هل الثورة ضد القومية العربية؟

التيار الثوري يجتاح الوطن العربي بلداً بعد آخر ـ بالاحرى قطراً بعد آخر ـ والجميع منذ البداية الاولى في تونس كوّن تصورا محددا بأن الثورة في كل هذه الحالات «عربية».
خلال الاشهر الثلاثة الماضية منذ بدأت الثورات العربية تدق ابواب الوطن العربي، لم تظهر بادرة شك تشير الى ان هذه الثورات بعيدة بأهدافها ومبادئها عن خطورة الحالة الانقسامية التي يعيشها الوطن العربي، في ظل نظم الحكم الفاسدة والمستبدة التي انفردت بحكم كل من هذه البلدان، ولم تبد خلال ذلك اي قدرة على خلق جو وئام بينها، سوى ما يسمح باستمرار الانقسام واستمرار الاستبداد واستمرار الفساد.

ولم يقدر لجامعة الدول العربية ان يكون لها اي دور في تفجر اي من هذه الثورات. وهذا امر طبيعي، فإن الجامعة العربية بدت طوال الوقت منذ تأسيسها وكأنها اداة تجزئة وتقسيم للوطن العربي ولم تبد ابداً قادرة على أداء دور وحدوي. الى ان وقعت الثورة في ليبيا وانقضّت الجامعة العربية على هذا الحدث لتعتبره فرصة للقيام بدور البواب الذي يفتح الباب امام التدخل الغربي. فاعتبر حلف الاطلسي (الناتو) قرار الجامعة العربية بالوقوف مع الثوار الليبيين ضد النظام إشارة ضوء اخضر تلغي حالة التردد الاطلسية التي حالت لبعض الوقت دون التدخل في ليبيا، فتدخل حلف الاطلسي لإقامة منطقة محظورة جوياً على النظام الليبي. وما لبثت ان تحولت هذه المنطقة الى منطقة هجوم جوي يسبق كل هجوم بري للثوار الليبيين على القوات الموالية للقذافي. ونفع غطاء الجامعة العربية في تكريس الدور الاطلسي لأول مرة في تاريخ هذه الجامعة.

بعد هذا التطور الخطير الذي انفردت به ليبيا، بالاحرى قصدت به ليبيا، بدأت تظهر خلال الايام الاخيرة تعليقات لبعض الكتاب العرب في الصحافة العربية مفادها ان الثورات العربية المتتالية هي ثورات ضد القومية العربية. ضد التيار العروبي لا معه. نغمة جديدة تماما ربما لم ينتبه اليها الثوار حتى الآن، لكن من المؤكد ان ينتبه اليها انصار الثورة المضادة، التي تستطيع الآن ان تعتمد كل الاعتماد على حلف الاطلسي ودوره العسكري في ليبيا. وقد بدأت تلوح في افق هذا البلد بوادر الدعوة لتدخل عسكري مباشر على الارض بوجه الاحداث في ليبيا. ومن المؤكد ان مشاركة بلدين عربيين ـ من اعضاء جامعة الدول العربية ـ في دور الاطلسي العسكري، في توجيه الثورة الليبية وإعادة صياغة اهدافها، انما يعطي للحلف ترخيصا مسبقا بالتدخل من دون انتظار لطلب من الثوار او لطلب من الجامعة العربية.

ولقد تواكب هذا التطور في ليبيا مع ظهور بوادر الانقسام في ثورات البلدان العربية الاخرى بين التيارات المدنية والتيارات الدينية. ويبدو ان هذا الانقسام لم يعف من اعراضه أياً من البلدان العربية التي اجتاحتها الثورات التي اكدت من بداياتها حرصها على طابعها المدني. شيئا فشيئا بدأ التيار الديني يتوغل في العمل السياسي في محاولة للتأكيد بأنه التيار الثوري الذي بدأ الثورة وأن غيره مدّع ولا بد من ازاحته من الطريق.
وقد قطع هذا الانقسام بين التيارات المدنية والتيارات الدينية شوطا كبيرا في مصر بما استطاع ان ينجزه خط التيارات الدينية من نفوذ انعكس بشكل خاص في نتيجة الاستفتاء (الذي جرى يوم 19 اذار/مارس الماضي) على الاختيار بين دستور جديد لمصر الثورة، او الإبقاء على دستور مصر ما قبل الثورة المعروف باسم دستور 1971. لقد اسفر هذا الاستفتاء عن نتيجة غير منتظرة بالمرة، فازت فيه القوى الدينية (التي تحالف معها الحزب الوطني حزب حكام مصر الذين خلعتهم الثورة) وبهذا الفوز اصبح دستور 1971 هو الدستور المقبول للغالبية والذي يمكن ان يبقى للفترة الانتقالية.

لم يكن من الصعب ان يتبين المتابعون ان التيارات الدينية المصرية، ممثلة في الاخوان المسلمين وجماعة الجهاد الاسلامي وجماعات السلفيين، هي التي تمكنت من تحقيق هذا الانتصار عن طريق خداع جماهير المصوتين بالزعم بأن القوى التي تقف وراء رفض هذا الدستور، هي القوى التي تريد إلغاء المادة الثانية من هذا الدستور، التي تنص على ان الاسلام دين الدولة المصرية، وأن القران الكريم هو مصدر التشريع للقوانين فيها. ولم يكن هذا هدفا بأي حال لا للثورة ولا للتيارات المدنية. وقد بذلت الجماعات الدينية جهدا كبيرة خارج اطار هذا الاستفتاء، لتؤكد وجودها في حوادث عديدة تخللتها اعتداءات على الأقباط ـ المسيحيين المصريين ـ وعلى الفتيات والسيدات غير المحجبات.
المهم انه على اثر الاستفتاء ـ وحتى مع قبول «ائتلاف الثورة» المؤلف من قيادات الشباب الذين شكلوا خط الدفاع وخط الهجوم الاول للثورة المصرية من بداياتها ـ اخذت التيارات المدنية تتنبه الى خطر التيارات الدينية الرامية الى اختطاف الثورة وتوجيهها بعيدا عن مراميها الاساسية التي نجحت بها وحدها في إسقاط حسني مبارك وعدد من اركان نظامه، ولا تزال تؤكد وجودها على الساحة في المراحل التالية الرامية الى إسقاط النظام بأكمله. والامر الذي يعيه قادة الثورة الآن أن التيارات الدينية يمكن اذا سيطرت في مصر ان تكرر المأساة التي جرت وتجري في ليبيا.

لكن ما حدث في مصر ـ ولا يزال في حدود المعقول والمحتمل ـ يعتبر استثناء اذا قيس بقدرات التيارات الدينية في كل من تونس وليبيا واليمن وسوريا والعراق وما قد يستجد. ففي كل هذه الحالات تبدو التيارات الدينية قوية وتبدو مصممة على ان ترهب الجماهير باسم الدين، وتحول الانظار عن الاهداف الثورية نحو اهداف إما إرهابية في المحتوى والشكل وإما أخروية اساسها الخوف مما بعد الموت. ولا يكاد يكون هناك ادنى شك، في ان التيارات الدينية هي مصدر الفكرة التي ظهرت في الايام الاخيرة والقائلة بأن الثورة العربية انما تنتزع نفسها وبلدانها من تيار القومية العربية.

ولا بد ان يكون واضحاً في هذا المجال ان الثورة المدنية، التي بدأت في الوطن العربي قبل اشهر قليلة، في أسسها ودوافعها وأهدافها تنتمي لفكر القومية العربية. ولا يمكن لأحد يستند الى الحكم السليم عقلياً ان ينكر ان فكر القومية العربية مدني في الاساس وليس دينياً. ليس فقط لأن مجموعة من اخلص وأقدر الرواد من المفكرين القوميين العرب كانوا مسيحيين، انما لأن الفكر القومي بطبيعته فكر تقدمي مدني وأنه يرفع حيثما ازدهر ألوية الحرية والديموقراطية. والامر الذي لا شك فيه بالمثل ان الثورة العربية ـ ابتداء من ثورة تونس المجيدة والرائدة ـ انما حملت بين اخطر المظالم التي قامت لإسقاطها فكرة التمزق العربي الذي تسببت فيه الأنظمة الاستبدادية العربية، وفكرة الوقوف ضد حالة الضياع التي تكاد القضية العربية الاولى ـ قضية فلسطين ـ ان تكون قد انحدرت اليها بسبب سياسات التمزق العربية وسياسات المراوغة القطرية والعجز الجماعي الذي مثلته الجامعة العربية. وكذلك سياسة الضعف والتخاذل امام غطرسة اسرائيل وعدوانيتها، كما وصلت في سياسة مصر مبارك تحديداً، وإن لم تكن وحدها.

صحيح ان السياسات الخارجية لا تكون في الصدارة في اوقات اندلاع الثورات، وأنها يمكن ان تأخذ مكاناً جانبياً اوخلفياً بصورة مؤقتة، لحين الانتهاء من المظالم الداخلية التي تكون ـ في العادة ـ اكثر ظهورا وأشد ضغطا على احوال الشعوب.
وتدل مواقف وتصريحات شباب الثورة المصرية على ان بين معارضاتهم الاساسية ضد نظام مبارك ممارسات في السياسة الخارجية اضرت بمصالح مصر والشعب المصري وأذلت اسم مصر وحجمت دورها إقليمياً وقومياً. فكان ذلك بالضرورة بين اسباب تفجر الثورة في الصورة التي شهدها ميدان التحرير بالقاهرة وكل ميادين التحرير الأخرى في مدن مصر الكبرى بشكل خاص.
اما ان التيارات الدينية جميعا وبلا استثناء تتخذ مواقف تعادي الفكر القومي، فهذا لا يقتصر على التيارات الدينية في الوطن العربي، بل انها سمة عامة تتصف بها النظريات الدينية الغربية ـ سواء كانت كاثوليكية او بروتستانتية ـ ومن الضروري ان نعي انها سمة النظريات الدينية الاسلامية ايضا. ولعل من الضروري في هذا السياق ان نستعيد الى الذاكرة الى اي حد عادت التيارات الدينية في مصر جمال عبد الناصر، عندما كان في ذروة شعبيته عربياً، وعندما كان في ذروة قيادته لجبهة النضال ضد الاستعمار فى الوطن العربي وفي العالم الاسلامي وفي أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. لكن اليس هذا استشهادا بتاريخ قديم؟ نعم وقد تغيرت في افق القومية العربية ملامح كثيرة. ولكن هل تغير شيء في افق التفكير السائد في التيارات الدينية في الوطن العربي او حتى في العالم الاسلامي؟

وليس بخاف على احد ان التيارات الاسلامية في البلدان التي تفجرت فيها الثورة العربية لا تكاد تكون مشغولة بأي حال بإسرائيل او الخطر الاسرائيلي. ولم يسمع من الناطقين باسمها اي اعتراض عندما دعت اسرائيل حلف الاطلسي لأن يطبق على سوريا وإيران ما يطبقه على ليبيا، اي استخدام الحد الاقصى من قوته التدميرية. هذا فضلا عن ان برامج هذه التيارات ـ اذا جاز ان نقبل اعتبار إصداراتها الدينية برامج سياسية ـ لا تذكر اسرائيل او احتلالها للأراضي العربية اواعتداءاتها المتكررة على الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني ضمن السياسات التي تعمل لإنهائها او تحديها.

وحين اعلن «ائتلاف الثورة» في مصر قبل ايام (بالتحديد في 22 آذار/مارس 2011) «الحرب على مخطط الاستقطاب الديني داعيا القوى السياسية المدنية الى التوحد حول مطالب الثورة التي لم تتحقق بعد»، فإنه حذر في الوقت نفسه من ان «الاستقطاب الديني انما ينذر بحدوث انقسامات في المشهد السياسي المصري». وأكد بذلك انه يعي ان التيارات الاسلامية ستحاول استخدام الدين، ضد كل فكر مدني تحتويه اهداف الثورة ويحتويها. اما اذا اضفنا الى ذلك، تجربة ليبيا التي نجح الاستقطاب الديني فيها في اختطاف الثورة الحقيقية لحساب التيارات الدينية، فإننا نجد انفسنا امام اخطر الاحتمالات بالنسبة للثورات الاخرى حيثما كان التيار المعادي للقومية العربية هو الذي يملك الكلمة العليا لأنه عندئذ لا يمانع في التحالف مع الاعداء التقليديين للعرب والعروبة ليس فقط في مجال البيانات ـ كما كان يحدث كثيرا في الماضي ـ بل في مجال المعارك الحربية والقتل والتدمير… على النحو الذي تعاني منه ليبيا اليوم.

سيجد التيار الديني فرصة ـ بسبب احداث ليبيا ـ لإطلاق شعارات وصيحات ضد التيار الثوري العروبي. ويردد خلفه بعض المعلقين، كما سمعنا اخيرا ـ بين العرب وبين الغربيين ـ نظريات تهتف بسقوط القومية العربية في وجه هذه الثورات. وما اكثر الهتافات التي ترددت في الماضي بسقوط القومية العربية، لكن ترديد هذا الهتاف مع اصوات الصواريخ والقنابل والقاذفات الاطلسية فوق ليبيا يساهم في إسقاط هذه الشعارات ومعها التيارات الدينية التي تبدو متربصة بالثورات العربية المدنية.
إنها ليست نهاية القومية العربية انما بداية النهاية لأكاذيب التيارات الدينية عن نضالها ضد الأعداء، تستثنى من هذا المنظمات التي نشأت وبقيت منظمات للمقاومة.

السابق
بحر لبنان: حل مشكلة جبل النفايات في صيدا
التالي
هل بدأ البحث عن خليفة لخليفة؟ وزير الصحة في قبضة أسانج