الشيعية السياسية في مرمى الانتفاضات العربية

قبل أن يدشن الإمام الخميني جمهوريته الإسلامية العام 1979، وقبل معاينة الأدبيات السياسية لخروج المارد الشيعي من لحظات الانتظار السياسي، وقبل الحديث المتداول عن صحوة شيعية ممتدة من المحيط إلى الخليج، لم تكن الشيعية السياسية الإصلاحية منها والثورية، خارج الحراك التاريخي، وإن بدت بفعل عدم احتضان الدولة لها أقل تأثيراً في صناعة القرار.

مسارات متعرجة سلكها شيعة العالم العربي، بدءاً من الخلاف على قيادة الجماعة، في ما عُرف باجتماع السقيفة، الذي أفضى إلى غلبة السياق القبلي أو ما أسماه صاحب «المقدمة» ابن خلدون بنشوء «الخلافة بصلة العصبية القرشية الغالبة» شهد الإسلام أول ثورة، كان لها وقع دراماتيكي ما زالت تداعياته قائمة حتى الوقت الراهن؛ ثورة أقل ما يُقال عنها انها أغنت التاريخ الإسلامي ولم تكبله. المستفاد من الخلافات المتعاقبة، أن الشيعة أو المتأولة ـ من التأويل كما يفسرها العلامة عبد الله العلايلي ـ تعرضوا لاضطهاد ارتسمت مفاعيله منذ الجدال ـ العنيف في بعض مراحله ـ الذي دار حول خلافة الرسول؛ وفي الوقت الذي أُسس فيه لفقه سياسي، لم يتوان عن استنزاف المقدس، بعد أن أقامت الخلافة عدّتها على النص، وبعد أن حولت الإمامة تدريجاً، التاريخ إلى نص مقدس، مارست السلطات الحاكمة لعبة الإقصاء، تجاه الآخر الشيعي، الذي حقق أول انتصاراته في بناء الدولة الفاطمية.

اليوم، في ظل فورة الحركات الاحتجاجية الجارية في العالم العربي، تحديداً في البحرين، والسعودية، تطرح إشكاليات متداخلة: لماذا أسقطت هذه الحركات النظامين المصري والتونسي، وتعثرت في بعض الدول الخليجية؟ ولماذا يبدو أن الأنظمة الملكية أكثر صموداً بوجه التغيير مقارنة بالأنظمة الجمهورية؟ وما علاقة التعدد بالحراك الثوري؟ يبدو ان المجتمعات المنسجمة، أكثر قدرة على تحقيق منجزاتها؛ لكن الأهم وسط القمع الدولتي/ التاريخي، ما أظهرته الطبقة السياسية المسيطرة على الحكم من ردود أفعال سلبية تحديداً في الأنموذج البحريني، ولو أنها أكملت مسيرتها نحو الإصلاح الكامل، وتحاورت مع الفئات المكوِّنة للمجتمع البحريني، بصرف النظر عن طبيعة المطالب، لكان بمقدورها تجاوز كل هذه المنزلقات التي ستبقى كالجرح التاريخي، القابل للانفجار في أي لحظة.

أمام العالم العربي سيناريوهات متعددة، فهو إما أن يتجه نحو الحداثة السياسية، وإما أن يكرر تجارب الأنظمة السابقة، ولا شك في أن الطموحات المعقودة على هذه الانتفاضات، مهمة، لكن ثمة ارثا سلطانيا لا بد من تجاوزه. وفي ظل الطفرة الثورية، المتقاطعة مع صحوة الشيعية السياسية، أقله منذ الاحتلال الأميركي للعراق، هل يحق طرح السؤال التالي: إلى أي مدى تصب التحولات المباغتة، في مصلحة إيران، المتحدية للغرب الأميركي؟
حين أشار مرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي إلى ولادة شرق أوسط إسلامي، لا شك في أنه كان على إيمان كبير بما يقوله. وبعيداً عن المآلات المفترضة، نسجت إيران طوال السنوات الماضية شبكة من العلاقات، تحديداً في لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة، وهي بهذا المعنى عملت على المعطى الثقافي والديني والسياسي والاستراتيجي، ما أكسبها حضوراً لافتاً بموازاة غياب العرب، وعدم امتلاكهم مشروعا جامعا. وعلى هذا يمكن أن نفسر هواجس بعض القيادات العربية ومن بينها الملك عبد الله الثاني، والرئيس المخلوع حسني مبارك من نمو هلال شيعي ثوري.

تاريخياً، مرت الشيعية السياسية، بالتجربة الإصلاحية ـ أي معركة الأفكار ـ مع أهم روادها، في جبل عامل، والنجف، وقم، وسلكت لاحقاً، المدارج الثورية، مع محمد باقر الصدر، إلى أن وصلت إلى ذروتها مع الإمام الخميني، الذي رفض الفقه السياسي الانتظاري، وصاغ أطروحته حول ولاية الفقيه، وأقام الجمهورية الإسلامية عام 1979، كجواب عن سؤال السلطة المفقودة منذ بيعة السقيفة.
لم تقف صحوة الشيعة عند حدود إيران الثورة، بل تفاعلت مع بروز مقاومات، وفي مقدمتها حزب الله. ومن المعروف أن الإمام الخميني أسس في أدبياته لرؤية انقلابية، على الاستبداد والطاغوت، وقام بتوظيف رهاناته، بوصفها ثورة إسلامية أممية، أي أنه نقل الثورة إلى أطراف العالمين العربي والإسلامي تحت شعار «الموت لأميركا… وإسرائيل».

غير أن تصدير الثورة أدخل شيعة لبنان والعراق، في توتر مع محيطهم تحت ذريعة ولائهم لإيران وانتمائهم العقائدي والسياسي إليها، وهذا ليس صحيحاً، والدليل على ذلك أن الحرب التي خاضها الرئيس السابق صدام حسين بدعوى إيقاف المد الخميني، لم تكن سوى مخطط دولي للحد من قدرات العراق المتنامية، مع العلم بأن شيعة العراق قاتلوا مع الجيش العراقي وتجاوزوا أخطر اختبار لوطنيتهم. وإذا اعتبرنا حزب الله، الذي يجاهر بولاية الفقيه، أحد تجليات الثورة الإيرانية، فهذا لا يعني انه لم يعرف تحولات مفصلية نقلته من النمط الراديكالي إلى الواقعية. لكن خطورة هذه المرجعية، تُستغل في الداخل، تحت شعار أن شيعة الحزب، خارجون عن الدولة، وكيف تكون هذه المعادلة، والدولة هي المسؤولة عن حماية التعدد؛ شيعة لبنان كانوا من أشد الرافضين لدعوات الفدرالية خلال الحرب الأهلية، ما يعني أن الديني يوظف في إطار الصراع على إدارة الحكم تحديداً منذ العام 2005.

تكشف الانتفاضات التي تم إجهاضها في دول الخليج، عن أزمة جوهرية، تتمركز حول كيفية إدارة التنوع، السياسي، والديني؛ ولعل الأهم أن الحراك الثوري العربي، تقاطع مع صحوة شيعية عمادها تعملق المارد الإيراني. من هنا يمكن تفسير مخاوف عرب الاعتدال، الذين أقاموا جداراً وهمياً، بينهم وبين الفرس، عززه العامل التاريخي. وإلى أن تتبلور صورة الشرق القادم من مخاض الانتفاضات، من المهم تصالح الإسلام مع ذاته، ومع مجاله الجيو ـ استراتيجي.

السابق
إعادة الاعتبار للجماهير
التالي
البرامج المحظورة والعقوبات