بطريرك ما بعد موت ذلك النمط من “اللبنانية”

انهيار عام 1975 بين المعاني والوقائع التي حملها، معنى سقوط لبنان كمشروع "دولة – أمة" كما اراده الجيل الاول من القياديين الموارنة والمسيحيين الذين ساهموا مع فرنسا في تأسيسه بعد الحرب العالمية الاولى. كان على رأس ذلك الجيل، كما هو معروف، البطريرك حويك.
كان ذلك الزمن… امتداداً لزمن قيادة كنائس لمشاريع كيانات "دولة – امة" او تماهي كنائس مع ذلك النوع من الكيانات.الفئة الاولى… كان حوالى القرن قد مضى على قيادة الكنيسة الارثوذكسية اليونانية وتنفيذها الناجح لـ"الدولة – الامة" اليونانية، اول استقلال سياسي ناجز وخطير عن الدولة العثمانية في البلقان "قريب" من العاصمة اسطنبول. تلت ذلك على مدى عقود سلسلة من التشكلات السياسية بقيادة الكنيسة الوطنية في صربيا ورومانيا وبلغاريا… حتى الحرب الاولى التي شهدت فشل الكنيسة الارمنية في الشرق الاناضولي وكيليكيا الغربية (ومعها حزب الطاشناق بصورة خاصة) في بناء "دولة – امة" ستتأخر ولادتها حتى اواخر القرن العشرين… وعلى انقاض جغرافيا الامبراطورية الروسية (السوفياتية) لا الجغرافيا العثمانية التركية هذه المرة!
وُلد الكيان اللبناني، "لبنان الكبير" بدعم فرنسي عام 1920، لم يستطع يومها رغم جهوده العسكرية الكبيرة، بل خسائره الباهظة، ان ينقذ الدويلة المسيحية الاخرى (الارمنية) التي تحطمت على المرتفعات القريبة من البحر المتوسط والممتدة الى شرق الاناضول امام هجوم قوات كمال اتاتورك المنخرطة يومها في حروب ضروس مع اليونان في الشمال الاناضولي ومع الفرنسيين وحلفائهم الارمن في ما سيصبح الجنوب التركي بعد عام 1923.
واذا كان ذلك الجيل من الموارنة، بقيادة البطريرك حويك قد اختار عامدا وليس سهوا، "لبنان الكبير" كـ"وطن للمسيحيين" يضم هذه النسبة الكبيرة المقلقة منذ تلك الايام من المسلمين في محيط جبل لبنان، فانه ايضا، اي ذلك الجيل حاول تحويل هذا الكيان الى "دولة – امة" عبر مسلميه وليس مسيحييه فقط… ليقتنع خلفاؤه من الجيل الثالث باستحالة هذا النوع من "اللبننة" بين المسلمين شيعة وسنة ودروزا، "لبنان الدولة – الامة". كان موعد الاقتناع النهائي بفشل المشروع، هو عام 1975.
البطريرك الراعي، هو اذن، البطريرك الثالث للموارنة في مرحلة ما بعد سقوط مشروع لبنان الدولة – الامة، بعد البطريرك خريش، والبطريرك صفير.
بهذا المعنى ايضا، فهو، بحكم "التدريب" الطويل في مرحلة ما بعد موت ذلك النوع من اللبنانية او "اللبنانوية"، لا يحمل رأسه أوهاما كثيرة حول مضمون ذلك النوع (الميت سياسيا) من الرومنطيقية الكيانية اللبنانية.
لكنها بطريركية الموارنة… فقبولها بواقعية التركيبة التي تجعل لبنان "بلا داخل" او على الاقل بـ"داخل مفتوح" سياسيا بشكل وثيق على قوى العالم العربي عبر طائفتيه السنية – الشيعية لا يعني انها بطريركية التسليم بموازين القوى العربية والمسلمة. فبحكم الدور والتكوين، احتفظ بطاركة مرحلة ما بعد "اللبنانوية" بالقدرة على الممانعة الداخلية كما على بعض الداخل العربي… وهو – أي هذا الداخل – منذ فترة طويلة سوريا بعد ان تلاشى مركز الثقل السياسي الفلسطيني، وإن لم يتراجع، بالنسبة للبطريركية مركز الخطر الديموغرافي الذي تمثله المخيمات الفلسطينية، انما هذه البطريركية، على رأس الجماعة المارونية، امام هموم انكشافات الكيان الذي "أخطأ" عمليا الجيل الماروني في الربع الاول من القرن بدعم "تكبيره"، أصبحت تنظر – كما العقل السياسي للجماعة نفسها – الى الانكشافات الديموغرافية باعتبارها متعددة المصادر الداخلية وليست ذات مصدر واحد…
واذا كان سلف البطريرك الراعي قد عايش في العقد المنصرم حقبة تطور الصراع الايراني – السعودي في المنطقة وعلى لبنان، واختار عبر موازنة دقيقة – ولكن أحيانا صارخة بحكم البعد الانتي سوري – المحور السعودي المتصل وثيقا بالسياسة الغربية، فان البطريرك الجديد الذي يأتي حاملا كلمة السر الفاتيكانية – بل الذي اختير ربما بسبب كلمة السر هذه – سيرسل من اليوم الاول لظهوره بطريركا اشارة لا تحتمل الالتباس:
وضع الأساس لتغيير نمط السياسة البطريركية حيال سوريا.
فبإعلانه المفاجئ – لأقرب المقربين الى البطريرك السابق – انه سيزور أبرشيات سوريا من ضمن جولاته على الابرشيات خارج لبنان ينهي نمطا من المقاطعة البطريركية التي أرساها البطريرك صفير.
ولعله من الضروري عند هذه النقطة الاشارة أن بعض أهم وأطرف ما حملته مذكرات الجنرال غورو (الذي أصدر قرار انشاء لبنان الكبير) هو شكوى البطريرك الماروني للجنرال ان الادارة الفرنسية في المفوضية السامية تولي مصالح سوريا في مكاتبها في دمشق اهتماما أكبر مما توليه للمصالح اللبنانية… كانت الحساسية الى هذا الحد!
لقد رفع البطريرك صفير – في زمن اعتبر فيه الصراع الرئيسي هو مع المرجعية السورية على لبنان التي دعمت تغيير ميزان القوى في التسعينات لصالح الطائفيات المسلمة – رفع مقاطعة زيارة سوريا الى مرتبة استراتيجية. وبهذا كان الكاردينال صفير يعتقد أنه يدعم إرثا تقليديا بدأ مع ولادة لبنان الكبير، هو إرث اعتبار الحساسية الكيانية الاساسية عند المسيحيين اللبنانيين هي مع سوريا كونها حساسية المنشأ نفسه… أي ولادة لبنان كواحدة من خمس دويلات ولدت معا في الانتداب الفرنسي هي دويلات: دمشق، حلب، العلويين، الدروز، لبنان. واذا كان صراع الحركة الوطنية السورية مع فرنسا قد تمكن من توحيد الدويلات الاربع خلال عشرين عاما ونيف في الدولة السورية الواحدة التي نعرفها حاليا، فان تطور "الواقعية الوطنية السورية" جعل المشكلة مع لبنان محصورة ليس بوجوده نفسه، وانما بـ"ضم الاقضية الاربعة" اليه… هذا الضم الذي كان الوطنيون السوريون يطالبون بالغائه ثم تخلوا عنه تدريجيا (أقضية حاصبيا، راشيا، البقاع – أي اليوم البقاعان الغربي الأوسط – وبعلبك).
لا أشك – من حيث التقدير السياسي – أن تصريح البطريرك الراعي بزيارة سوريا يأتي ضمن سياسة يريدها الفاتيكان. ولذلك هو ليس عفويا أو حتى متسرعا وانما عنوان من عناوين توجه جديد سيعكسه البطريرك.
بالمقابل علينا من الآن فصاعدا – اذا ساعدت ظروف الوضع الداخلي السوري المستجدة على ذلك – أن نرى الحدود التي يمكن لهذا "التوجه الجديد" ان يكون قادرا على رسمها… فهي لا شك ستتطور اذا كان بدا الخيار الغربي الاميركي – الفرنسي – الاوروبي متواصلا في دعم نظرية التمييز بين القابليات الايجابية للنظام السوري مقابل الموقع السلبي للنظام الايراني ضمن التحالف السوري – الايراني؟
لكن ايضا، بمجرد انهاء "استراتيجية القطيعة" بين البطريرك، الذي ينظر الى نفسه كمسؤول أعلى تاريخي عن الكيانية اللبنانية، وبين سوريا، فهذا يعني قدرا كثيفا من اللمسة الفاتيكانية المعنية عميقا بوضع الموارنة ومسيحيي لبنان كجزء (أشدد كجزء) من الوجود المسيحي المشرقي عموما، وبصورة خاصة في سوريا التي تشهد منذ عقود نوعا من ازدهار "مسيحية اجتماعية" مقابل هذا التراجع، الخطير لأنه انقراضي في العراق، وتدهوري في اسرائيل، ومتفاقم في فلسطين الضفة والقطاع والقدس على الرغم من الدور الفخور والعميق تقليديا للنخبة المسيحية في الحركة الوطنية الفلسطينية، (علينا ان نضيف الطابع الثابت سياسيا للكتلة المسيحية الأقلاوية الاردنية بحكم "كوتا" النظام الهاشمي، والمبنية على وشيج اجتماعي بل عشائري متين مع المسلمين).
واذا كانت لا زالت هناك "فجوة" جادة في نمط الخطاب البطريركي الماروني حيال الصراع العربي – الاسرائيلي، وتحديدا الفلسطيني – الاسرائيلي – وهي فجوة لا نظن ان "علاجها" الخطابي سريع بحكم الرؤية الفاتيكانية ايضا – إلا أن البطريرك الراعي وهو يحضر الى نوع من الحركية المشرقية، وتحديدا حيال سوريا، هل سيتمكن من بناء برنامج "مشرقي" لا يخرج الكنيسة المارونية من موقعها كمسؤولة من وجهة نظر تاريخها عن "الكيان اللبناني"، وانما يعيدها ذات دور قيادي على المستوى المشرقي؟
أما في الداخل اللبناني، فنقترح على البطريرك الجديد برنامجا حواريا يتخطى الدور الطبيعي الذي للكنيسة بين النخب والمجموعات المسيحية، الى برنامج حواري مع النخب والجماعات اللبنانية الاخرى، ليس بالمعنى السياسي الضيق – فصالون البطريرك صفير كان مفتوحا – ولكن ضمن ما يسمى حواراً وطنياً تقوده كنيسة… لم يعد لدى بطاركتها أوهام لبنانوية رومنطيقية، وانما تصميم على بيئة لبنانية مستقرة ومتقدمة في زمن تتغير فيه المنطقة… الى الافضل وفقاً للتفاؤل الذي تدفعنا إليه الثورة المصرية؟

السابق
ميقاتي في”أوتيل ديو” للاطمئنان على صحة العماد عون
التالي
سوزان خليفة زارت مدرسة الريحان الابتدائية