إنّما يتجسّد في تكوين حركة ضغط كبيرة، من شأنها الإخلال بتوازن القوى الحالي الراجح، على نحو كبير جدّاً، لمصلحة القوى التي تمثّل مرتكزات النظام السياسي اللبناني الراهن.

ويستدعي ذلك، الالتفات إلى خريطة التناقضات، السياسية والاجتماعية القائمة، وإلى المواقف والبنى والبرامج المتصلة بذلك، أو الناجمة عنه، أو الرافضة له. ودائماً، عندما يتعلق الأمر بالنظام الطائفي، تبلغ المسألة ذروة التعقيد. ذلك أنّ النظام الطائفي ليس مجرّد توزيع للمواقع السياسية والإدارية وفق «كوتا» طائفية ومذهبية محدّدة. إنّه منظومة متكاملة من البنى والنشاطات والعلاقات الداخلية والخارجية. وهذه جميعاً، تتغذّى من مصادر عديدة، سياسية واجتماعية وتربوية وصحية ورياضية ومالية وإيديولوجية، داخلية وخارجية هي الأخرى.

وفي مقدّمة الأمور التي ينبغي الالتفات إليها، حجم المشكلة بل الأزمة أو الأزمات، التي يعانيها لبنان واللبنانيون، بسبب نظامهم السياسي. ذلك ما قاد إلى إطلاق شعار «إسقاط النظام الطائفي»، فالشعار لم يكن اعتباطياً. وهو كان أيضاً شعاراً أطلقته، على نحو مبكّر، قوى سياسية عديدة، وعُقدت حوله أواصر حركة وطنية كبيرة تكوّنت منذ مطلع الستينيات، لتتبلور في صيغ ونشاطات سياسية وشعبية وشبابية وديموقراطية ضخمة، في السبعينيات من القرن الماضي.
وبالمعنى المذكور وبمعانٍ أخرى وعديدة، فإنّ حركة إسقاط النظام الطائفي، لم تنشأ من فراغ. إنّها ثمرة جهود متواصلة لكشف الخلل الكامن في نظامنا السياسي، والمتولّد عن اعتماد الطائفية أساساً ناظماً لآليات عمله ومؤسساته وعلاقاته. وهي إلى ذلك، امتداد للتحرّك والنضال الديموقراطيين اللذين لم ينقطعا يوماً، رغم العثرات أو العجز أو الأخطاء أو الخلل في الأولويات أو في الصيغ، أو ما سوى ذلك.

وعليه، فإنّ المطلوب اليوم أن لا تنقطع الحركة عن عمقها السياسي والوطني والديموقراطي، دون الإخلال أيضاً بالقدرة على الإمساك بزمام المبادرة بعيداً عن الاستغلال، أو الاستخدام، أو الفئوية الحزبية أو التنظيمية أو الشخصية.
ولا يستقيم هذا الأمر أيضاً، إلا من خلال اعتماد الشعار الصحيح. لقد لاحظنا اضطراباً في الشعارات أو حتى تضارباً في الأولويات. وإذا كان صحيحاً أنّ ثمّة أزمات أساسية متعدّدة يعانيها اللبنانيون، فإنّ الأزمة الأم، أي الكيانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية معاً، هي تلك الناجمة عن اعتماد الطائفية محوراً لإقامة نظامنا السياسي. ولا داعي هنا إلى تكرار التأكيد بأنّ أزماتنا المتعدّدة في مجال بناء دولة عصرية موحّدة وسيّدة ومستقلة ونامية ومستقرة، إنّما مصدرها النظام الطائفي الراهن. ولذلك، لا مبرّر لتشتيت العناوين والشعارات ومعها الجهود والأولويات في تناول عناوين غير العنوان الطائفي. ها هنا يجب التوحّد والسعي إلى الاستقطاب والجذب. وفي هذا الاتجاه يجب التصويب، وصولاً إلى تكوين ميزان قوى جديد. وهذا الميزان يجب أن يؤدّي إلى إحداث اختراق يوفّر بدوره فرصاً نوعية لتعزيز موقع قوى التغيير الديموقراطي، وصولاً إلى إسقاط النظام الطائفي برمّته.

يتضح بسهولة، أنّنا أمام مهمة معقّدة وطويلة، رسّخ المستفيدون من النظام الحالي الاعتقاد بأنّها مهمة مستحيلة. وإذ تتوافر، اليوم، فرص لإطلاق تحرّك مؤثر بشأنها، فمن شروط ذلك عدم تكرار أخطاء سابقة لم ينفع حسن القصد أو سلامة النوايا، في منع أضرارها. لقد رفع الشيوعيون شعار إسقاط الطائفية السياسية، لكنّهم وضعوه في امتداد تحقيق نظام اشتراكي، على الطريقة السوفياتية في موسكو التي كانت المركز والنموذج. وهكذا، فقد سقطت واقعياً أولوية إسقاط النظام الطائفي، أو بات هذا الأمر في أذهان المواطنين مرتبطاً بالتأميم والصراع بين المعسكرين، فضلاً عن مسائل إيديولوجية وفكرية تطاول المعتقدات والإيمان. أما الحزب القومي السوري الاجتماعي، غير الطائفي في تركيبته وشعاراته هو الآخر، فقد اقترنت علمانيته في ذهن المواطن بشرط التخلي عن الكيان اللبناني لمصلحة «سوريا الكبرى».

وبسبب هذا التداخل والخلط بين الأهداف، ضاعت أولوية «إسقاط النظام الطائفي» لمصلحة شعارات أخرى. وأسهم ذلك، بالطبع، في إضعاف هذين الحزبين وسواهما من الأحزاب العقائدية التي وضعت المشكلة الطائفية في آخر أولوياتها وتبنّت أهدافاً أخرى، اقتصادية أو أممية أو قومية، في رأس أهدافها المعروفة أو التي باتت تُعرف بها حصرياً.

في امتداد ما تقدّم ينبغي إذاً، حصر المطلب أو الشعار في إسقاط نظام الطائفية السياسية. يستدعي ذلك خطوات محدّدة، جزء أساسي منها موجود في الدستور، لجهة إنشاء مجلس نيابي خارج القيد الطائفي بعد إقرار قانون انتخاب جديد لهذا الغرض. ذلك أنّه منذ عام 1996، تُقرّ قوانين انتخاب مخالفة، على نحو وقح وفاقع، للدستور، وتنجم عنها مجالس نيابية غير شرعية، آخرها المجلس الحالي. هذه هي الحلقة المركزية الحالية التي يجب السعي إلى تقديمها كأولوية تنفيذية مباشرة. ويتصل بالسعي إلى إحداث الاختراق السياسي هذا، اختراق في الحقل الاجتماعي عبر إقرار قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية.

طبعاً هاتان الخطوتان قد تذهبان أبعد وأعمق (وخصوصاً الخطوة الأولى) بمقدار ما يتوافر من عوامل القوة الضاغطة من أجل إقرارهما. ويجب ألا ينتظر التنفيذ إقرار إنشاء «الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية» التي نصّت عليها المادة 95 من الدستور. لقد خسرنا حوالى عقد ونصف عقد من الزمن، ولا يجوز خسارة المزيد، لذلك فالهيئة الوطنية يجب أن تكرّس جهودها لإضعاف العوامل والمؤسسات والممارسات الطائفية والمذهبية، لمصلحة إقامة مرتكزات دولة عصرية موحّدة وحديثة: أي دولة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات دون أي شكل من أشكال التمييز.

وفي موضوع صيغ العمل لا بدّ من أن يبدأ نقاش جاد وسريع لتوسيع دائرة التحرّك والمشاركة فيه وتأمين مزيد من الفعالية والاستمرارية له، وهو ما سنحاوله في مساهمة لاحقة.

السابق
حيرتنا بين المندسّين وشـهود العيان
التالي
الحكم العقابي:بين الشمول والإقصاء