الإستراتيجية الأميركية في شرق أوسط جديد

قبل أقل من ثلاثة أشهر، عمد بائع متجول تونسي تملّكه اليأس، وضاق ذرعاً بالإهانات المتكررة وخيبات الأمل، إلى إضرام النار في نفسه مطلقاً شرارة ثورة لا تزال نيرانها تجتاح المنطقة بأسرها· هذا العمل المنفرد الذي يجمع بين المأساة والنبل، دفع منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلةٍ من التحوّل العميق، لها بحدّ ذاتها أهمية توازي أهمية عام 1989 بالنسبة لأوروبا وأوراسيا.
إنها لحظة واعدة بكلّ ما للكلمة من معنى بالنسبة إلى الشعوب والمجتمعات التي لطالما حُرِمَت الحرية والكرامة والفرص· أنها لحظة الإمكانية المُتاحة أمام السياسة الأميركية، تلك اللحظة التي تُقدّم من خلالها الحركة السلمية، والمحلية المنشأ، وغير الأيديولوجية النابعة من ميدان التحرير، فرصة تبرّؤ قوية من لغة القاعدة الخاطئة التي تعتبر أن العنف والتطرف الوسيلتان الوحيدتان لإحداث تغيير.

وأرى أن نقطة بداية السياسة الأميركية الحكيمة تتمثل بالفهم الواضح لما هو في محور اللّعبة ولما هو في دائرة المجازفة في الشرق الأوسط اليوم.
ويُشار إلى أن الثورات التي بدأت في تونس والقاهرة لا تتعلق بالولايات المتحدة الأميركية إنما بالشعوب الشجاعة، والفخورة، والمصمِّمة في المجتمعات العربية الهادفة إلى بلوغ حكم أفضل والحصول على فرص اقتصادية أكثر، والعازمة على ردم الهوة بين الحكام والشعوب التي لطالما شكلت مصدر قمع بالنسبة إلى الكثير من الأشخاص. وترتبط هذه الثورات بالقيم العالمية التي تحدث عنها الرئيس منذ سنتين في القاهرة والمتمثلة بحق التجمع السلمي، وحرية التعبير عن الرأي، وحق تقرير المصير.

والانطباع الأقوى الذي اختبرتُه منذ شهر بعد أن زرت ميدان التحرير واجتمعت بالقيادات الشابة كان هذا الحس اللافت بتمكين الشارع من خلال ثورة الاتصالات التي جرّدت الحكومة من احتكارها القديم للمعلومات وعزّزت إدراك الشعب بما تملكه المجتمعات الأخرى وبما يفتقده هو، وساهمت بالتالي في عملية الحشد من دون عاملي القيادة المركزية أو المنظمات السياسية التقليدية.

وإذا كانت طاقة شعوب المنطقة ودافعها الكامنان وراء اليقظة العربية يشكلان المكَوِّن الأبرز لنجاحها، فهما أيضاً تذكير حي بأن الاستقرار ليس ظاهرة ثابتة، لاسيما أن الأنظمة السياسية والقيادات التي لا تستجيب إلى التطلعات المشروعة لشعوبها تصبح أكثر هشاشةً وليس أكثر استقراراً.
وستتخذ الضغوط الشعبية لإدراك القيم العالمية أشكالاً مختلفةً في شتّى المجتمعات، إلا أن أياً من هذه المجتمعات ليس محصناً ضدّها· والأنظمة السياسية تشبه إلى حد ما الدراجات الهوائية التي قد تسقط ما لم تُحَرَّك دواساتها.

إنّ التصوّر الذي استحوذ لفترةٍ طويلة على عقول الكثير من القادة العرب يتمثّل بوجود خيارين سياسيين فقط أوّلهما الحكام المستبدون الذين تعرفون وثانيهما المتطرفون الإسلاميون الذين تخشون، وهذا التصوّر نفسه هو الذي مهّد الطريق لمنطق ملائم من أجل إعاقة المنافذ السياسية الفعلية أو نطاق المشاركة الموسّع، وهو الذي ساهم في نهاية المطاف في إشعال الفتيل في ميدان التحرير· وتكمن الحقيقة غير المؤاتية في هذا الصدد، في كون الكثير منا، إن لم يكن معظمنا، ممن شارك في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط إبان العقود الأخيرة، قد وقع ضحية هذا التصوّر. وقد رصدنا الجمرات التي تراكمت في المنطقة، والمزيج القابل للاشتعال من أنظمة منغلقة وفساد ونفور ومعاملات مهينة مما هو موثّق في شكلٍ بليغ في تقارير التنمية البشرية العربية.
كما حاولنا أن نلفت انتباه قيادات المنطقة إلى هذه المخاوف، ولكننا لم نبذل أبداً جهوداً كافية· لذا، نحن نعتبر أن من الجيد أن نتسلّح ببعض التواضع مع مشارفتنا على دخول هذا العصر الجديد.

وبرأيي، لا شيء مما سبق ذكره يدعو إلى التشاؤم، على رغم أن الشرق الأوسط هو مكان يكاد المتشائمون لا يفتقدون فيه الرفقة أو المصادقة.
الحقيقة، أنني أرى سبباً كبيراً يدعو إلى التفاؤل في كل ما يحصل في المنطقة في هذه الآونة· أنا لست ساذجاً، وتجربتي التي ترقى إلى ثلاثة عقود في الشرق الأوسط قد جرّدتني من أوهامي، ولكن من غير الممكن أن يتم تفسير الفرص الفعلية المطروحة أمامنا بصورةٍ خاطئة، إذا ما لجأنا إلى إستراتيجية مدروسة ومتكاملة إلى حد كبير.

وأعتبر أن العنصر الرئيس لإستراتيجية ناجحة يكمن في أن تصنع الولايات المتحدة قضية مشتركة مع الشعوب والحكّام في المنطقة – ومع شركائنا خارجها – في سعي لمواصلة تنفيذ أجندة بسيطة وإيجابية.
ويُفترَض بنا أن نقارن ذلك مع الأجندة السلبية في شكل أساسي للمتطرفين الذين يقومون بأعمال عنف ويدون قدرة أفضل بكثير على وصف ما هم ضده ممّا هم معه، ووصف ما يريدون تقويضه بدلاً ممّا يريدون بناءه.

وباستثناء مصالحنا الواضحة لناحية تطوير استقلال أكبر في مجال الطاقة وقيادة العالم من خلال قوة مثلنا الديمقراطي، تتطلب أجندة إيجابية كهذه أربعة عناصر رئيسة على الأقل.

يكمن العنصر الأول في دعم التغيير الديمقراطي السلمي· ففي بلدان تُتَّخّذ فيها خطوات حاسمة للانتقال من الأنظمة القديمة نحو الديمقراطية نؤدي دوراً راسخاً في عمليات انتقالية مستقرة

وفي البلدان التي بدأت فيها الاحتجاجات من دون أن يكون التغيير مؤكداً، مثل البحرين، سنواصل التشجيع على إجراء إصلاحات سياسية جدية وحوار سلمي عاجل بين الحكومات وقادة المعارضة· أما في البلدان التي تسعى لتفادي موجة الاحتجاجات الشعبية، كالأردن والمغرب، فسنستمر في التركيز على أهمية التعامل بجدية مع الإصلاحات في الوقت الراهن كطريقة لإيجاد سبل إيجابية من أجل إشراك المواطنين وتجنّب نشوب نزاعات حادة في المستقبل· أمّا على صعيد القضية الليبية المحزنة والعنيفة، فنعمل جاهدين مع شركائنا الدوليين لحماية المدنيين الليبيين من اعتداءات النظام، عبر تنفيذ القرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي دعت بموجبه جامعة الدول العربية، في خطوة لا سابق لها، إلى تطبيق فرض الحظر الجوي.

ويستند العنصر الثاني، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأول، إلى منح دعم متين للتحديث الاقتصادي· ويعني ذلك، على المدى القصير، مساعدة مصر وتونس مثلاً، على اجتياز الصعوبات الكبيرة التي ولّدتها الاضطرابات السياسية وانهيار القطاع السياحي في شكل موقت. لكنّ ذلك يعني أيضاً التفكير الجريء والطموح بكيفية دعمنا لتحديث حقيقي طويل الأمد· كما أننا نساند في شكل قوي إنشاء صندوق المشاريع الأميركي المقترح، وأعلنت الوزيرة كلينتون للتوّ أن مؤسسة الاستثمار الخاص عبر البحار (أوبيك) ستقدم نحو ملياري دولار لتحفيز استثمارات القطاع الخاص في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا·

ومن المهم جداً أيضاً أن نأخذ بالاعتبار إنشاء مبادرات لتحرير التجارة في الدول العربية التي تمر بمرحلة انتقالية، ويقوم الحل الأمثل لذلك على التعاون مع الاتحاد الأوروبي· وفي سياق ذلك، يمكننا أن نساعد على تشجيع التجارة والتكامل داخل المنطقة الواحدة التي تعاني نقصاً في المجالين· ويمكننا أن نساعد على إنشاء وظائف في القطاع الخاص الذي يعتبر في أمس الحاجة إليها، لمواكبة التطور السكاني والتوقعات· كما يمكننا أن ننشر المنافع والفرص التي ينطوي عليها النمو الاقتصادي في أرجاء المجتمعات العربية، بدلاً من أن تقتصر على حلقة ضيقة في قمة الهرم.

ويقوم العنصر الثالث ضمن الأجندة الأميركية الإيجابية المكرسة للشرق الأوسط على تجديد المساعي بهدف التوصل إلى سلام شامل بين العرب والإسرائيليين· وما عاد الوضع الراهن بين هذين الطرفين قابلاً للاستمرار، شأنه شأن الأنظمة السياسية المتحجرة التي انهارت في الأشهر الأخيرة· ولا يمكن ضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية ولا طموحات الفلسطينيين المشروعة من دون حل إقامة دولتين، وهو تم التفاوض عليه.

ويقوم عنصر رابع على دورنا المستدام في ضمان الأمن الإقليمي من حيث تعزيز الروابط مع دول مجلس التعاون الخليجي، ومكافحة الإرهاب ومنع إيران من تطوير أسلحة نووية ومن إطلاق سباق تسلح إقليمي كارثي، فضلاً عن عدم التغاضي عن العملية الانتقالية الحيوية في العراق، وإعادة دمج هذه الدولة في العالم العربي· ومن الضروري أن نُبقي على رؤيتنا الواضحة وعلى إصرارنا في مواجهة الخطر الذي يشكله السلوك الإيراني في عدد من المناطق.
كما نُبقي على دعمنا الواضح لتوق المواطنين الإيرانيين إلى الحرية والكرامة· والحقيقة الكامنة في خبايا تهديدات طهران هي أن ما من مكان آخر في المنطقة يختبر انقطاعاً في التواصل بين الحكام والشعوب أكبر من ذاك الذي تختبره إيران· وتقوم قمة الرياء في أوساط القادة الإيرانيين على إظهار حماستهم حيال التغييرات الديمقراطية في العالم العربي، فيما يحرمون شعبهم منها بانتظام.

إنها لحظة لا تأتي إلا نادراً في سياق مجرى الأحداث البشرية، لحظة تكثر فيها الفرص التاريخية وتتخللها عقبات هائلة بالنسبة إلى شعوب الشرق الأوسط وإلى الولايات المتحدة، لحظة تتطلب اهتمامنا وطاقتنا، وكذلك أكبر قدر يمكننا توفيره من الإبداع والمبادرات بالتعاون مع شركائنا في أرجاء العالم.

واشنطن تخشى فقدان مصالحها في الشرق الأوسط ألمحت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، خلال الاجتماعات الدورية في الكونغرس، إلى مخاوف البيت الأبيض إزاء الاضطرابات في البلدان العربية، وخشية تعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر· وعارضت طرح بعض النواب الجمهوريين، الذين يرون ضرورة التنسيق الكامل بين وزارتي الخارجية والدفاع، للتعامل مع الأوضاع الظرفية، وركزت على أهمية تكثيف الجهود، لمواجهة البلدان التي يمكن أن تمثل تهديدا للمصالح الأميركية في أي منطقة في العالم، وأشارت في هذا السياق إلى الصين وإيران، إلا أن نقاشا جديدا بدأ يتبلور في دوائر دبلوماسية أميركية حول كيفية التعامل مع الثورات التي اندلعت في المنطقة العربية.

ويعتقد دبلوماسيون مطلعون على ما يدور في البيت الأبيض، أن ما يحدث في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكبر من مجرد حركة احتجاجية أوقدت شرارتها المواقع الاجتماعية على شبكة الإنترنت· ويرى هؤلاء أن المسألة تتعلق بالوضع الاقتصادي المتردي في العالم العربي، إضافة إلى البطالة التي تضرب شريحة واسعة من الشباب العربي، هذه الظاهرة التي استفحلت بسبب الأزمة المالية العالمية· كما يشير الدبلوماسيون الأميركيون، في هذا السياق، إلى الهوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء· وفي ذلك يقول نائب وزير الخارجية السابق المكلف بالشرق الأوسط، روبرت بيلترو، إن الفساد المستشري في هذه البلدان، والاستبداد جعلت الحياة مستحيلة هناك.

من جهة أخرى، يقول الخبير في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ديفيد ماكوفسكي، إن هناك خلافاً واضحاً بين فريقين في الإدارة الأميركية، ففي الوقت الذي يفضل فيه الفريق الأول الحفاظ على المصالح الأميركية الحيوية، في مصر والسعودية والخليج العربي، يرى الفريق الآخر انه من الأفضل مواكبة التغيرات التاريخية في المنطقة.
 وبين هذا الطرح وذاك، تحاول واشنطن الإمساك بالعصا من الوسط، إذ أوفدت الأدميرال مايك مولن إلى بعض الزعماء العرب تطمئنهم، من خلاله، أنها لن تتخلى عنهم، وفي المقابل حثتهم على تبني المزيد من الإصلاحات السياسية· ويوضح المستشار السابق في البيت الأبيض روبرت مالي تدرك الإدارة الأميركية جيدا أن قطارا بدأ يتحرك في الشرق الأوسط، ولا تعلم إلى أين سينتهي به الأمر، مضيفا النماذج القديمة أصبحت مهجورة· بات البيت الأبيض يدرك الآن، حسب ويلكوكس، أن التدخل العسكري في إيران بات مستبعدا تماما· ويعتقد مدير قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية سابقا، لاري بوب، أن الإدارة تدرك أنه لا يوجد نمط واحد من التيار الإسلام.

ويخشى خبراء الاستراتيجية في واشنطن من أن يقال قريبا إن أميركا خسرت الشرق الأوسط، كما قيل في 1979 إن واشنطن خسرت إيران، حسب مالي· ويرى دبلوماسي أوروبي، هناك انطباع بأن أميركا ليس لديها تأثير حقيقي في المنطقة، أو بدائل لما هو قائم الآن، وقد منيت السياسة الخارجية والعسكرية بانتكاسات متتالية، منها الفشل في إيجاد تسوية للنزاع العربي الإسرائيلي والخروج غير المشرف من العراق، والعجز في التعامل مع الملف النووي الإيراني، وأصبح الانطباع بأن أميركا أصبحت خارج اللعبة، يزعج الدبلوماسية الأميركية، وباتت الإدارة الأميركية تخشى تصالحاً عربياً إيرانياً في المستقبل· وفي الوقت الذي تلاشى فيه نفوذ القوى الكبرى في الشرق الأوسط، حسب ماكوفسكي خرج أوباما مستفيدا من هذه الأزمة، إذ كان الوحيد الذي تنبأ بما حدث من خلال التركيز على الشعوب عوضاً عن الأنظمة، مضيفا لقد تعامل مع الأحداث بشكل جيد على المستوى الدول ·

ويرى دبلوماسي مخضرم أن أميركا يجب أن تلعب دورا مهما في مصر، لأن عدم اهتمام واشنطن بالمرحلة الانتقالية هناك قد يقلب الموازين.
(اللواء)

السابق
مشروب «الطاقة»…أو الاستعباد البطيء
التالي
ماروني: الإنتفاضة في السجون هي لاستغلال الأوضاع في غياب الحكومة