محمود وشربل يتعاطيان العلمانيّة مرّة في الأسبوع

مرّ وقت طويل على دعوة السيد حسن نصر الله إلى محاربة المخدرات. دعوة لاقت، يومها، ترحيباً من الأهالي، لكن، ميدانياً لا يزال المروّجون فاعلين، وتالياً، ما زال محمود وشربل يتعايشان لساعة من الزمن أسبوعياً

قال أحد مسؤولي اللجان الأمنية الحزبية، في منطقة مكتظة من الضاحية الجنوبية، إن سبعة شبان أعمارهم لا تتجاوز الثمانية عشر عاماً، يتعاطون الكوكايين، في شارع واحد لا تتجاوز مساحته 200 متر مربع. أطلق قنبلته هذه في مجلس خاص، بمعرض تفسيره لدعوة السيد حسن نصر الله الأخيرة إلى محاربة تفشّي المخدرات بين الشباب اللبناني. استفاض المسؤول، ليعلن أن الخطر الحقيقي ليس في الكوكايين، بل في «الحبحبة». والحبحبة، هي تعبير شعبي عن تعاطي المخدرات عبر أقراص المخدّر أو الدواء. ويبلغ عدد متعاطي تلك الأقراص، تبعاً لمعلومات الحزب، ما يتخطى الرقم الأول بكثير. إذاً، انتشر هذا المصطلح سريعاً في العاصمة وضواحيها، بالتزامن مع تنامي الظاهرة نفسها.

وفي موازاة هذه اليقظة الاجتماعية والأمنية التي تأخرت، يبرز مجتمع عريض، تتنقل فيه الأقراص المخدرة من يد الى يد، بسهولة انتقال عدوى الإنفلونزا الموسمية عبر الهواء. في الأحياء، الموزعون معروفون. يمكنك أن تجدهم على ناصية الطريق، أو في محلّ للإنترنت، أو يستترون في أحشاء الزواريب. معروفون للجميع، بمن فيهم ..القوى الأمنية الساهرة دائماً.
لا يتوقف الأمر على الزواريب، بل يصل إلى الشوارع العريضة أحياناً. وهنا، يظهر «تفاهم» قديم لم ينتظر الأحزاب لكسر خطوط التماس بين الشياح وعين الرمانة. تفاهم شعبي سبق التفاهمات السياسية التي ترسم حدود العلاقة بين الطوائف، ولا تلغيها، حتى أن الجزم ممكن بأن تفاهماً كهذا سبق حركة الشبان الأخيرة، المندفعة باتجاه إسقاط النظام الطائفي. فللشياح ضيوف موسميون من الضفة المقابلة، يزورونها، بحثاً عن «الحبة النضيفة». لا يأتون بأعداد كبيرة. شاب وفتاة، كافيان للحصول على رزمة «إكستيزي» (الاسم الشعبي لأقراص XTC المخدرة) موضّبة في علبة سجائر، لتكفي مجموعة أخرى متحصنة خلف المتاريس الديموغرافية. للضرورة أحكام، و«النظام» هنا لا يعود طائفياً. وما دامت العلمانية رعباً مجهولاً، فللمضطر ألّا يكون طائفياً، سيقتصر مشهد «التخلّي عن الطائفية» على عبور شارع واحد، مرّة في الأسبوع. أمّا مكان اللقاء الأسبوعي، فجامع هو الآخر، وعلى مقربةٍ من الضفتين. هكذا، تصبح اللاطائفية عبوراً مرحلياً، فيما تبقى العلمانية شبحاً، لأنها تعني الاندماج في كل شيء، لا في السوء وحسب (المخدرات).
الاختلاف في استعمال الأقراص يتغذى من طبيعة ديموغرافية تحدّدها التشعبات الثقافية للطوائف. فرغم أن أحمد وشربل متباعدان سياسياً (الأول يناصر حركة أمل والثاني يميل إلى القوات اللبنانية)، يتّحدان في «لحظة الحبوب». يعتقد أحمد أن شربل يستخدمها في الحفلات، ومع الفتيات، بينما هو «صاحب راس وهذه أولويته». في المقابل، يأخذ شربل حبوبه، ويعطي صديقه «المرحلي» 50 دولاراً أميركياً، غير آبه بهذه الاتهامات. تهمّه الحبوب البيضاء الصغيرة فقط. وللمناسبة، هناك أكثر من لون، وتالياً، أكثر من تأثير. كان شربل يبتاع لوازمه من برج حمود، من إحدى معارفه، لكنها سجنت. لم يعرف غيرها لسوء حظه، حتى قابل أحمد في إحدى حانات الجميزة. وسّع شبكة علاقته اضطرارياً، وعاد إلى جيرانه… والعود أحمد! «في سن الفيل مروجون، لكن البضاعة في الضاحية أضمن»، تعترف الفتاة المرافقة بذلك. والفتاة خبيرة في شؤون الأقراص، وشهادتها ليست عبثية. شرحت أن حبوب الأعصاب المألوفة، تختلف في مفاعليها، بين بعض منها مسكّن يقتل الإحساس بالمكان (لاغفليكس، ترامال، ليكزوتانيل، ريفوتريل، كبتاغون، بنزيكسول، إكستازي) وأخرى توصل إلى الهلوسة وتنشّط الجسد لدرجة فقدان السيطرة عليه والهذيان. ولم تجد حرجاً في الاعتراف بأنها أحياناً تأخذ خمسة أقراص في يوم واحد، وأنّ جميع العبوات لا يتجاوز سعرها عشرة دولارات (باستثناء الإكستيزي الغالي).
أحمد مروّج رئيسي. يأخذها من شخص لا يعرفه، و«لا يريد أن يعرفه». يدلنا على صديق آخر. كان علي يحدّق في الأرض. يتفنّن في تحريك جفنيه. في الحقيقة كان يواجه صعوبة في تحريكهما. تناول قرص «إكزاناكس» مهدّئاً للأعصاب وشرب عبوة بيرة من نوع «إفيس». يشرح صديق آخر الأمر بحسد: «هو كالبغل الآن». برأيه علي في عالم آخر. وللدلالة على صحة كلامه، يشير إلى جروح تضج على ساعد الشاب العشريني. آثار تشطيب بديهية بين المتعاطين. التشطيب موضة لا طائفية. تواكب ظاهرة الحبوب في تفاقمها. يحصل علي على حبوبه بطريقة شرعية تماماً، من إحدى كبرى الصيدليات. تبتاعها جدته بموجب وصفة طبيب، ويستعملها هو. وجد طريقة توفر عليه العناء. لكن في برج البراجنة، يستمتعون بذلك العناء. أحد الشبان هناك، يشرح إحدى الخلطات متفاخراً بثقافته الواسعة، ثم يسأل إن كنا نعرف مسكّن الترامال؟. يوضح: «كثرته قد تؤدي إلى تصلب في الشرايين». يقول إنه يضيف إليه الأسبيرين، وهو الآخر دواء معروف يفعّل الدورة الدموية، على ذمة الطباخ، ما يبعد شبح «الجلطة». لاحقاً، يستعين المتعاطي بفنجان قهوة، كي يضمن البقاء بين الصحو وغياب الوعي. هكذا، ينطبق قول جلال الدين الرومي على المتعاطي: «إذا كنت نائماً في مركب نوح، وأنت سكران، فما همك لو جاء الطوفان؟». يستمر علي في التحديق بالأرض، بينما ينصرف رفاقه إلى نقاش هادئ حول جدية الدعوات الصادرة لمصادرة أقراصهم، بعدما استعادوا زمام أمورهم وتدبيرها.
السيّد حسن نصر الله هو الأكثر شعبية في الضاحية الجنوبية لبيروت. الجميع يعلم ذلك. هو في نظر الكثيرين من الشبان هناك، بمثابة الأب المعنوي، يسمعون كلمته في السياسة، وينتظرونها دائماً، عبر الشاشة العملاقة، ليحددوا موقفاً من الأحداث اليومية، غالباً ما يتماشى مع ما يأتي في خطابات السيّد. لكن ما يقبله جزء من الشباب في السياسة قد لا يقبلونه في الاجتماع. ثمّة فئة لا يستهان بعددها، تحبه، «شرط ألّا يتدخّل في يومياتها»، خاصةً إن كانت هذه التدخلات مرتبطة بالإدمان. بكلمات أخرى، ووفقاً لشهادات جزء من شبان الضاحية، الذين هم خارج الأطر التنظيمية لحزب الله، ويناصرونه دائماً، فإن «معركة» الأخير المقبلة معهم لن تكون سهلة، وأنه الطرف الذي سيواجه «المقاومة» هذه المرة. أحدهم كان أشد وضوحاً من السيد نصر الله نفسه. أعلن أنه: «كلما اتضح لنا أن الحزب سيتركنا لمواجهة الدولة وحدنا، ازدادت شراسة مقاومتنا لهما كليهما»، مذكّراً بأن الحزب «عدوّ» قديم لهم في هذا الموضوع بالذات، وأن الأمور لن تتغير. الشاب العشريني ليس في وارد التراجع. استغرب السؤال عن الاعتبارات المعنوية لنداءات نصر الله، من أساسه وعلق قائلاً: إنّ «من لا يهتمّ لأذية نفسه لن يهتمّ لأي شيء آخر»، ثم ضحك طويلاً، وتناول قرص كبتاغون «محلي ومن باب التنويع»، ابتلعه وأنهى النقاش. انطلق يومه للتو.

السابق
نساء “العرقوب” تكرمن الأم الصامدة
التالي
استجابة الغرب لكارثة اليابان: جريمة ضد الإنسانية