من يغتال الطائف؟

صار المأزق الحكومي تفصيلاً بسيطاً أمام المخاطر الكبرى التي تشي بها الممارسات التي ترافقه. مخاطر هي على ثلاثة مستويات: على الميثاق الوطني، على النظام البرلماني اللبناني وعلى الديموقراطية.
على الصعيد الأول، قد يبدو للبعض من باب الطبيعي والمقبول أن يقول رئيس الجمهورية والرئيس المكلف تأليف الحكومة أنهما هما وحدهما من يؤلّفها، بمعزل عن أي اعتبارات أو حسابات. لكن لهذا القول شوائب عدة، وإشكاليات كثيرة. أهمها، بالتأكيد، الخطر على جوهر الميثاق الوطني، وعلى روح اتفاق الطائف.

كيف؟ معروفة غيباً تلك الإشكالية التي فجّرت نظام لبنان وحروبه منذ عام 1975. أي قصة الإصلاحات والمشاركة. كان المسلمون يرفضون ما يسمّونه «الحاكم غير المسؤول»، وهو الموقع الذي منحه دستور ما قبل الطائف لرئيس الجمهورية الماروني. وكانوا يطالبون بتغيير الوضع. في المقابل، كان المسيحيون يخشون أيّ انتقاص من صلاحيات رئاسة الجمهورية يؤدي إلى جعل السلطة التنفيذية أو الإجرائية في يد رئيس الحكومة السنّي. على هذه الثنائية الإشكالية، اندلعت الحرب. طبعاً إضافة إلى مروحة كبيرة من الأسباب والعوامل الأخرى في الداخل والخارج، في السياسة والاقتصاد والجماعات والجيواستراتيجيا… لكن أيضاً على هذه الثنائية الإشكالية، بنيت مسوّدة الحل آخر الثمانينيات، إذ دبّج نص ـــــ هو الطائف ـــــ يقول للمسلمين إن رئيس الجمهورية لن يعود حاكماً، ولا مسؤولاً. والنص نفسه يقول للمسيحيين إن رئيس الحكومة لن يصير هو الحاكم البديل. من هذه المعادلة السحرية ولدت التسوية، فضلاً عن مبادلات ومقايضات كثيرة في اتفاق الطائف. جوهر ذلك الميثاق إذاً، حاول طمأنة المسلمين والمسيحيين معاً إلى أن السلطة الفعلية في الدولة، أي السلطة التتفيذية، لن تكون لدى ممثل هذه الجماعة، ولا عند ممثل تلك، بل ستكون في مجلس الوزراء مجتمعاً. وهو المجلس الذي ينبثق مباشرة من مجلس النواب المتساوي بين المسيحيين والمسلمين للمرة الأولى في تاريخ لبنان (وهو ما انتهكته قوانين الانتخاب المتعاقبة)، على أن تكون آلية الانبثاق محددة ومشروطة عبر الاستشارات النيابية. هذا هو جوهر الطائف والميثاق إذاً. أن تكون الحكومة منبثقة من المجلس، لا من إرادة أي شخص، أو شخصين.

ما يحصل اليوم قد يكون أخطر اغتيال لجوهر الميثاق الوطني. فهو سيؤدي حكماً، إما إلى الإيحاء للمسلمين بأن توقيع رئيس الجمهورية صادر النظام، وإما إلى الإيحاء للمسيحيين بأن تكليف رئيس الحكومة هو ما صادر صلاحيات مجلس الوزراء بالكامل. فحين يرى رئيس الجمهورية، أو رئيس الحكومة المكلف، أن الدستور أعطاهما حصراً، ومن دون سواهما، حق تأليف الحكومة، فهذا يعني أنهما ينسفان جوهر الميثاق الوطني الذي كرس أن السلطة التنفيذية هي في مجلس الوزراء مجتمعاً. وهو المجلس الذي يجب أن يتألف من سياسيين يمثلون الواقع اللبناني، انطلاقاً من الأكثرية النيابية التي فوّضت، عبر الاستشارات، عمليتي التكليف والتأليف. وإلا فما معنى القول بأن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك؟ الطائف، جوهراً وميثاقاً وروحاً، يقضي بأن يلتزم رئيس الجمهورية، كما رئيس الحكومة المكلف، الأخذ بالواقع النيابي التمثيلي، وتكريسه في تأليف الحكومة. وأي خروج عن هذا المبدأ، يعني أولاً اغتيال الطائف،
وهو يعني ثانياً ضرب التوازن الطبيعي لمبدأ النظام البرلماني، وهو النظام الأكثر انسجاماً مع مبدأ الديموقراطية التوافقية. ولفهم هذا الأمر، يجب قياس الاستثناء في حالته القصوى. ومع ميشال سليمان ونجيب ميقاتي، تبدو تلك الحالة القصوى راهنة. ذلك أن الرجلين يملكان فعلياً نائبين اثنين، أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر بقليل… من مجموع عدد المجلس النيابي. فإذا كان بإمكانهما دستورياً، كما يقول البعض، تأليف حكومة من دون الرجوع إلى أكثرية المجلس، ماذا يبقى عندها من مفهوم النظام البرلماني؟
أما إذا أضفنا المقولة المردّدة عن حكومة التكنوقراط، فعندها نصل إلى الخطر الثالث، أو اغتيال الديموقراطية بالكامل. ذلك أن من أسّس هذا المبدأ الدولتي، هو قدرة الناس على مساءلة الحاكم، وبالتالي محاسبته عبر صندوق الاقتراع. فإذا جيء بحكومة ما يسمّى وزراء تكنوقراط، لا هم سياسيون ولا بالتالي مرشحون لانتخابات مقبلة، ولا محسوبون على قوى سياسية نيابية، وانتهى هؤلاء إلى خراب البلد، فكيف يحاسبهم الناخب في الاستحقاق النيابي المقبل، بعد أن يكون كل منهم قد عاد إلى أعماله، أو حتى ضاعف حجمها، مستعيناً بلقب المعالي وبالعلاقات المرافقة له محلياً ودولياً؟

اغتيال رحيم للطائف وللبرلمانية وللديموقراطية، هو ما يسوّق اليوم. وعلى المعنيين به الانتباه إليه قبل سواهم، أو سواهما.

السابق
ثغـرة لبنانيـة
التالي
التيّار الوطني الحر رياضياً