اللبنانييون: لا نريد تغيير النظام

I الحريرية» الأولى… على قيد الحياة!
ذات زمن، حدث ما يلي:
انتهت الحروب اللبنانية، وتفاءل اللبنانيون خيراً بالحريرية الأولى. الآمال أزهرت تفاؤلاً بالمعجزات. الكهرباء غداً، المواصلات بعد غد، الزراعة على موعد مع مواسمها ومباسمها، الصناعة لمنافسة سلعية، الجامعة اللبنانية إلى سابق عهدها، الإصلاح رهن التطهير، التنمية، وفق نص الطائف، متوازنة.

كان ذلك العام ربيعياً حريرياً بالتمام والكمال. تفوقت الطبقة السياسية في الإشادة به، كلاماً وتفخيماً وتشريعاً، وما شذّ عن تلك المعزوفة العجائبية، حزب أو تيار أو طائفة… اشترك الجميع في ترجمة محاصيل ذلك الربيع، باستثناء قلة خفيفة الوزن، راجحة العقل والقيم والسياسة.

وكان لاشتراك هذه الطبقة السياسية أن تحول ربيع الحريري، إلى عقيدة سياسية اقنعت «الرأي العام» اللبناني بدعم «الإنماء والاعمار»، بدلا من التنمية المتوازنة، ودعم «الورشة» على حساب المزرعة، والديون على حساب الإنتاج، والريعية على حساب الدورة الاقتصادية. وساهمت اقلام وعقول «فذة»، في التبشير بالدور الجديد للبنان: خدمات، عقارات، مصارف، سياحة، ومدن مكتظة بالباطون والطرق الالتفافية و… سوليدير… ولبنان على أهبة السلام مع أوسلو.
هذا من الماضي. إنما استذكاره هنا، هو مناسبة تأليف الحكومة الميتة قبل ولادتها، على أيدي القابلات القانونية في قوى الثامن من آذار.

هذا الماضي، الذي طبع الحريرية الأولى، أصبح مدرسة في السياسة اللبنانية، حيث إن المدافع عن الحريرية، بسلبياتها وايجابياتها، لا يختلف في السياسة والإعلام والثقافة والتربية، عمن ينتقد الحريرية بايجابياتها وسلبياتها. فهو يكفر بالحريرية، لكنه لا يزال على صراطها، في جعل لبنان، مصرفاً وعقاراً وسياحة، بلا زراعة ولا صناعة ولا مؤسسات ولا محاسبة ولا قضاء ولا… إله إلا المال، لأنه من فضل ربي.

وهذا الكلام على الماضي، لا يهدف إلى إيذاء الحريرية (انها تؤذي نفسها بنفسها راهناً)، بل إلى فضح العقم الآذاري الآخر، جماعة 8، حيث إن شعوبهم لا تختلف عما تأتي به جماهير 14 آذار، من معجزات صوتية.

II الحريرية» مدرسة وتلامذتها أساتذة
ذات زمن حريري، حدث ما يلي:
قام وفد من مزارعي البقاع بزيارة مطلبية لوزير الزراعة (الوطني) شرح له المزارعون معاناتهم وقدموا مطالبهم وتمنوا على معاليه دعمهم. فمن دون الزراعة، سيضطرون إلى سلوك طريق «التهجير» الطوعي… سمع الوفد كلاماً ودياً من معاليه، وأكرم وفادتهم، وطيَّب خاطرهم، وأخذ منهم عناوينهم وتمنى عليهم ان يفكروا بغير الزراعة… أي، وداعاً للأرض وما عليها ومن فوقها.
وقام وفد آخر من مزارعي البقاع بزيارة رئيس لجنة الزراعة النيابية، وعرض الوفد مشكلة الزراعة و… استمع سعادة النائب الى شكوى الوافدين، فطيب خاطرهم وتمنى عليهم ان يفكروا بغير الزراعة… أي: باي باي زراعة.

الغريب، أن الوفدين، لما عادا إلى الديار، شكرا الوزير والنائب على حسن الضيافة وكياسة الاستقبال والبشاشة السياسية، وتبنَّيا ما قاله الاثنان «الخبيران» بتفليسة القطاع الزراعي في لبنان… الغريب، أن أحداً من الوفدين، لم يغضب من الوزير والنائب، وأن أحداً لم يقف ويسبهما، وان أحداً لم يتقدم ليصفع أحدهما على فمه ويُخرسه، لأن هذا الكلام، يعني القتل المستدام لعائلات، والقتل المنهجي لأرض، والتهجير الطوعي من قرى، كانت ذات أزمنة، تطعم لبنان غلالاً وترفده رجالاً، يصلحون للعمل الوطني… وللعمل السياسي.

الغريب، ان ما قاله معاليه وسعادته كان سليماً ودقيقاً. فلقد بات لبنان مستورداً لثمانين في المئة من سلته الغذائية، وباتت القرى اللبنانية مهجورة، إلا من عجائزها المرشحات لملء ما تحت التراب، ومنتظرة كرما خليجيا أو نفطيا، يقطره زعيم، أو تزكيه طائفة، أو تظلله بندقية أو… ما تيسَّر من أموال مهاجرين، يقال انهم يتعاملون مع الأبيض الكولومبي والحرام الإنساني. أما المهاجرون العاملون بعرق جبينهم، فلا يتوفر لهم ما يدعمون به أحداً.
غريب!!! الحريرية تفوز اليوم، كما فازت بالأمس، على خصومها والتيارات المناوئة لها، باستثناء قلة قليلة، برهن على وجودها، الوزير شربل نحاس… هل من آخرين يتقدمون ليعلنوا عن ضرورة صفع صاحب المعالي على حنكه الأسفل، كي يتوقف عن ازدراد الكلام؟

III ـ تأليف حكومة بعد وفاتها
مناسبة هذا الكلام، تأليف الحكومة الميتة، والتقدم من جثتها لتنال ثقة بعض المجلس النيابي، بطريقة لا تخلو من الحريرية الأولى…

المزارعون، كما أسلفنا، خرجوا من لدى المسؤولين عن الزراعة وهم يشيدون بكرمهم وضيافتهم. واللبنانيون اليوم، باستثناء خميرة شبابية جديدة، لا يزالون يفاضلون بين هذا وذاك وذلك، وبين ذلك وذينك. وكل هؤلاء وأولئك، علما بأن الجميع قد أبلغنا من زمان: ودعوا السيسةز لقد ماتت.

في دول أخرى، ذات مزاج ديموقراطي سليم (لا عكر طائفياً فيه)، تتألف الحكومات، بناء على سياسات وبرامج وخطط ومواعيد وأرقام ونسب وقناعات، تخطب ود الرأي العام المتنبه لمصالحه المباشرة على الأقل… أما في دولتنا الحريرية الراهنة، ولو كانت بأسماء «أنتي حريرية»، فلا خلاف بدر حول المسألة الزراعية. ويجب ألا يظن أحد أن الخلاف هو على اصلاح الإدارة، فهي حزب الفساد الأعظم في لبنان كأحزاب الفساد العظمى في الدول الدكتاتورية الاستبدادية، المترنحة في محيطنا العربي. يلزم أن لا يراود أحد من اللبنانيين، أن مفتعلي تأليف الحكومة، يفكرون بأزمة الهجرة المستدامة، والبطالة المتزايدة، عبر العمل على سياسة خلق آلاف فرص العمل، لشبابنا وشاباتنا الذين يتخرجون من الجامعات، حاملين معهم حقائب السفر، قبل الإجازة الجامعية… يجب ألا يظن أي لبناني، سليم العقل، أن قوى 8 آذار بالذات، تبحث في حل أزمة المحروقات وأزمة السير، وفساد الضمان الاجتماعي، وتنافس الأجنحة الأمنية المتحزبة. يجب أن يغيب عن بال كل لبناني، أن هؤلاء يقومون بلعبة الكراسي: واحد لهذا واثنان لذاك، وسبعة لمن تفوّق طائفياً، إن بدعم العلمانية لفظاً، أو باقتراح إلغاء الطائفية السياسية لماماً ومن تحت لتحت. يجب أن ننسى كلياً، أن أهل الحكم يبحثون في مسألة المديونية الباهظة، واللبنانيين المهددين بالتهجير من بعض بلاد الهجرة العربية والإفريقية. يجب أن لا يكون اللبنانيون أغبياء جداً، ليدركوا ان تأليف الحكومة وتعذر ايجاد المخارج لها، هما حول التنمية المتوازنة، والأحوال الشخصية وكيفية تطبيق الدستور… الحكومة القادمة صفقة مربحة جداً، إنما لقلة من الطائفيين وزبانيتهم.

وتتحمس وسائل الإعلام في نقل تصريحات وتلميحات وكواليس إدارة تأليف الحكومة. تدافع عن حصة لرئيس الجمهورية الماروني (وقد كانته له حصة في الحكومة الماضية، تبين انها حصة مستأجرة من هنا الذي هو ضد هناك)، يقابله دفاع عن حصة الجنرال عون، على اعتبار حقه المطلق في تمثيل المسيحيين، موارنة وأورثوذكسا وكاثوليك وأرمنا، لأن لا أحد يعيد حق المسيحيين إلى نصابه الطائفي غيره، مع الإصرار على أن الهدف من هذه الغلواء الطائفية المستجدة عونياً، هو إلغاء الطائفية!!!

ثم تندفع هذه الوسائل الإعلامية، للدفاع عن وزارة الداخلية أو الهجوم عليها. ويتبنى «آل لبنان العظيم»، ما يقوله زعماؤهم وخبراؤهم وإعلامهم، وتماماً، كما فعل وفدا مزارعي البقاع في الدفاع عن معاليه، بدلا من الدفاع عن مصالحهم. فكل عنزة معلقة طوعاً بكرعوبها. وكراعيب لبنان مزينة بأعناق الماعز اللبناني.

أليس من أجل ذلك، تتأخر ثورة التغيير في لبنان؟ أليس لأن الجيل اللبناني الراهن، باستثناء قلة من شبابه وخيرة بناته، لا يزال يتحدث ويؤيد ويتفانى ويستعد لتنفيذ شعاره، «بالروح بالدم نفديك يا فلان» و»الله وفلان وبس». وهذا الفلان، هو الاسم الحقيقي لستة أو سبعة من زعماء لبنان، ذات 14 وذات 8 آذار.

IV ـ عنصرية باسم الحضارية
غريب. يعتبر اللبناني نفسه متفوقاً ومتقدماً وحضارياً. وعندما يقيس نفسه، لا يقبل إلا مقاييس أوروبية وغربية على العموم. على أن واقع الحال، يفيد أن لغة وخطاب الأجيال العربية الجديدة، يؤكدان تفوق التوانسة على اللبنانيين، وتقدم المصريين على أبناء فينيقيا، ورقيَّ أهل البحرين، بالمقارنة مع آل البيوت اللبنانية العفنة، وعقلانية القبائل اليمنية تنويرية في مقابل جاهلية الذكاء الطوائفي الاجتراري، وسمو الشباب الكردي الثائر على كرده، أفضل من ألاعيب وأكروبات الطوائف.
غريب… لغة البلاد العربية تغيَّرت. إعلامها تغيَّر. لغة شبابها جديدة، مختلفة، مفهومة، واضحة، صريحة، جارحة، نقيَّة، صادقة، مباشرة، نافذة و… تصلح للمستقبل.

لغة حركات الشباب التغييرية تخاطب الوطن، كل الوطن، لا فئة منه. وتدافع عن الوطن، كل الوطن، لا عن طائفة أو عرق أو حزب فيه. ثم انها لغة عصرية: يريدون إسقاط النظام العربي الرسمي، أو تغييره، أو إصلاحه، لجهة استبدال الاستبداد بالحرية، وجعل الديموقراطية البرلمانية، قاعدة السلطة، لا العائلة أو الحزب القائد أو الأمن القابض، أو رجال الأعمال، ممن يمتهنون اللصوصية في الاقتصاد والمال والسياسة والأخلاق والفن. لغة لا التباس فيها تقول انها ترفض تحالف المال والسلطة، وزواج السلطة والأمن، وقرابة السلطة والطائفة. ترفض التوريث، لأن الحكم ليس لعائلة مالكة أو لعائلة استملكت بالقوة والقمع، مقاليد ورقاب وحياة الناس.

لغة الجيل الجديد من شباب العرب، ملاحقة الفاسدين والمفسدين، واسترداد أموال وأملاك الدولة، والتعجيل في محاكمة المتورطين ومعاقبتهم، وفق النصوص القانونية وبمحاكمات شفافة. لغة الجيل الجديد، لغة حماية الإنتاج الوطني، لتوفير فرص عمل في قطاعات الزراعة والصناعة والحرف والسياحة والإدارة والعلوم الحديثة. لغة جيل يرى إلى الأمة أنها قادرة على حمل مسؤولياتها الإقليمية والوطـــنية والقوميـــة، دونما اعتماد على دول عظمى، للحماية والرعاية في مقابل أثمان مذلـــة. لغــة جيل، لا يستبعد بناء قواه الذاتية، بجهد ذاتي. لغة تنبذ العنف والعنــف المضاد، وتنفتح على العروبة وعلى فلسطين، بملء خياراتها، ولو تعــددت.
هذا الجيل، إذا قارنت لغته وخطابه، مع لغة السلطة العربية المنتشرة في أنظمة الاستبداد والنهب والقمع والتوريث، لوجدت أنك مع جيل يصنع المستقبل، مقارنة مع سلطة حوَّلت الحاضر إلى ركام وحطام، سياسي واقتصادي ومالي وأخلاقي ونفسي، أو وجدت انك مع جيل يحاكي الإبداع، مقارنة بجيل من سلطات الاجترار والتكرار.

أين جيلا 14 و8 آذار من ذلك؟
انهما يبزان وفدي الزراعة. يعرفان أن الحلول منعدمة، لكنهما، يبوسان ويحرسان الأيادي التي تكسر أعناقهم وتزيلها لحسابها وسياساتها.
فأي مقارنة تجوز، بين جيلي آذاريي لبنان، وأجيال تونس واليمن ومصر والبحرين والأكراد وسوريا وأبناء الفجر العربي الجديد؟
لا مقارنة تجوز… نحن عباقرة السخف السياسي. هم أنبياء الآية العربية الجديدة، آية من وحي عقولهم وإرادتهم وحريتهم.
V ـ جيل لبناني لا يمت الى لبنان الطائفي
قيل كلام كثير على جيل من الشباب، نزل إلى الساحات اللبنانية، رافعاً شعار: «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي». السياسيون لم يسمعوا. أو، سمعوا وسخروا من الشباب، على جاري عاداتهم في احتقار الناس وكرههم والاستخفاف بهم. وهذا تقليد سياسي معروف. فالزعماء في لبنان، يكرهون شعوبهم، فيما تتنافس شعوبهم المكروهة في الدفاع عنهم والتماهي بهم و… «بالروح، بالدم، نفديك يا فلان»!
بعض الإعلاميين، ركز على خلافات وجهات النظر الشبابية، على فوضاهم، على أخطاء يرتكبونها، على مخيِّلة جموحة، على تنافس حزبي ـ مستقل… بحثوا في الهوامش، للطعن بمسيرة «أنبل الناس وأشرف وأعقل وأجرأ الناس… في البحث عن وطن وفي بناء الدولة»، ولو بالشعار.

هؤلاء الشباب، وقد حضرت عدداً من لقاءاتهم واستمعت إلى أعداد كثيرة من شعاراتهم، وخرجت معجباً بلغتهم الجديدة التي لا تمت بصلة، إلى لغتي 14 و8 ولا إلى أي لغة سياسية يتناوب عليها الإعلام. لقد بدا لي ان هؤلاء، جيل لا يشبه جيل وفدي المزارعين، الذين قبَّلوا أيدي معاليه وسيادته، التي وقعت على موت أرزاقهم ومصالحهم.

فوضى الشباب الجدد، رائعة. أخطاؤهم أروع. شعاراتهم تخاطب المخيّلة وتحاكي الطموح. مسيراتهم المتنقلة، تأخذنا إلى لبنان اللاطائفي، العلماني، المدني، الديموقراطي، العقلاني، المتعدد الخيارات، وليس المتعدد الانتماءات القبلية والتناسلية.
كل ما جاء به الشباب، لا يشبه لغة اللبنانيين الأشاوس، عصبويي 14 و8 آذار. انهم رائعون، لأنهم حسموا علاقتهم مع لبنان الطائفي ورموزه. انهم مثاليون، لأنهم شديدو الارتباط بواقعية المطلب الديموقراطي. انهم أهل قلوب لا تميز بين دين ودين، يقتربون من ابن عربي الحديث، «أدين بدين الحب»، وليس بدين الدين. وعليه، فالزواج المدني الاختياري، هو قيمة كبرى، وليس مسألة توافقية وإدارية رخيصة.

هذا الجيل اللبناني، له لغة تشبه لغة الشباب العربي. ويعوَّل عليه. وان المراهنين على فشله والمتخلين عنه، هم من طائفة الطوائفيين، ولو كانوا يساريين وقوميين وعلمانيين وأهل عقل.
لدينا في لبنان اليوم، جدول أعمال حكومي باهت، وبيان حكومي منصوص ومقروء وممجوج، كما لدينا، جدول أعمال شبابي تنتشر عناوينه في أكثر من مكان.

من بين هؤلاء الشباب، من يستطيع ان يقف في وجه الرموز ويقول: لسنا مزارعين عندكم. نحن الأصل الصالح، وأنتم الفروع الواجب تشذيبها بالتقليم والحذف، لعلكم تثمرون عملاً، تلتزمون فيه بالمساهمة في تمهيد الطريق، لبناء دولة علمانية ديموقراطية شفافة…

سنتأخر كثيراً… لكننا سنصل.

السابق
“ريحانة التربية” في النبطية تحتفل بعيدي الام والطفل
التالي
وثائق ويكيليكـس: قرائن قانونية على أفعال جرمية