إسقاط الطائفية السياسية..والعلمنة

في الوقت الذي تغفو بعض الدول العربية على أنظمة ديكتاتورية، وتصحو على أخرى، وجدت مجموعة واسعة من الشباب اللبناني الفرصة مؤاتية للانضمام إلى قافلة التغيير، عبر الدعوة إلى إسقاط النظام الطائفي. في 27 شباط كانت أول تظاهرة، بين مترددين في دعمها خوفا من أن أنامل سياسية تحرّكها، ومؤيدين لها باعتبارها حركة عفوية. شَقّ الشباب طريقهم في أحياء العاصمة بيروت مطالبين بقيام دولة علمانية. "نحن لا نسعى إلى تغيير النظام الطائفي فحسب، إنما إلى إسقاط رموزه، أي الزعامات الموجودة، ورؤساء الاحزاب الطائفيين الذين كرّسوا ذهنية الوراثة والتبعية". هذا ما أوضحه بلال جابر، أحد الناشطين في هذه التظاهرة. مضيفا: "تحرّكنا هذا ليس مجرد موجة عابرة، فلبنان كان دوما الرائد في إطلاق التحركات الشعبية".

وبما أنّ هناك مطالب متنوّعة يهدف إلى تحقيقها الناشطون من هذه التظاهرات، يوضح جابر: "الهدف الابعد هو الوصول إلى دولة مدنية علمانية ديموقراطية، تضمن المساواة بين الرجل والمرأة، حيث يتساوى أفرادها في حقوقهم وواجباتهم بصرف النظر عن انتمائهم الطائفي والمذهبي، كذلك إقرار قانون انتخابي جديد".

وعن موقفهم من المحكمة الدولية والسلاح غير الشرعي من مطالباتهم هذه، قال: "لم نتطرّق إلى هاتين المسألتين لأنهما من أبرز نقاط التجاذب الحاصلة بين القوى السياسية. في المقابل، نسعى قدر المستطاع إلى التركيز على حقوق المواطنين وإصلاح القوانين".

جابر، كما كثر من الناشطين، يعتبر ان أبرز ما حققته التظاهرة حتى الآن هو"مخالفة قاعدة ان الشباب لا يجتمع إلا إثر شحن سياسي مذهبي تمارسه القوى السياسية بحَقّهم". في هذا السياق، أشار جابر ان "لكل تحرّك مفعول خاص، ورسالة معينة يعكسها. فعلى سبيل المثال، في التظاهرة الاولى عبرنا خطوط التماس، كما كان يسميها البعض بين "شرقية" و"غربية". أما في التحرك الثاني، فقد كانت مؤسسة كهرباء لبنان محطة الوصول، وهي من رموز الفساد التي أنهكت خزينة الدولة".

سمات متنوعة طبعت سلسلة التحركات المطالبة بإسقاط النظام، منها التعبير السلمي الذي ينتهجه المناضلون، بالإضافة إلى غياب أي رئيس يختصر آراء الشباب. في هذا الاطار، أكّد جابر "حرصهم على عدم تسمية أي مسؤول محدد، لأن جميع المناضلين بإمكانهم التعبير عن مواقفهم على المستوى ذاته. وعند اتخاذ القرارات، نأخذها بالإجماع". أضاف: "تعمل الأحزاب وفق 3 محركات، فهي تلجأ إمّا إلى الدين أو السلاح أو المال لمخاطبة جمهورها، في حين أن تظاهرة اسقاط النظام الطائفي، تعتمد بالدرجة الاولى على عزيمة الشباب وإرادتهم".

وأكّد جابر، ان التظاهرات لن تبقى بشكلها العفوي من ناحية تنظيم برنامجها للمرحلة المقبلة: "نحن في صدد متابعة النقاش في ما بيننا، وقريبا نلتقي مع خبراء واقتصاديين وقانونيين لوضع الأسس حول مطالبنا ولبلورة أفكارنا، إلى ان نصل إلى وثيقة اقتصادية – سياسية – اجتماعية". مؤكدا سَعيهم "للبقاء على مسافة واحدة من إعلام 8 و14 آذار".

وحرصا على تثبيت عدم مركزية المطالبة بإسقاط النظام، يسعى المناضلون إلى تعزيز التظاهرات في المناطق كافة، كما سيكون لها ندوات، خصوصا في المدارس والجامعات والأماكن العامة، بهدف توعية المواطنين على حقيقة مفهوم العلمانية".

من جهتها، أثنت المناضلة إلسا دورليان على الفرصة التي انتهزها شباب لبنان للمطالبة بدولة علمانية، مؤكدة "ان المشكلة الأساس تكمن في النظام السياسي الذي يحرم الشباب فرص التقدم وإدارة مناصب ريادية، في ظل تحكّم المحسوبية". دورليان واحدة من الشابات المؤمنات بضرورة رفع الصوت عاليا، موضحة "ان الهدف من المطالبة بإسقاط النظام، هو الوصول إلى دولة علمانية تتعامل مع أفرادها كمواطنين لهم حقوق وواجبات على حَد سواء".

في هذا السياق، عبرّت إلسا عن انزعاجها من محاولة بعض القوى السياسية استثمار جهود الشباب وعزيمتهم، وتوظيف التظاهرات لمصالحها الخاصة، فأكّدت ان "تحرّك الشباب لم يكن فولكلوريا، إنما له غايات سامية لا يمكن لأحد تجييرها لنفسه". وهنا لا بد من الاشارة إلى ان المطالبة في إسقاط النظام ستستمر في الايام القادمة، في 2 نيسان ستكون في طرابلس، و3 نيسان في صيدا. كما ان "التحضيرات ستبدأ لإحياء ذكرى الحرب الأهلية".

من جهة أخرى، أشار البروفسور جيروم شاهين إلى وجود الكثير من الالتباسات حول مفهوم العلمانية في أذهان المواطنين، مؤكدا "ان الفرق شاسع بين إلغاء النظام السياسي الطائفي وإلغاء الطائفية ككل، من أجل الوصول إلى علمانية شاملة". وأوضح "ان العلمانية لا تعني ابدا الالحاد، إنما فصل الدين عن الدولة. وبالتالي تنطلق العلمانية من وجود مستويين في الحياة: الاول المعنى، اي القيم التي يجب ان تسود، وماذا بعد الموت، بحيث يهتم الدين بهذا الجانب". وتابع: "أما المنحى التقني فهو كل ما يختص في تنظيم الامور اليومية، كالدورة الاقتصادية، وكلّ ما يعمد المجتمع على تنظيمه بنفسه".

في هذا الإطار سأل شاهين، هل نريد إزالة الطائفية من النفوس قبل النصوص؟ أو من النفوس والنصوص في آن معا؟" موضحا: "ان العلمانية ليست ضد الطوائف بل هي ضمانة لها، بحيث تضمن بقائها من دون تدخلها في السياسة كطائفة، لأن المواطنين هم من يقررون حياتهم الدنيوية".

شاهين هو من المفكرين الذين يشجعون مبدأ العلمانية، وفي الوقت عينه يحذرون من صعوبة المضي بها قدما من دون المرور بمراحل محددة، وآلية واضحة، لذلك أوضح: "في البداية لا بد من تكريس الانتماء إلى المواطنة وليس إلى الطوائف، فمشكلتنا في لبنان اننا نعطي الأولوية للمذهب على حساب الوطن".

أضاف: "لا يمكن بلوغ دولة علمانية ما لم ينشأ الشباب منذ طفولتهم وهم على المقاعد الدراسية على نزع الطائفية من نفوسهم"، معتبرا انه يصعب إزالتها من النفوس من دون آلية محددة المعالم".

لا ينكر شاهين أن البعض يتخوّف من إلغاء الطائفية السياسية، لأن الغلبة تصبح لديموقراطية العددية. ولذلك أوضح: "سيكون بإمكان الطائفة الأكثر عددا أن تفرض آرائها، وأنا أتحدث تحديدا عن إخواننا المسلمين. ومع تفشّي الطائفية في النفوس، سينتخب اللبنانيون وفق انتمائهم الطائفي، من دون العودة إلى اي برنامج انتخابي، وهنا يكمن الخوف الكبير لدى معظم الناس".

وعن تردد الاحزاب اللبنانية في دعم المطالبة في إسقاط النظام، إعتبر شاهين ان "المسألة طبيعية، في ظل تخوّفهم على مصالحهم الخاصة، لا سيما ان العلمانية قد تفقدهم زعامتهم". أضاف متأسفا: "تبقي الاحزاب قاعدتها الشعبية في جَو الخوف من عدم الانتماء إلى مظلة الطائفة، والحاجة المستمرة إلى الحزب لتحصيل المطالب".

في هذا الإطار، لفت شاهين إلى سلسلة من الخطوات بإمكانها ان تقرّب الناس من مفهوم المواطنة والعدالة، من أجل الوصول إلى دولة علمانية، فقال: "الأمثلة كثيرة، منها: تطبيق الزواج المدني اختياريا، توحيد مسألة تقسيم الارث، إقرار قانون جديد للاحوال الشخصية ككل، بالاضافة إلى انشاء لجنة وطنية تبحث في جميع هذه الخطوات".

من الواضح أن تَوق الشباب إلى دولة علمانية يؤكّد سخطهم من النظام الحالي غير المنصف بحقهم، ولا يلبّي طموحاتهم، لا سيما ان الانتماء إلى الطائفة هو المتحكم بمفاصل حياتهم ومستقبلهم، على حساب كفايتهم. وفي هذه المناسبة، نتذكر كلام المطران غريغوار حداد الذي اعتبر "ان مشكلات لبنان كثيرة جدا، لا تختصر بالطائفية، وان العلاج للمشكلات لا يختصر بالعلمانية، ولا سيما المشكلات الحياتية والاقتصادية والاجتماعية والصحية…". لذا نحن أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى توضيح مفصّل لمفهوم العلمانية، عن طريق معرفة مراحلها، وأبعادها، وشروط تحقيقها، ومدى استعداد اللبنانيين للتخلّي عن حسابات طوائفهم الضيقة، وولائهم للوطن أولا وأخيرا.

السابق
هل يصبح “سرطان الدم” من الماضي؟
التالي
الانماء..والازدهار في شقرا