من صنع التمرّد الشعبي؟

بمعايير زمان الجيل الثقافي/ السياسي الذي ننتمي إليه، ويكاد يطويه الزمن، كان صناع الأحداث، وخاصة الثورية منها، يتمثلان على الدوام في طرفين متناقضين/ متصارعين هما: سلطة تمثل طبقة أو تحالفاً طبقياً، تشعر قطاعات من الشعب أنها لا تمثلهم، وتبدي سخطاً متعاظماً حيالها، يحفزه وعي يقوم على القطيعة مع سياساتها. وبالمقابل: معارضة تتجسّد في أحزاب انقلابية/ إصلاحية/ ثورية (خذوا أية كلمة تحبونها من هذه الكلمات) تفيد من سلبية فئات شعبية تجاه النظام القائم، وتعد العدة للانقضاض عليه من أجل إقامة نظام بديل، بواسطة الانتخابات في الدول الحرة، والعنف في البلدان والنظم المغلقة والاستبدادية.

بمعايير زماننا ووعيه، كانت الحكومة تمثل طبقة والمعارضة الثورية تمثل طبقة نقيضاً، مناهضة لها. وكان للحكومة أيديولوجيا يسمونها سائدة، وللثوار أيديولوجية معاكسة، ثورية لأنها تقدم نظرة مختلفة إلى العالم تؤسس وعياً مغايراً للوعي السائد، يقود إلى موقف مختلف، نظريا وعمليا، حيال معظم، إن لم يكن جميع، مسائل الحياة، بما في ذلك مسائل الوجود اليومي الخاص والعام، الجزئي والعمومي، المباشر وغير المباشر.

بمعايير الزمن الراهن، زمن الجيل الجديد الذي بالكاد نعرفه، يصنع الثورة طرفان: نظام من نمط جديد، غير طبقي وغير حزبي، ومواطن من نمط جديد بدوره، لا ينضوي غالباً في حزب أو جماعة أو فئة سياسية معينة، لأسباب منها أنه لم يبق أي حزب في النظام غير حزب وحيد ليس الانتساب الطوعي إليه متاحاً للعامة، هو أخوية سرية لا يعلن أحد عن وجودها هي: حزب الأمن، وأن المواطن الجديد لا يملك غالباً أيديولوجية نهائية، ثورية كانت أم غير ثورية، وإنما يمارس معظم وجوده في طور أول داخل ذاته، قبل أن يمارسه في الساحة المجتمعية، حين يتم تواصله الفردي الواضح التخوم مع الواقع حساً شديداً بالظلم لديه، ويدرك أنه مبعد عن الفسحة العامة، التي يتقرر مصيره فيها، وأنه محروم من حق المشاركة في الشأن العام، لأنه لا يملك أصلاً أية حقوق. هذا المواطن، المنطوي على ذاته، يضع نفسه أول الأمر خارج قبضة أية جهة خارجه، ثم يشكل «مجتمعات صغيرة، مغلقة نحو الخارج، لكنها تواصلية ومفتوحة على داخل يتكون من أعضائها»، يتمتع بفضل انتمائه إليها بأنماط طليقة من الحرية تتيح له تبادل معارف لا حدود لها، يستخدمها لتفكيك الواقع «الموضوعي»، الخارجي، وواقعه الخاص، ولقراءة حالته الشخصية بما هي حالة عامة، مجتمعية. عندئذ، يبدأ وعي تناقضه مع الواقع القائم، الذي يصطدم بجدرانه وأسواره الضيقة ويختنق فيه، بما أنه يضعه خارج أي سياق سياسي أو إنساني، ويقتل قدراته ومواهبه: بحرمانه من وسائل العيش وتخويفه من الآخر ونفسه.

تبدأ مشكلة الفرد من النقطة التي فرضتها عليه جماعة سائدة، شمولية الطابع والتنظيم والأيديولوجية على الأغلب، ثم تنتقل إلى حيزه الخاص، لتخرج في طور ثالث منه وقد اتسعت، بعون وسائل الاتصال الحديثة وثورة المعلوماتية وأدواتها، حدوده الشخصية وغدت عابرة لحدود وطنه وذاته، فتخترق عن هذا المجال العام بقوة الحرية الذاتية والمعرفة والقدرة على التواصل التي اكتسبها، حيث تأخذ شكل تناقض عام معه يكفي لتفجيره حدث كاشف، يفصح بضربة واحدة عن مضمون وحقيقة واقع لا يحتمل (حرق البوعزيزي نفسه في تونس مثلاً!) من الضروري التمرّد ضده.

بإخراجه من الواقع القائم، أو بخروجه منه، يعود الفرد، الذي ليس مواطناً، إليه وقد صار شخصاً مختلفاً، لديه مطالب عامة. بما أن النظام السائد يواصل التعامل معه بطرق عنيفة منها الإقصاء والتخويف والحرمان، فإن جسور اللقاء بينهما تنهار أو تنقطع تماماً، لتبدأ علاقة تتمحور من جانب المواطن على الحرية، ومن جانب النظام على العنف، المادي والرمزي. لكن الحرية ليست مجرد مطلب هنا، بل هي ضرب من هوية، ما دام الفرد قد بدأ يسترد ذاتيــته ويعلن عن وجودها من خلالها، ولأنها هي التي أتاحت له آفاقاً مفتوحة على المعرفة والتواصل، علماً بأن الحـرية والمعرفة والتــواصل هي هنا مقومات الديموقراطية المنشودة باعتبارها فضاء الذات وليست شأناً عاماً وحسب، وركيزة مجتمع كوني، افتراضي، مليء ببشر أحرار من مختلف الجنسيات والعــروق والألوان، يعيش الفرد فيه واقعاً يقوم على المساواة والندية، فمن الطبيعي أن تكون عودته إلى الواقع مفعمة بالرغبة في حرية لا قيد عليـها يمنحها له مجتمع بديل، حميم وحر وتواصلي خال من العنف، تتسم عموميته بخصوصيتها المفتوحة، وخصوصيته بعموميتها غير المقيدة، التي تتسع لكل إنسـان، حيث تجري إعادة إنتــاج رمزية لعالم يقابل وينقض عالم الواقع الظالم والإقصائي، المحسوس العنف والجلافة إلى أقصى حد، يستعـيد الفرد مواطنته انطلاقاً منه، ويريد أن يقلب واقعه المادي كي يتماثل معه، حتى يصير بدوره حراً ونقياً، لا هوة ولا فارق بين من ينتمون إليه أينما كانوا منه، ومهما كانت خياراتهم وتواريخهم الخاصة، ذلك أنهم يتساوون في حريتهم وأمامها، من دون أن تواجه أية قيود.

بدءاً من هنا يجد الفرد نفسه أمام حال تطرح عليه مسألة عملية لا مهرب منها، هي: توفيق العالمين: جعل العالم الخارجي، عالم النظام، مطابقاً لعالمه الداخلي وممتلئاً بمفرداته ومضمونه. وهذا فعل ثوري يكمن في نقل العالم الافتراضي، الحر والمفعم بالمعرفة والتواصل، إلى العالم الواقعي، المليء بالظلم والقيود، بإزاحته من الواقع الإنساني والسياسي بقوة جديدة هي الحرية الداخلية، الذاتية، التي تريد أن تتظاهر بشجاعة تبلغ حد التهور في الواقع وتطبعه بطابعها، في معركة هي صراع حياة وموت بالنسبة إلى طرفيها.

في مواجهة هذا الفرد/ المواطن الجديد، هناك نظام هو السبب الرئيس للثورات التي نعيشها اليوم: إنه نظام يدفع تناقضه مع الفرد، وتالياً مع الشعب، إلى حدود تجعل أي تعايش بينهما مستحيلاً. إلى هذا، لا يتوقف هذا النظام عن توسيع حدود تناقضه مع الخاضعين له، والإمعان في التضييق عليهم، مع ما يتطلبه ذلك من حرمان يتحوّل تدريجياً إلى اغتيال حقيقي لوجودهم في جوانبه ومظاهره كافة, وتقويض لأية فسحة قد تعينهم على التقاط الأنفاس أو الإفلات من قبضته الخانقة، ولأية هوامش وأشكال حركة قد تعينهم على الاستقلال عنه أو امتلاك أي شكل من أشكال الخصوصية المنفتحة على العمومية. لا حاجة إلى القول: إن نظاماً كهذا هو الذي يجسّر الهوة بين شباب امتلكوا الحرية والمعرفة والقدرات التواصلية وبين بقية الشعب، وأن سياساته هي التي عمّمت المقاومة التي عرفتها تونس ومصر وليبيا واليمن، وجعلتها على القدر الذي أظهرته خلال مواجهاتها مع نظم هذه البلدان.
في ظل علاقة تعني بالنسبة إلى الفرد قدراً من الذل والمهانة يتناقض مع عالمه الخاص، الذي تحرّر بعيداً عن أعين نظام أخرج منه إلى درجة انعدم معها وجوده فيه وتأثيره عليه، مع أنه ما زال يحتل مجمل فسحة الدولة والمجتمع، تكون الثورة تحويل العالم لذاتي إلى بديل فعلي، عملي وملموس، للعالم القائم، الواقعي، عالم النظام، الذي يتم التمرد عليه، وإسقاطه. هنا أيضاً، يلعب الإحجام عن القيام بأي إصلاح دوراً مهماً في تأجيج التناقض بين ذات المواطن الحرة وعالم النـظام المغلق، الذي يدفعه دفعاً إلى التمرد، ويخيره بين الموت صمتاً وذلاً أو الثورة على كل شكل من أشكال الصمت والذل. هذه ثورة لا تنتجها المعلوماتية ويصنعها الأنترنت، كما يقــال. إنها قبل هذا وذاك ثورة تنتجها الشمولية ويصنـعها الاستبداد. لو كانت المعلوماتية بحدّ ذاتها تنتج ثورة، لوقعت أول الأمر في البلدان المتقدّمة وليس عندنا.

لا يوجد حاكم عربي إلا وزعم أن بلاده ليست تونس، وأنها لن تشهد ما وقع فيها. كم يكون حكامنا مساكين، إذا كانوا لم يدركوا بعد أن سياساتهم وخياراتهم، وليس تونس، هي التي تضعهم أمام واقع لا مهرب منه: القيام بإصلاح يلغي تناقض نظمهم مع شعوبهم عبر إصلاحها واستعادة الشعوب قوامها الحر والفاعل، أو مواجهة تمرد ثوري من نمط جديد، تؤكد تجربة الأشهر الأخيرة أن القمع لم ينجح ضده، لأنه تمرد يتجاوز أية طبقة أو فئة أو نخبة، تمرد شعب بأسره يريد الإصلاح والتغيير، لم يصمد في وجهه من يرفضهما، حتى إن دام حكمه لبعض الوقت هنا أو هناك.

من تونس فصاعداً: تغيرت مجمل ظروف البلدان العربية، وصار من العقل والواجب تغيير حسابات نظمها، التي يجب أن ترى نفسها من الآن فصاعداً بدلالة شعوبها التي تريد حريتها، إن كانت تريد أن تنجو بنفسها.

السابق
الأعور: ولادة الحكومة مرتبط بالوضع الأمني والوضع السياسي العام
التالي
مثقفون ضد “الإمبريالية” في ليبيا