تاريخ موحّد أم كتاب موحّد؟ “العلميةّ” آخر الاعتبارات

ينقسم اللبنانيون على توحيد كتاب التاريخ؛ فمنهم من يرى أنّ التوحيد يلغي الحشرية العلمية ويلزم بالتقيد بحرفية الرواية الرسمية، فيما يرى آخرون أنّه البديل عن موزاييك الكتب الملونة بألوان المذاهب
إذا وقع عراك بين شخصين وأصيب أحدهما، وأردنا أن نعرف بعد 5 دقائق ماذا حدث، فقد نصادف شهوداً رأوا الحادث فعلاً وآخرين لم يروا شيئاً ولكن يدّعون أنّهم رأوا ويختلقون روايات عمّا جرى. أما الروايات فتتعلق بالموقع الذي كان فيه الشهود؛ فمن كان منهم في جهة اليمين سيقدم مقاربة مختلفة للمشهد عمّن كانوا يشاهدون الحادث من ناحية اليسار. وهناك فرق بين رواية من كان فوق ومن كان تحت. ويختلف الأمر طبعاً تبعاً للاستعداد النفسي للراوي؛ فمن يروي وهو جائع ليس كمن يقصّ وهو متحمّس.

«هذا بالضبط ما يحصل عند كتابة التاريخ»، يقول مستشار التعليم العالي في مكتب اليونيسكو الإقليمي في بيروت د. عدنان الأمين، خلال ترؤسه إحدى جلسات المؤتمر التربوي الثالث للهيئة اللبنانية للعلوم التربوية بعنوان «تعلم مادة التاريخ وتعليمها: دروس من لبنان وللبنان». لكنّ الرواية هنا تفتقد، بحسب الأمين، مع مرور الزمن، المصادر، ويجري تبسيطها وتمزيق الروايات الأخرى تبعاً للمصالح المتنوعة. وتصبح كتابة التاريخ، برأي الخبير التربوي، أكثر تعقيداً في بلد يشدد فيه اتفاق الطائف على توحيد كتاب التاريخ، فيما تتعدد فيه الروايات ويتعدد المؤرخون والكتّاب، في بلد سيقرأ فيه المعلمون الكتاب الموحد بطرق مختلفة تبعاً لمرجعياتهم.
ومع ذلك، فالحاجة إلى كتاب موحّد ملحة، كما قال، في افتتاح المؤتمر، وزير التربية حسن منيمنة، «بعدما أصبح التاريخ مادة تعبئة إيديولوجية ومجالاً للانغلاق وتضخيم الخصوصيات التي تحولت في لبنان إلى جزر ثقافية منفصلة بعضها عن بعض». وتحول التعليم غير المنضبط للمادة، برأي منيمنة، إلى سوء استعمال لحقائق التاريخ ووثائقه وفوضى، و»الأسوأ أنّ هذا التعليم بات وسيلة لبناء ولاءات سياسية لا تعترف بوطن يقوم على الشراكة».
لا يوافق أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة اللبنانية د. عصام خليفة على اعتماد كتاب موحد بل مناهج مدرسية موحدة، على أن يكون هناك مجلس أعلى في إطار المركز التربوي يشرف على إصدار كتاب مدرسي ويكون له حق مناقشة كل كتاب مدرسي في مادة التاريخ يصدر عن مؤلفين آخرين.

وخلال ترؤسه جلسة عن مشكلات تدريس التاريخ وسبل معالجتها، ساق خليفة مجموعة أسئلة للتفكّر فيها عند كتابة التاريخ وتدريسه: «كيف نستطيع أن نوفّق بين حرية الفكر والبحث وتعدد وجهات النظر، وفرض وجهة واحدة في كتاب مدرسي موحّد؟ كيف يمكن أن نمنع الأساتذة المتنوّعي الآراء من طرح مقاربات متعددة لتحليل أحداث الماضي؟ هل سندرّس تاريخ المناطق ونهتم بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية أم سنكتفي بالأحداث السياسية؟ كيف نفسّر لطلابنا الأحداث العنفية الطائفية، وهل مردود التفسير يقوّي عوامل التعصب أم يعزز حس المواطنة؟
لماذا خصصت فقط ساعة واحدة لهذه المادة في المناهج؟».
وشرح أستاذ التاريخ في جامعة الموصل في العراق د. نايف شبيب كيف أنّ المشكلة العلمية هي آخر المشكلات التي تخطر في بالنا في الدول العربية عند تدريس التاريخ، وغالباً ما تتقدمها المشكلات الدينية والقومية والمذهبية والوطنية. أما في العالم المتقدم، فالمشكلة العلمية هي الأولى، بحسب شبيب، على الرغم من أنّ دوله «تتكون من خليط قومي أو ديني أو مذهبي أكثر تعقيداً ممّا هو موجود في مجتمعنا». لذا، دعا إلى إبراز الجوانب الحضارية في تاريخ كل بلد على حساب الجانب السياسي.

رئيس المؤسسة اللبنانية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية د. بطرس لبكي هو أيضاً يعتقد أن تعليم التاريخ الاقتصادي والاجتماعي اللبناني والمشرقي يسهم في تبريد الاحتقان الطائفي في أذهان الدارسين وفي تنقية التصورات المسبقة الشائعة. كذلك فإنّ هذا الجانب يساعد، برأيه، على إرساء وحدة مجتمعية تقبل بالتنوع عبر تسليط الضوء على التعاون بين الأهالي، مهما كانت انتماءاتهم الدينية والإثنية، في انتاج الثروة وتوزيعها.
أما الأستاذ في كلية التربية في الجامعة اللبنانية د. سيمون عبد المسيح فتوقف عند طريقة تدريس المادة عبر وضع التلامذة في وضعية الصراع المعرفي بجعل تصوراتهم السابقة موضع تساؤل، وتطوير الصراعات السوسيو ـــــ معرفية في الصفوف، أي التفاعلات في الصفوف، والعمل بطريقة فردية أو بمجموعات ثنائية أو بالمجموعة ــــ الصف في استراتيجيات متماسكة.
وفي أزمة كتاب التاريخ المدرسي، تحدث الأستاذ في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية د. منذر جابر عن بداية تشكل مادة التاريخ مادةً مستقلة في المناهج العاملة على امتداد المناطق اللبنانية وفي مختلف أنواعها، من رسمية عثمانية أو مدارس أهلية إرسالية أو محلية. وتوقف عند ارتباط هذه المناهج بأهداف الإرساليات الأجنبية العاملة وبالصراع المحموم في ما بينها من جهة والتزامها بالتوازنات السياسية على المستوى المحلي أو العثماني.
ورأى أستاذ التاريخ في جامعة بيروت العربية د. حسان حلاق أنّ تعدد كتب التاريخ وتنوّعها واختلاف مضامينها هي من جملة الأسباب الرئيسية في انقسام اللبنانيين في عهود الانتداب الفرنسي أو في عهود الاستقلال، وسواء قبل الحرب اللبنانية 1975 أو بعدها.

ولم تستطع جميع محاولات وزراء التربية بين عامي 1990 و2011 إصدار كتاب موحّد، لأنّه ليس هناك اتفاق على العيش الواحد، ومن يستشهد في سبيل قضية هو شهيد للطائفة وليس للبنان. ويسرد واقعة حصلت بين ثلاثة طلاب جامعيين يناقشون الأمير فخر الدين، فقال الطالب الأول إنّ الأمير درزي، فبادره الثاني بأنّه سنّي ومتزوج من 4 سيدات وكان يصوم رمضان، وعلّق الثالث أنّ الأمير المعني لم يمكن درزياً أوسنيّاً بل نصرانياً، وتوفي والصليب على صدره.
ومع ذلك، يعتقد حلاق أنّ توحيد كتاب التاريخ من دون ضوابط إعلامية لن يؤدي إلى توحيد اللبنانيين.

«مع التاريخ الموحّد وضد الكتاب الموحّد»، هكذا يعلن المدير العام لمدرسة البيان في البحرين د. نخلة وهبة رفضه لكتاب التاريخ المدرسي الموحّد الذي يؤدي إلى محاصرة متشددة للمعرفة التاريخية التي تصبح متلوّنة وقابلة للتشكيك انطلاقاً من قانون العرض والطلب السياسي المحكوم بمعادلة موازين القوة على ساحة السلطة. ومن شأن التوحيد أيضاً أن يقود، برأيه، إلى حتمية التقويم السلبي لكل انحراف عن الإجابة النموذجية، وأن يلغي الحشرية العلمية ووسوسة التقيد بحرفية الرواية الرسمية. فالطالب المواطن يخضع للضغوط لحفظ رواية وحيدة ولا يعطى فرصة قراءة روايات أخرى بديلة.

يخالف المدير العام لتعاونية موظفي الدولة وعضو اللجنة الوطنية لتوحيد كتاب التاريخ أنور ضو وهبة الرأي، «فحرية التعليم التي كفلها الدستور أدت إلى تعددية تربوية لم تعزز التماسك الاجتماعي، وبالتالي فإنتاج كتاب تاريخ موحد ممكن وليس مستحيلاً، وحتى لو شابته بعض الهنات الهينات يبقى أفضل بكثير مما هو قائم حالياً من موزاييك في الكتب الملونة بألوان الطوائف والمذاهب التي لا تخدم إلاّ مشاريع التجزئة والانقسام».

السابق
مواجهة الاستعباد… هروب أم مقاومة؟
التالي
مسيرات فلسطينية: “وحدتنا مصدر قوّتنا”