السجن والسجين والسجّان:3 أسباب لانفجار حتمي في رومية

أولا: السجّان

قبل بضعة أمتار من بلوغ الرحلة خواتيمها، يبدأ عملية نقل(إو اجلاء) يده المحاصرة بالركاب من حضنه إلى جيبه الخلفي، حيث تستقر حافظة أمواله القليلة.

من قليل المال يسحب ألفين أو ثلاثة آلاف ليرة ويناولها لسائق سيارة الأجرة.

بكآبة ينظر إلى المبنى (الكئيب أصلا) فينزل من السيارة ويسير بخطوات متباطئة نحوه، فيما تفكيره مشغول بحساب ما تبقى من راتبه الشهري بعد عملية الدفع الأخيرة.

بعد ثوان قليلة يجد نفسه في مكتب الآمر.

يقفل هاتفه الخلوي ويضعه على الطاولة، ثم يسحب حافظته ويضعها إلى جانب الهاتف.

قطعة قطعة يسلم أدوات حريته ويدخل مكان عمله.

إلى السجن

هذه هي باختصار حكاية كل دركي شاء قدره أن يؤدي خدمته في سجن رومية.

فالسجن الذي يتطلب العمل فيه اشخاصا بمواصفات محددة، تحول الى منفى للمشكلين تأديبيا وخيارا وحيدا لقليلي الحظ ممن لا يملكون "واسطة" تشكلهم الى مكان آخر.

شبان من دون إعداد نفسي أو جسدي، وبراتب شهري لا يتجاوز المليون ليرة، يتوقع منهم أن يكونوا اساتذة في مدرسة اصلاح المجتمع فيفشلون، لا لعلّة في نفوسهم، بل لعلّة في نفس الدولة التي تدير المكان.لا تؤمّن الدولة – مثلا- طعاما محترما لهؤلاء، فلا يكون امامهم عندما يجوعون (شأنهم شأن كل خلق الله) إلا زنازين الأثرياء يقصدونها كي يأكلوا.

يطعمهم المساجين فتستحي اعينهم ويسقطون في الفخ، ثم يخبرهم أحدهم بأنه يعرف ضابطا هنا وسياسيا هناك قادرا على نقلهم من هذا الجحيم فيصدقون وتكتمل عملية السقوط.

هكذا يصبح رجل الأمن تحت سيطرة اقوياء المساجين ينقل رسائلهم (وبضائعهم) من زنزانة الى زنزانة، ويتكفل شراء ما يريدون ساعة يريدون من كافيتيريا السجن، لتشتد تبعيته لهم يوما بعد يوم، فيزداد ضعفه وتزداد قوتهم. وكما هو منطق الحياة" الأعوج" تأتي ردة فعله العكسية باتجاه السجناء الضعفاء، فيزداد قسوة عليهم ويزدادون حقدا عليه.

ثانيا: السجين

في غرفة واحدة مع اشخاص لا تجمعه بهم سوى المصيبة، يستلقي على فراشه وهو يجاهد لئلا يغفو ويحلم.

فمنذ مدة وأبطال احلامه كلهم زملاء له في الزنزانة أو في زنازين أخرى.

منذ مدة والأماكن كلها التي يحلم بها هي بقع جغرافية في أرض السجن كمكتب الآمر وباحة النزهة وغرفة المواجهة.

يكفي ذلك ليجعله يكتئب ويشعر بأن العالم الخارجي صار ماضيا بعيدا فَقَد التواصلَ معه حتى في المنام.

هنا، ومن دون مبالغة، يكمن لب المشكلة.

ففي حين يفترض القانون والمنطق أن يكون السجن عقابا موقتا يعدّ السجين ليكون شخصا ايجابيا في المجتمع، تحوّل سجن رومية إلى مكان لقطع ما بقي من خيوط بين روّاده والخارج ولـ"تهبيط" عزيمة مَن نوى منهم – ولو بمبادرة فردية – تسلّق سلم إصلاح النفس.

فحيث يفترض أن يتعلم السجين احترام حقوق الآخرين، يساوم من قبل سجّانيه للحصول على حقوقه.

المساومة الأكثر شيوعا هي المادية منها، إذ لم يعد سرا أن الزنازين باتت اشبه بغرف فندق يتنافس على أفخمها (وفي مزاد شبه معلن) اصحاب القدرة الشرائية، بينما يتكدس في اسوأها اناس لا حول ولا قوة شرائية لهم. كما لم يعد سرا ان لكل ممنوع ثمنا يتحول بموجبه إلى مسموح سواء أكان طبق كوسا محشي (ادخال المحاشي غير مسموح) أم هاتفا خلويا، زجاجة ويسكي أم حبوب هلوسة.

طريقة اخرى للمساومة، هي المساومة على الجهد، ففي حين تحفّز الدول المتحضّرة المساجين على العمل في فترة تنفيذ عقوبتهم لعدد ساعات محدد، في مقابل مادي عادل يشعرهم بقيمتهم، يبحث القيّمون على سجن رومية عن السجناء البارعين في أمور معينة كالصيانة والكهرباء والكمبيوتر، ويعرضون عليهم العمل بدوام مفتوح وفي مقابل وحيد هو قضاء مزيد من الوقت خارج جدران الزنزانة.

ملاحظة: بعض المساجين يتحمسون للأمر في البداية، ثم يقررون التوقف بعد أن يرهقم الأمر وخصوصا أن كثيرين منهم يستدعون للقيام بأعمال الصيانة حتى في أثناء ساعات الليل المتأخرة (تحديدا عمال الكهرباء)، فتأتي ردة الفعل من قبل ادارة السجن سلبية وتصل أحيانا الى حد نقلهم من غرفهم الى غرف أصغر.

الطريقة الأخبث في المساومة، هي المساومة مع اصحاب الرصيد الإجرامي من المساجين على امكانية الاستفادة منهم لضبط اوضاع السجن، وذلك في مقابل تسهيل فترة اقامتهم التي عادة ما تكون طويلة، ويطلق على هؤلاء لقب "شاويشية"، إذ لكل من المباني الأربعة شاويش رئيسي فضلا عن شاويش فرعي في كل طبقة من الطبقات، وفي الغرف الكبيرة (كنظارات التوقيف في مبنى الأحداث)، ولكل شاويش مجموعة يختارها لتعاونه في مهماته ليكون السجن بفعل ذلك تحت أمرة مجموعة من "البلطجية" المحكومين غالبا بجرائم جنائية كالقتل والاغتصاب، فيحدد هؤلاء لزملائهم (وبينهم موقوفون في حوادث سير أو شيكات من دون رصيد) مكان نومهم وساعته، وساعة استيقاظهم، فضلا عن الساعات التي يسمح لهم فيها بمشاهدة التلفاز والقنوات التي يمكن مشاهدتها، من دون أن يتوانوا عن استخدام العنف لمواجهة اي محاولة عصيان.

ثالثا: السجن

من مكبّرات للصوت انتهى عمرها الافتراضي قبل سنوات، يخرج صوت "شاويش المذياع" مناديا على فلان ليواجه أهله، وعلى علتان ليواجه محاميه.

هذه المكبّرات التي كانت في الأساس مخصصة للترفيه عن المساجين، عبر بث الموسيقى ليست الشيء الوحيد الذي بات يستخدم في سجن رومية لغير أهدافه، فالغرف التي أنشئت لتكون قاعات محاكم تحولت ورشا للحدادة والنجارة، والنادي الرياضي الذي بني للمحافظة على اللياقة الجسدية للمساجين، تحول مستودعا للخرضوات.

غرفة بعد غرفة تقضم مساحة السجن المعدّ اساسا لاستيعاب 2000 نزيل، بينما يضم اليوم أكثر من 4000. وكلما قضمت المساحة اصبح لزاما حشر الموقوفين مع المحكومين، والقاتلين مع مرتكبي حوادث السير، وتجار المخدرات مع متعاطيها ليصبح مبدأ اصلاح النفوس مزحة تضحك السجّان قبل السجين، وليصبح الظن بأن الدخان الأسود لن ينبعث مجددا من مباني القهر الأربعة سذاجة كبيرة، وخصوصا عندما تبدو الدولة مصممة على ان تكرر نفسها. فتعِد مع كل "همروجة" احتجاجية بمعالجة المطالب، لتعود بعد ذلك إلى سياسة التطنيش، ويعود الحقد فيستوطن القلوب القابعة خلف القصبان.فحذار الحقد المتنامي لأنه، على عكس الدولة، لا يكرر نفسه، بل يظهر كل مرة بمظهر جديد وأكثر شراسة.

السابق
الحريري ولبنانيّو الخارج
التالي
“فايسبوك” النوّاب… برلمان متنقّل