أفول الإسلام السياسي؟

هل ثمة تلازم بين نجاح الثورات العربية وانكفاء تنظيم القاعدة واخواته؟
يبرر هذا السؤال تراجع ملحوظ لنشاط تنظيم القاعدة عموما، وغياب تجلياته في الثورات العربية المتنقلة من قطر الى آخر، بشكل خاص. فقد تفوقت القاعدة وتمددت خلال العقد الاخير في العديد من المجتمعات العربية، واظهر اسلوب مواجهتها امنيا وعسكريا انه، وهو نفسه، طاقة تمددها وانتشارها ونفوذها.
ويمكن ملاحظة ان هذا التنظيم، الذي يقوده اسامة بن لادن، ليس تنظيما عسكريا مترابطا او هيكلية هرمية لها آليات تواصل من الهرم الى القاعدة وبالعكس، بل هو، على ما اظهرت الوقائع، يكتسب فعاليته وقوته من كونه حالة او تيارا ومناخا سياسيا واجتماعيا افرزه اليأس الذي عاشته المجتمعات العربية، في مواجهة الغطرسة الاميركية والغرب عموما اتجاه قضايا العرب والمسلمين، الى جانب استبداد الانظمة العربية والاسلامية وعجزها عن مواجهة التحديات داخل الدول، كما أنّه كان رغبة في مواجهة استباحة الجيوش الغربية للعالم العربي.
غرف بن لادن من هذا اليأس، واطلق في فضاء العرب والمسلمين صرخة مدوية ومدمرة، تردد صداها في كل البلاد، لكنها لم تكن سوى رد فعل مسكون بالعجز عن مقاربة المجتمعات العربية لما يواجهها من تحديات، بسبب غياب البوصلة التي يمكن من خلالها تلمس طريق نجاتها، أي طريق العبور الى استعادة ثقتها بقدراتها في ظل استبداد داخلي واستباحة خارجية.
اليأس كان المناخ الذي مهد لفكر القاعدة وسلوكها العبثي، وشكلت الظاهرة الانتحارية التي شهدناها في العراق وسواه من الدول العربية والغربية عنوانا يمكن النفاذ من خلاله للقول ان القاعدة كانت ظاهرة انتحارية طاقتها اليأس وافقها العجز عن التغيير بغير قتل الذات.
تراجعت مؤخرا ظاهرة العمليات الانتحارية، حتى في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي. إنكفأت ليس لاسباب تتصل بالاجراءات الاسرائيلية. ففي تفجير حافلة اسرائيلية في القدس المحتلة قبل اسبوع لم يكن فلسطيني هو من فجر نفسه داخل الحافلة، بل عبوة وضعت في الباص من قبل مجهول. وكثيرون انتبهوا بعد هذا التفجير ان العمليات الاستشهادية تراجعت وربما اختفت عن ساحة المواجهة بين الاحتلال الاسرائيلي والفلسطينيين.
وفي مصر، التي تعيش "ثورة 25 يناير"، ما يستحق القراءة والمتابعة، إذ أسقط المصريون صنم الحزب الواحد، والزعيم الملهم، وحزب الثورة. ولا يبحثون اليوم عن قائد يفدونه بالدم او حزب يوكلون اليه احلامهم الوردية، بل تشغلهم المعايير والقوانين والحرية. هذا ما يتلمسه الاسلاميون وسواهم، وما يجعل حراك الثورة يتسلل الى داخل تنظيم الاخوان المسلمين، ويأخذ وجه صراع الاجيال. لكنه في الحقيقة يعبر عن الروح الجديدة التي بثتها الثورة في جيل شباب الاخوان، الذين يريدون تجديد الحركة ودفعها لمواكبة الثورة في بعدها الديمقراطي، وما يفرضه من انتقال "الاخوان" من حركة شبه محظورة طيلة عقود طويلة الى حركة سياسية تحظى باعتراف كامل من "النظام" والمجتمع.
في تونس تعود حركة النهضة بسلاسة وبروح الخبرة التي اكتسبتها قيادتها من التجارب السابقة. خبرة تتمثل في هذا الاقتناع العقيدي بالدولة المدنية، بقيم الديمقراطية وحقوق الانسان. فقد اعلن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ان الحركة ليست في وارد خوض المنافسة على رئاسة البلاد.
هكذا لم يعد القبض على السلطة والدعوة الى الدولة الدينية واسلمة الدولة اولويات لدى الحركة الاسلامية في تونس ومصر والعالم العربي عموما. كما ان المجتمعات العربية حسمت الجدل في هذا الشأن قبل ان تحسمه نخب الاسلام السياسي. فقد اختفت المطالبات بقيام الدولة الاسلامية من خطاب هذه الحركات، وعن ادبياتها السياسية والاجتماعية. وهذا بذاته تحول كبير، ويفرض تحد كبير امام الحركات الاسلامية التي باتت محكومة بالانخراط في البحث عن مشروعيتها السياسية والاجتماعية من خارج شعار "الاسلام هو الحل".
انها روح التفاؤل والامل التي جعلت المجتمعات العربية اليوم تتلمس امكانية ان تحقق التغيير نحو الافضل. هذه الروح، التي اطلقتها ثورتا مصر وتونس، كانت كفيلة بتهميش خطاب اليأس والحالة الطائفية، ورسخت الشعور بالانتماء الوطني. لذا من الواضح ان رفع شعار "خطر الفتنة المذهبية او الطائفية" وخطر "القاعدة" واخطار التدخل الخارجي وتحريم التظاهرات هي أسلحة التي تستخدمها الانظمة العربية اليوم لحماية الاستبداد.
المجتمعات العربية وضعت الاصبع على جرحها، وتدرك ان مسار التغيير واستعادة الكرامة الوطنية والانسانية، يتطلب الكثير. وهي كذلك اختزنت من تجارب الاستبداد الذي تعيشه ان الحرية هي السبيل الى تحقيق الذات والتعبير عنها.
الانظمة العربية اليوم تستنجد بـ"القاعدة" ولا تجدها، وتستنجد بالفتنة وبالعدو ولا تحصل على "خطر"هما. الانظمة العربية اليوم تتساند وتتكاتف لأنها تدرك ان التغيير الديمقراطي في دولة يستدرج تغييرا في دولة مشابهة.
كما قامت "القاعدة" على أكتاف "الأنظمة" وأكلت من لحمها الحيّ، تموت اليوم من الجوع، بعد موت بعض الأنظمة ومرض أخرى أمراضا عضال.
إنّه زمن أفول الإسلام السياسي، ولهذا الأفول تداعيات لبنانية. وللبحث تتمة.

السابق
هيثم المالح يعتبر ان الاسد خيب بكلمته الامال بالاصلاح
التالي
العثور على سيارة مرسيدس استخدمت في خطف الاستونيين