حديث الإصلاحات: توقّعات وآمال مقابل خيبات وتآمر

يتحدث الرئيس بشار الأسد غداً في خطاب موجّه إلى الشعب السوري، وسيكون الأول من نوعه منذ خلافته لوالده في رئاسة سوريا قبل 11 عاماً. الجمهور سيتسمّر لأول مرة منذ زمن بعيد، وينصت إلى الرجل ليعلن أموراً ينتظرها الناس. بعضهم يرفع سقف التوقعات بأكثر مما يجب، وآخرون لا يعرفون الخروج من إحباطهم، فلا يأملون إلا وعوداً غير قابلة للتطبيق. لكنّ جيلاً كبيراً يمثّل أكثر من نصف الشعب هناك، لديه أمل بخطوات تجعله لا يقتفي أثر الأهل في البحث عن فرص حياة أفضل بعيداً عن بلاد الشام. وبين هؤلاء من سبق له أن سافر منذ مدة غير قصيرة إلى الخارج، ويأمل عودة إلى بلاد فيها ما يحفّزه على زيارتها دائماً أو على العودة نهائياً والعمل فيها. ولذلك فإن رئيس سوريا سيكون أمام مسؤولية غير عادية.

بشار الأسد في هذه اللحظة مختلف عن نظامه. هكذا يفترض النظر إليه، ولو خلال مدة الخطاب فقط. سيكون بيده مفتاح الأبواب أمام معركة إصلاحات وتغيير يحتاج فيها إلى أكثر بكثير من حزب البعث وجماعة النظام لحمايتها وتحقيق أهدافها. كذلك سيكون بيده قرار إبقاء الأمور على حالها، وتالياً إدخال البلاد في موجة تعب دموية. لكن كل الذين تواصلوا معه شخصياً خلال الأيام العشرة الماضية، يقولون إنه مدرك تماماً حجم التحديات التي تواجه حكمه الآن، وإنه يشعر بقوة بأنه آن الأوان لورشة تغييرات تحفظ وحدة سوريا وتمنع تحويلها إلى عراق ثان أو ليبيا ثانية، وأنه يعرف بالضبط من معه في هذه المعركة ومن ضده، من داخل الأطر الضيقة في الحزب والمحيط إلى القوى النافذة في الحزب والسلطة والمؤسسات الفاعلة أمنياً أو سياسياً أو اقتصادياً.

وإذا كان القريبون منه يتحدثون بتفاؤل عن سلة إصلاحات شاملة ستكون أمام الجمهور والسلطات، فإن هؤلاء يتحدثون أيضاً عن آلية لتنفيذ سريع لهذه الإصلاحات، وإن كانوا يعلمون أنه يستحيل على أحد في سوريا الانتقال بين ليلة وضحاها من واقع إلى آخر. حتى تنفّس الحرية يحتاج المرء إلى وقت لتعوّده. ولذلك فإنّ من المنطقي الإشارة مسبقاً إلى أن من يأمل تنفيذاً كاملاً ودقيقاً وأميناً لأي تعهدات يطلقها الأسد، عليه أن يتصرف بحكمة لناحية أنها عملية طويلة، تحتاج في مرحلة أولى إلى إقناع الناس بأنها ورشة حقيقة وليست مناورة. وتحتاج إلى إقناعهم ثانياً بأنهم معنيون بالتورّط فيها، وهذا له وقته وله آلياته غير الواضحة. في المقابل، فإن متضررين من عملية الإصلاح سيتصرفون بداية بحذر، ظناً منهم أيضاً أن الأمر مجرد مناورة، وأن المطلوب منهم تمثيل أدوار. لكنهم سيتحولون سريعاً إلى وحوش وأعداء عندما يدركون أن الأمر حقيقة قائمة. وبين هذه المرحلة وتلك، يفترض بالناس أن يدخلوا في ورشة نقاش غير مسبوقة، سيقال فيها الكثير، وسيتنافس الناس في إعلان أن تشخيصهم هو الأدق، وأن مقترحهم للعلاج هو الأنجع، وستكون هناك مطالبات لا تتوقف عند حدّ، وسيشار بالإصبع إلى سارقي مال الناس، وقد يحصل ظلم لآخرين ممن واكبوا الحكم في سوريا خلال العقود الأربعة، وسيحتاج المواطن السوري إلى وقت حقيقي، نوعي لا كمّي، للتكيّف مع واقع جديد، يتراجع فيه الخوف التلقائي إلى حدود الانتفاء، وتتقدم فيه مساءلة الحاكم والمسؤول من مستوى الاستيضاح الخجول المصوغ بألف لغة اعتذارية، إلى مستوى النقد الواضح أو حتى الاتهام.

لكن، وسط هذا الجدال الذي لن يتوقف قريباً، هل هناك إمكان لأحد أن يقدم الآن صورة واضحة عن المعارضة التي ستطرح نفسها شريكاً أو منافساً لفريق الحكم الحالي؟
قد يخرج من يقول إن أربعة عقود من حكم البعث والآليات القاسية التي اعتمدت قد أضعفت القوة التنظيمية لدى قوى كثيرة، وهي تحتاج إلى وقت طويل قبل استعادة زمام المبادرة. وقد يخرج آخرون يشيرون إلى أن القوى الرافعة للواء الإصلاح تحتاج إلى وقت حتى تخلق ثقة بينها وبين النظام كي تنخرط بقوة في المعركة. وقد يخرج أيضاً من يقول إن الشعوب تنتج قياداتها وحدها ولا حاجة إلى وصاية عليها أو تدقيق.
قد يكون كل ذلك صحيحاً. لكن الأكثر صحة هو أنه بالعودة إلى وقائع الأيام القليلة الماضية التي شهدت احتجاجات متنوّعة الخلفية والأهداف، كشفت أن سوريا مثلها مثل تونس ومصر وليبيا، تعاني فراغاً في القيادة السياسية البديلة، وأن غالبية النخب والأصوات التي علت سابقاً لا تملك قواعد شعبية محددة. ربما هي تملك عطفاً وتأييداً من هنا وهناك، لكن بالتأكيد القوى التي تسير خلف النظام الآن هي الأكثر قدرة على الإمساك بمفاتيح اللعبة السياسية، وإذا لم يبلور المعارضون خطاباً فيه كل القواسم المشتركة في ما بينهم، فسنظل أمام مطالب عامة، وأمام مبادرة من طرف واحد. ولكي يتحول الأمر إلى شراكة، فإنه يحتاج إلى مراجعة قوى المعارضة هذه وقائعها اليومية، وأن تنتج ما تحتاج إليه من أطر جديدة، بدرجة أعلى من الحرية والديموقراطية، حتى تتحول خلال فترة معقولة إلى قوى قادرة على صوغ بيان أو موقف موحّد يوضع على طاولة أيّ بحث مع النظام.

أما بشأن غير الراغبين أبداً في إصلاحات على يد النظام الحالي، ولا يعتقدون أن الأسد قادر على القيام بذلك، فهؤلاء بينهم نسبة غير صغيرة من الناس الذين اختفوا لسنوات طويلة داخل منازلهم أو في المهجر، بينما هناك فريق آخر، لديه نفوذه القوي الآن خارج سوريا إعلامياً وسياسياً، وهو الفريق الذي كان شريكاً للحكم في إدارة الوضع المشكو منه. وهؤلاء هربوا من سوريا ضمن خطة عمل قضت بأن يؤلّفوا فرقة عمل تستهدف تخريب الوضع في سوريا، والتشجيع على تحركات تهدف إلى انقلاب على مستوى الحكم. وهؤلاء ينتشرون في عدد كبير من دول العالم، وبعضهم لا يهتم أصلاً بمعركة تحرير فلسطين ولا بدعم قوى المقاومة، بل قد يكون بين هؤلاء من هو متآمر على موقف سوريا السياسي هذا، ومن هو مستعد لدفع سوريا إلى أي هاوية إذا كان في ذلك ما يحقق له مطلب احتلال مراكز القرار في سوريا.

واضح الآن أن الجميع في سوريا يعرفون ما عليهم القيام به. الناس ومؤسسات الدولة والفريق الحاكم. ولكن ما هو أوضح، أن المسألة الطائفية في سوريا، وإن كانت لا تبدو ظاهرة بسبب القوانين العلمانية للدولة، فستظل حاضرة في مؤخرة رأس كل من يتعاطى السياسة والاقتصاد هناك. وهي مسألة على شكل داء، لا دواء له سوى بإعادة الاعتبار إلى فكرة الدولة وفكرة المواطن، وتالياً فكرة الشراكة التي لا تحتاج إلى كثير فلسفة، بقدر ما تحتاج إلى كثير جهد بعيداً عن كل أشكال الترغيب والترهيب. وما عدا ذلك، ما هو إلا انتظار للمقبل من الأيام، لعلّ سوريا تدخل في مرحلة من التغيير الذي يحتاج إليه اللبنانيون بنفس درجة حاجة السوريين إليه. ذلك أن قسماً كبيراً من مشكلات لبنان ستظل حلوله مرتبطة بطبيعة الدولة السورية… أو بلاد الشام!

السابق
خليّة أزمة أميركية لسوريا ولبنان
التالي
صحافة مؤجّلة