التحولات في المنطقة وأثرها على الكيان الصهيوني

مهما ستكون عليه الأمور مستقبلاً من تداعيات لما جرى ويجري في بعض الأقطار العربية من انتفاضات وثورات، فالخاسر الأكبر سيكون حتماً إسرائيل التي عاشت فترة استرخاء في أكثر من جبهة عربية ما مكنها من التمادي في الاعتداء على الحقوق العربية والفلسطينية تحديداً،

ومحاولاتها الدائمة لاستهداف القوى المقاومة لها في أكثر من ساحة، ولعل الضربة القوية التي تلقاها الكيان ضمن حساباته الاستراتيجية تمثلت في سقوط النظام المصري الذي كان يطلق عليه بنيامين اليعازر الكنز الاستراتيجي لإسرائيل في إشارة منه إلى ما جناه الكيان الصهيوني من علاقته الاستراتيجية مع نظام حسني مبارك، حيث انخفضت موازنة وزارة الحرب الإسرائيلية نتيجة ذلك إلى ما دون الثلث ما وفر لها فرص بناء المزيد من المستوطنات والالتفات إلى الداخل الإسرائيلي لتقوية بنيته التحتية ومؤامراته على الفلسطينيين وقوى المقاومة على الساحة العربية، وهنا من المفيد أن نتذكر أنه خلال العقود الثلاثة التي مرت بعد توقيع معاهدة الصلح بين الكيان الصهيوني والنظام المصري استطاع العدو القيام بمجموعة اعتداءات على العرب، منها تدمير المفاعل النووي العراقي صيف عام 1981 وشن حرب غادرة على لبنان بعد سنة من ذلك مكنه من اجتياحه ودخول عاصمته بيروت إضافة لقمع الانتفاضتين عامي 1987 و 2000 وعدواني تموز عام 2006 على المقاومة في لبنان وغزة عام 2008.‏

ما تقدم يوضح حجم المكاسب الاستراتيجية التي حققها الكيان الصهيوني بتحييده لمصر في إطار معادلة الصراع العربي الصهيوني، وهذا يعني بالمقابل الموضوعي أن أي تحول في السياسة المصرية تجاه العدو سيشكل تغييراً استراتيجياً في قواعد اللعبة في المنطقة لا تصب في مصلحة العدو ولعل ما أطلقه بعض قادة العدو من تصريحات وما تحدثت به الصحف الإسرائيلية وأبدته من خوف وهواجس تحكم الشارع الإسرائيلي مؤشرات حقيقية على ذلك، وهنا من المفيد التذكير بما قالته وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تعقيباً على ما جرى في مصر حيث لامت إسرائيل على عدم استثمارها للمناخ الذي كان سائداً في المنطقة قبل الانتفاضة المصرية وتوقيعها لمعاهدات سلام مع أطراف الصراع، وهذا يعكس قراءة ضمنية لمستقبل غير جيد للكيان في إطار التحولات الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة العربية.‏

إن قراءة متعمقة لما شهدته المنطقة خلال قرنين ماضيين يشير بوضوح إلى أن ما يجري في مصر يؤثر بنيوياً على المنطقة بالكامل، فالمشروع النهضوي العربي الذي كانت انطلاقته من مصر في عهد محمد علي باشا امتد إلى أرجاء المنطقة وتم التعبير عنه ثقافياً وفكرياً في أكثر من مكان على امتداد الساحة العربية، وفي منتصف القرن الماضي كان المد القومي في أحسن حالاته بالتناغم بين البعث والحركة الناصرية التي جسدها عبد الناصر بثقل الزعامة، هذا في الجانب الإيجابي، أما في الجانب السلبي فلمصر تأثيرها أيضاً فبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الحكومة المصرية والعدو الصهيوني امتدت العدوى لتشمل الفلسطينيين والأردن ولولا ممانعة دمشق لاجتاحت حماها المنطقة بالكامل وادخلتها في خنادق اليأس.‏

إذاً دروس التاريخ تنبئ بأن ما يجري في قاهرة المعز له ارتدادته على امتداد الساحة العربية ولاسيما إذا كان منسجماً مع نبض الشارع العربي والمصري ومستلهماً المعاني القومية والكرامة الوطنية، وهذا باعتقادي حال ما جرى في مصر، فثورة الشباب لا تقتصر أو تختصر أجندتها في قضايا مطلبية داخلية فقط، وإنما ترتبط بمعان وطنية وقومية في صميم الضمير الجمعي للشعب المصري، وهنا يبرز الكيان الصهيوني بسجله الدموي ونمطيته العدائية بكامل صورته أمام الرأي العام الذي لن يرضى بأقل من عودة مصر إلى ساحة المواجهة المباشرة معه والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة ليكون العضد والسند له في مواجهته مع قتلته وجلاديه الصهاينة وأعوانهم، ورب قائل يقول إن هذا الموقف المتوقع يدخل في دائرة الأمل أو المعول عليه في نظر الشارع العربي استقراء لما حدث وتداعياته المحتملة على مشهد الصراع في المنطقة، ولكن وجهة النظر المتفائلة تلك تتقاطع مع مصلحة حقيقية لمصر التي أفقدتها السياسات الممالئة للعدو الصهيوني نفوذها وحضورها القويين على الساحتين العربية والدولية ما انعكس سلباً على مجمل الأوضاع فيها.‏

وفي قراءة البعد الاستراتيجي لما جرى يبدو العدو الصهيوني الخاسر الأكبر أيضاً، فإسرائيل التي سوقت نفسها أوروبياً وأميركياً على أنها واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ستجد نفسها أمام واقع جديد يحيط بها في أكثر من اتجاه لحمته وسداه ديمقراطيات وليدة طالما حذرت مراكز الدراسات الاستراتيجية من ظهورها وخطرها على ذلك الكيان لأنها ستنتج بنى سياسية معادية بطبيعتها لإسرائيل التي هي في نظر الشارع العربي التجسيد العملي للمحتل والغاصب والمعتدي الذي تجب مواجهته ومقارعته بل وإزالته وهذا ما يقلق العدو ويقض مضاجعه، وسيفرض عليه إعادة النظر بمجمل سياساته واستراتيجياته تجاه العرب والفلسطينيين وعملية السلام عموماً.‏

إن المنطقة العربية أمام مشهد جديد تحكمه قواعد لعبة لم تكن قائمة من قبل وهي بالتأكيد لا تصب في مصلحة العدو، وهنا يبرز السؤال التالي ترى هل يستطيع القادة العرب استثمار اللحظة التاريخية والانتقال في معادلة الصراع من حالة الانفعال إلى حالة الفعل، خاصة أن نهج المقاومة للمشروع الأميركي الصهيوني استطاع تسجيل العديد من النقاط الإيجابية خلال السنوات الخمس الماضية على الصعيدين العسكري والسياسي، وكان بالتأكيد ملهماً لما جرى في الساحة العربية من انتفاضات كرامة رافضة للسياسات الداخلية والخارجية لأنظمة فاسدة فقدت صلاحيتها وأصبحت في نفايات السياسة؟‏

ثم هل سيقرأ العرب ما جرى قراءة إيجابية تمكنهم من استثمارها سياسياً أو حضارياً في مواجهتهم التاريخية مع الغرب, آخذين في الاعتبار أن صورة نمطية جديدة بدأت تتشكل في المتخيل الجمعي الأوروبي عنهم ولمصلحتهم؟ أسئلة مشروعة نطرحها على الساسة والمثقفين العرب لنرى شكل الاستجابة المطلوبة, وهو ما ستجيب عنه الأيام القادمة.‏

السابق
عيد البشارة في النبطية..دعوة تصالحية مع الذات
التالي
قوى وطنية: الإسراع بتشكيل الحكومة لتحصين لبنان