مواجهة الاستعباد… هروب أم مقاومة؟

تأثر كثيرون بكتاب توماس هوبس الذي أصدره العام 1561 بعنوان "الحكم الاستبدادي" (إسم لوحش بحري منقرض يرمز إلى الشر)، وانتقدوا ما ورد فيه من "مبادئ فاسدة". إلاّ أنّ الأجيال التي تلت، أقرّت بأنّ المفكّر هوبس من أعظم الفلاسفة الإنكليز.
غلاف الحكم الاستبدادي كان حكم الملك شارل الأول يواجه هجوما عنيفا من البرلمان الإنكليزي، وأدّى هذا النزاع إلى قيام الحرب الأهلية الكبيرة بين العامين 1642 و1647. وقد أثار ذلك النزاع قلق الفيلسوف، وعُرف عنه أنه كان من مؤيّدي أساليب الحكم التي يتبّعها الملك. وعندما اعتقل زعماء البرلمان أحد كبار أنصار الملك، وهو أسقف كنيسة سانت ديفيد، قرّر هوبس أن يترك انكلترا ويرحل إلى باريس.

الهروب من الظلم

في فرنسا، أضاف هوبس إلى معارفه الواسعة دراسة الكيمياء وعلم التشريح، ولكنّ عمله الحقيقي الذي أكسبه الشهرة هو كتابه "الحكم الاستبدادي"، الذي كان له تأثيره في الفكر الإنساني عموما ورجال السياسة خصوصا.
في أواخر ذلك القرن، كتب جون أوبري الذي أرّخ حياة هوبس: "كان يتمشى كثيرا وهو يفكر ويتأمل. وفي مقبض عصاه ريشة، وفي جيبه مفكرة، فما إن تنبثق فكرة، حتى يبادر فورا إلى تدوينها، قبل ان تتبدّد".
فرغ هوبس من كتابه في العام 1651، بعد إعدام الملك شارل الأول، وتم طبعه في لندن، فقدّم نسخة منه، مغلفة بتجليد خاص، إلى شارل الثاني الذي كان يومذاك في منفاه الباريسي، ثم عاد هوبس بعد ذاك إلى إنكلترا، وسمح له بالإقامة في لندن قبل أن يستعيد شارل الثاني عرشه.

في العام 1660 استردّ الملك العرش، وكان هوبس قد أصبح طاعنا في السن، لكنّه بقي يتدفق حيوية. وكان الملك الجديد يأنس لصحبته، ويلقبه تحببّا باسم "الدب". توفي هوبس في العام 1779 في شاتسويرت" في مقاطعة "ديفونشاير".
إنّ "الحكم الاستبدادي" لهوبس، كتاب يثير قراءته الضيق في بعض مواضعه، إذ ينظر فيه إلى الطبيعة البشرية نظرة تحقير واستهانة، كما يعكس تجربة هوبس الشخصية وعهد العنف الذي عاصره. والواقع أن هوبس كان في قرارة نفسه، يكره النزاع والخصومات ويمقتها، ويحاول دائما أن يتحاشاها. وكان هذا سرّ هجرته إلى فرنسا العام 1642. ومن آرائه : خير للمرء أن يعيش في ظل حكم طاغية مستبد، على أن يعيش في بلد يتعرّض فيه القانون والنظام للزوال.
بين الديكتاتورية والحرية…

كانت تلك، النظرية الرئيسة التي قام عليها كتابه "الحكم الاستبدادي"، فهو يقول: إذا ترك الناس لنزاعاتهم، يعيشون في حالة دائمة من الحروب. وحياة المرء "إنعزالية، قذرة، قصيرة، وذات طابع وحشي".
ولمّا لم يكن بين الناس من يبغي العيش على هذه الحال، كما يقول هوبس، فإنّ عليهم أن يتفقوا على التنازل عن الحرية التي تؤدي إلى كل هذا النزاع والخصومات. وذلك في مقابل السلام والاستقرار اللذين يمكن أن توفرهما حكومة قوية. ولا جدوى من نزول الناس عن نصف حرياتهم، فإنهم إن فعلوا ذلك، عادوا يطالبون باستردادها، إذا ما هدّدت الأخطار مصالحهم، وارتد المجتمع إلى الحال السيئة التي كان عليها في البداية. فينبغي عليهم إذا أن يتنازلوا عن حرياتهم كلها، وأن يمنحوا الحكومة الحق في تنفيذ مشيئتها بالقوة، أي بحدّ السيف. ويقول هوبس في هذا المعنى: "إنّ العهود والمواثيق بغير السيف، ليست إلا مجرّد كلمات".
مختصر القول، إنّ هوبس يعتقد أن الحياة في ظل حكم استبدادي، أفضل من حالة الفوضى، حيث لا حكم ولا قانون. ويبدو أنّه لم يكن يرى إلى إمكان وجود حالة وسطى بين الوضعين. والملاحظ أنه عاصر حكومة لم تتوافر لها قوة كافية لتنفيذ الأحكام والقوانين، فتداعت وانهارت.

وقد عاش هوبس في الفترة التي أعدم فيها ملك انكلترا العام 1649، وعاصر الأيام العصيبة التي أعقبت تنفيذ حكم الاعدام، حين بدا أن الجيش هو نظام الحكم الوحيد الفعّال. ونشير ههنا إلى أن نمو المعارضة وازدياد سطوتها حملا هوبس على الفرار إلى فرنسا، فازداد اعتقاده بأنّ الخوف هو الشعور المتحكم في الناس. وهذه الفكرة حملت هوبس على أن يدعو إلى حرمان الناس حريتهم.
ولد هوبس في العام 1588 في بلدة "مالميسبوري" بمقاطعة "ولتشاير"، وظهر نبوغه في الآداب والرياضيات، وترجم مسرحية "ميديا" لمؤلفها "أوريبيدس" من الشعر الإغريقي إلى اللاتينية، ثم انتقل إلى أكسفورد والتحق بكلية "ماغدالين" حيث نال درجته الجامعية.

في شبابه، عمل مدرّسا في بيوت النبلاء، وبين حين وآخر، كان يصحب تلاميذه في رحلات إلى خارج البلاد.
في العام 1642 قرر فجأة مغادرة البلاد، فمكث في فرنسا فترة طويلة كتب خلالها معظم مؤلفاته، ولكنه عاد الى انكلترا آخر حياته، ليفارق الحياة العام 1779 في شاتسويرت" في مقاطعة "ديفونشاير"… تاركا أعمالا مهمة، من أبرزها: "الحكم الاستبدادي"، "في النفس الانسانية"، "المواطن وركائز السياسة".

السابق
حِوارٌ أم صراع ؟ سنة 1219 كانت البداية…
التالي
تاريخ موحّد أم كتاب موحّد؟ “العلميةّ” آخر الاعتبارات