وثائق ويكيليكـس: قرائن قانونية على أفعال جرمية

تشكل الجريمة خطراً كبيراً على حياة الأفراد والجماعات، وإتيانها من أي إنسان كان يعتبر انتهاكاً لحرمة المجتمع وأمن الدولة والأفراد.

والجريمة تبدأ بفكرة (إذا برز التفكير إلى حيّز التنفيذ، فالقانون يعاقب عليه باعتباره جريمة) ثم عزم على إتيانها، ثم إقدام على الفعل سواء تم هذا الفعل أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها. وقد عرّف الفقهاء الجريمة بأنها كل نشاط خارجي (النشاط الخارجي هو إخراج القصد والهمّ بالقيام بالجريمة) يأتيه الإنسان، سواء تمثل هذا النشاط في فعل أو امتناع ما دام قد فرض له القانون عقوبة أو تدبيراً وقائياً.(1)

وفي قانون العقوبات اللبناني في المادة 186 منه(2) نص على انه لا يعد جريمة الفعل الذي يجيزه القانون بمعنى أن الجريمة هي كل فعل لا يجيزه القانون. وفي قانون العقوبات اللبناني عنصران للجريمة هما:
ـ العنصر المعنوي(3) ويتضمن: النية والدافع أي وجود نية أو إرادة على ارتكاب الجريمة ووجود الدافع أو العلة التي تحمل الفاعل على الفعل أو الغاية النهائية التي يتوخاها.
ـ العنصر المادي (4) ويتضمن: المحاولة واجتماع الأسباب.
والمحاولة لارتكاب جناية «بدأت بأفعال ترمي مباشرة إلى اقترافها تعتبر كالجناية نفسها إذا لم يحل دون إتمامها سوى ظروف خارجة عن إرادة الفاعل»(5)
«وإذا كانت جميع الأعمال الرامية إلى اقتراف جناية قد تمت غير أنها لم تفض إلى مفعول بسبب ظروف لا علاقة لها بإرادة الفاعل…»(6)

فالمحاولة هي الجناية نفسها أي هو فعل الجناية تاماً إذا لم يحل دون إتمام هذا الفعل سوى ظروف خارجة عن إرادة الفاعل حتى وإن لم تفض إلى مفعول بسبب ظروف لا علاقة لها بإرادة الفاعل. أما اجتماع الأسباب فوفقاً للمادة 205 من قانون العقوبات اللبناني فإن الصلة السببية بين الفعل وعدم الفعل من جهة وبين النتيجة الجرمية من جهة ثانية لا ينفيها اجتماع أسباب أخرى سابقة أو مقارنة أو لاحقة سواء جهلها الفاعل أو كانت مستقلة عن فعله.

وعلى هذا فإن للجريمة عنصرين هما النية والفعل سواء تم هذا الفعل أو لم يتم بسبب خارج عن إرادة الفاعل.
ـ من هم الأشخاص المسؤولون عن الجريمة؟ أي على من تقع تبعة الجريمة؟
وفقاً لقانون العقوبات اللبناني(7) فإن الأشخاص المسؤولين عن الجريمة هم:
أ ـ فاعل الجريمة وهو من أبرز إلى حيّز الوجود العناصر التي تؤلف الجريمة أو ساهم مباشرة في تنفيذها.
ب ـ الشريك في الجريمة وهو كل مشترك مع الفاعل في إبراز عناصر الجريمة إلى حيّز الوجود بحيث يكون مشتركاً مباشرة مع الفاعل في تنفيذها.
ج ـ المحرض وهو من حمل أو حاول أن يحمل شخصاً آخر بأي وسيلة كانت على ارتكاب جريمة.
د ـ المتدخلون والمخبئون:
ـ المتدخل هو من أعطى إرشادات لاقتراف الجريمة وحتى وإن لم تساعد هذه الإرشادات على اقتراف الجريمة، والمتدخل هو من شدد عزيمة الفاعل بوسيلة من الوسائل، والمتدخل هو من قبل ابتغاء لمصلحة مادية أو معنوية عرض الفاعل ان يرتكب الجريمة، والمتدخل هو من ساعد الفاعل أو عاونه على الأفعال التي هيأت الجريمة أو سهلتها.
ـ المخبئون: من كان متفقاً مع الفاعل أو أحد المتدخلين قبل ارتكاب الجريمة وساهم في إخفاء معالمها أو تخبئة أو تصريف الأشياء الناجمة عنها، أو إخفاء شخص أو أكثر من الذين اشتركوا فيها عن وجه العدالة، ومن كان عالماً بسيرة الأشرار الجنائية الذين دأبهم قطع الطرق أو ارتكاب أعمال العنف ضد أمن الدولة أو السلامة العامة، أو ضد الأشخاص أو الممتلكات وقدم لهم طعاماً أو مأوى أو مختبئاً أو مكاناً للاجتماع.

بعد تعريف الجريمة وعناصرها والأشخاص المسؤولين عنها نفتح صفحات وثائق ويكيليكس فيتبين لنا ما يأتي:
أ ـ زمن الوثائق هو العام 2006 أثناء الحرب على لبنان وشعبه من قبل العدو الصهيوني أي أن أي جناية تقع على أمن لبنان الخارجي تفضي إلى تحقيق مآرب العدو تصل عقوبتها إلى الإعدام(8)
ب ـ قيام بعض اللبنانيين(9) بارتكاب الجنايات المنصوص عنها في المادة 274 من قانون العقوبات اللبناني التي نصت على: «كل لبناني دس الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصل بها ليدفعها إلى مباشرة العدوان على لبنان أو ليوفر لها الوسائل إلى ذلك عوقب بالأشغال الشاقة المؤبدة. وإذا أفضى فعله إلى نتيجة عوقب بالإعدام».
وقد تبين ذلك من خلال الوثيقة الرقم 06BEIRUT2513 تاريخ 1 آب 2006 نشرتها جريدة الأخبار بتاريخ 16 آذار 2011 العدد 1364 حيث جاء فيها: «نصح بأن يحصل تقدم إسرائيلي كبير يسيطر على معاقل حزب الله في مارون الرأس وبنت جبيل مما سيمنح الولايات المتحدة فرصة لفرض وقف إطلاق نار في الوقت الذي يظهر فيه حزب الله مغلوباً».
إن هذه النصيحة هي تحريض دولة أجنبية على استمرار عدوانها على لبنان بشكل مباشر حيث إن هذا التحريض قد أفضى إلى وقوع المزيد من الخسائر في أرواح وممتلكات اللبنانيين.
وأيضاً من خلال الوثيقة الرقم 06BEIRUT2441 تاريخ 22 تموز 2006 نشرتها جريدة الأخبار بتاريخ 16 آذار 2011 العدد 1364 حيث جاء فيها: «تماماً كأعضاء آخرين في فريق 14 آذار الإصلاحي قال: إن وقفاً لإطلاق النار بدون تقليص جوهري لقوة حزب الله سيعطي هذا الأخير ببساطة موقعاً مهيمناً في الساحة السياسية اللبنانية، وسيفتح المجال لتجدد أعمال القتال في المستقبل القريب…».
إن هذا القول يدل على تحريض واضح وصريح باستمرار العدوان على لبنان لتقليص قوة المقاومة وقد أفضى استمرار العدوان هذا إلى وقوع المزيد من الخسائر في أرواح وممتلكات اللبنانيين مما يعني إعمال نص المادة 274 من قانون العقوبات اللبناني.
وأيضاً من خلال الوثيقة الرقم 06BEIRUT2417 حيث جاء فيها: «… فإن أي وقف لإطلاق النار سيكون بلا قيمة، وسيقود إلى عدم الاستقرار وتكرار الأعمال العدائية، إذا لم يتضمن خريطة طريق تنص على الآتي: تبادل فوري للأسرى، نشر الجيش اللبناني في الجنوب وصولاً إلى الخط الأزرق، نزع فوري لسلاح حزب الله الثقيل (وخاصة الصواريخ)، «عودة مزارع شبعا».
إن هذا الاقتراح يشير بكل وضوح إلى التحريض على استمرار العدوان حتى الوصول إلى تحقيق خريطة طريق غايتها نزع سلاح المقاومة.
وأيضاً من خلال وثائق أخرى كثيرة نشرتها جريدة الأخبار
ج ـ قيام بعض اللبنانيين بارتكاب الجنايات المنصوص عنها في المادة 275 من قانون العقوبات اللبناني التي نصت على: «كل لبناني دس الدسائس لدى العدو أو اتصل به ليعاونه بأي وجه كان على فوز قواته عوقب بالإعدام».
وقد تبين ذلك من خلال الوثيقة الرقم 06BEIRUT2403 حيث جاء فيها: حزب الله يكدّس السلاح منذ سنين وترسانته مخبأة جيداً ومحمية في مكان ما من سهل البقاع…».
هذا القول وما فيه يتضمن إعطاء معلومات عن ترسانة المقاومة المخبأة في سهل البقاع وهذه معلومة تساعد على مساعدة العدو في فوز قواته عندما يقوم بمعرفة مكان هذه الترسانة وتدميرها وهذا ما ينطبق على ما جاء في المادة 275 المذكورة لا سيما في إشارتها ودلالتها إلى التعاون والاتصال بالعدو بأي وجه كان سواء كان هذا التعاون أو التواصل مباشراً أو بالواسطة خاصة أن من أعطى هذه المعلومة يعلم علم اليقين بأنها سوف تصل إلى العدو عن طريق كاتب الوثيقة المذكورة.
وقد تبين ذلك من خلال البرقية الرقم 06BEIRUT2471 حيث جاء فيها: ….»ان إسرائيل غير مضطرة إلى حل القضيتين (شبعا والأسرى اللبنانيين) فوراً، لكن عليها الإشارة إليهما ضمنياً في أي مشروع لوقف إطلاق النار…» مما سوف يسبب إضعافاً لحزب الله.

إن هذه النصيحة للعدو ليخرج منتصراً في حربه ضد المقاومة وخروج المقاومة مهزومة فإنها وجه من وجوه الاتصال والتعاون مع العدو الصهيوني مما يشكل الجرم المنصوص عنه في المادة 275 عقوبات. بعد هذا أبحث في الجريمة وإبراز المواد القانونية التي تعاقب على الأفعال الجرمية التي أتت على ذكرها الوثائق لا بد لنا من البحث في القيمة الثبوتية لهذه الوقائع على الصعيد القانوني الجزائي بمعنى آخر ما هي القيمة القانونية لهذه الوثائق وهل تشكل إثباتاً قانونياً يمكن الارتكاز إليه في الإدانة؟ إن إثبات الجريمة يتم عندما يقام الدليل لدى السلطات المختصة بالإجراءات الجزائية على حقيقة قيام الجريمة أو عدم قيامها وبالطرق المشروعة وبيان نسبتها إلى المتهم وشركائه (10)
وعرّف الإثبات في المواد الجزائية (جنحة ـ جناية) بأنه النتيجة التي تحققت باستعمال وسائل الإثبات المختلفة، أي إنتاج الدليل(11).
كما عرّف الإثبات في المواد الجزائية بأنه الوصول بالدليل المقدم في الدعوى الجزائية في مراحلها المختلفة سواء بالنفي أو الإثبات، وبطريقة مشروعة إلى مبلغ اليقين القضائي(12).
والإثبات هو صاحب الدور الحاسم في مصير الدعوى الجزائية وهو العصب الرئيس للحكم الجزائي، إذ فيه يكمن السبب الذي يقود القاضي إلى إصدار هذا الحكم بالإدانة أو البراءة(13). وهو الوسيلة التي يتوسل إليها صاحب الحق إلى إقامة الدليل على قيام هذا الحق، وتقديمه للقضاء ليمكنه منه(14). والهدف من عرض الأدلة أمام المحكمة هو إقناعها بصحة الوقائع التي تتضمنها هذه الأدلة، سواء في مجال الإثبات أم النفي.

وفي القضايا الجزائية لم يرسم القانون اللبناني للقاضي طرق الإثبات للوصول إلى الحقيقة ليصدر حكمه، ولم يحصر له قيمة أي من طرق الإثبات، بل ترك للقاضي أن يختار من طرق الإثبات ما يوصل للحقيقة، وله مطلق الحرية في اختيار أي وسيلة ممكنة يطمئن إليها ليكون اقتناعه الذاتي، وهذا ما ذكرته المادة 179 من قانون أصول المحاكمات الجزائية في فقرتها الأخيرة: «يقدر القاضي الأدلة بهدف ترسيخ قناعته الشخصية» كذلك «يمكن إثبات الجرائم المدعى بها بطرق الإثبات كافة ما لم يرد نص مخالف». وهذا يعني أن قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني قد أخذ بمذهب الإثبات الحر أو ما يسمى (بالمطلق).

وعلى هذا فإن البنية أو الدليل أو الإثبات في القضايا الجزائية (الجنحة ـ الجناية) يمكن ووفقاً للقانون قيامهم بجميع طرق الإثبات بما فيها الشهود والوثائق. وهنا نأتي إلى بحث القيمة القانونية لوثائق ويكيليكيس:
من المعروف ان وزارة الخارجية الأميركية لم تنف صحة هذه الوثائق وأيضاً أثبتت صدقية بعضها من خلال من وردت أسماؤهم فيها لا سيما من قبل النائب وليد جنبلاط وسمير جعجع.
وأيضاً بعدم صدور نفي جدي عن الآخرين وإن كان بعضهم قد حاول أن يدلي بتوضيحات ويهرب إلى الأمام بمواقف تذكيرية بالماضي النضالي، أو العروبي أو السيادي.
وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم هذه الوثائق إلى قسمين لناحية الإثبات القانوني:
أولاً ـ الوثائق التي لم ينفِ من ذكرت أسماءهم فيها ما ورد على لسانهم بل أكدوا ما جاء فيها تعتبر بمثابة إقرار والإقرار على الصعيد القانوني يعتبر سيد الأدلة،
ثانياً ـ الوثائق التي نفى من ذكرت أسماؤهم فيها ما ورد على لسانهم تعتبر بدء بنية خطية يمكن إثباتها بكافة طرق الإثبات بما فيها شهادة الشهود وغيرها لتصبح بنية خطية قاطعة.
وفي الدراسة القادمة سوف نتناول البحث حول الجهة القضائية المختصة للنظر بهذه الجرائم الخطيرة على صعيد الأمن الوطني والفردي وما سببته من خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات.

السابق
اللبنانييون: لا نريد تغيير النظام
التالي
الانقسام رجسٌ من عمل الاستعمار