الحكام العرب على الطريقة الاستعمارية: فرّق تسد

لطالما عانت الشعوب العربية تحت نير الاستعمار الغربي من تلك السياسة الساقطة القائمة على دق الأسافين بين الطوائف والقبائل والعشائر والمناطق كي تحلو الأجواء للمستعمرين ليعتاشوا على تناقضات الناس واقتتالهم فيما بينهم، لقد كان الاستعمار البريطاني محترفاً في تطبيق تلك الإستراتيجية الخبيثة التي دفعت الشعوب ثمناً باهظاً لها فرقة ودماً وتخلفاً وتجزئة، وقد ظن البعض، وكل الظن إثم في هذه الحالة، أن سياسة فرق تسد قد اختف من بلداننا مع رحيل المستعمر الغربي، لكن هيهات! فمن قال إن الحاكم العربي الوطني المزعوم جاء ليصلح ما أفسده المستعمر؟ لا أبداً، ففي كثير من الأحيان ظل الحكم الاستعماري مستمراً تحت يافطات وطنية لا أكثر ولا أقل، وفي أحيان أخرى بدا وكأن النظام الاستعماري كان أرحم وأفضل من الحكم الاستعماري الداخلي الذي جاء تحت يافطة الاستقلال المزعوم.
لا أريد أن أغوص عميقاً في التاريخ العربي كي أبين كيف تلاعبت الأنظمة العربية بالنسيج الاجتماعي وجيرته لخدمة مصالحها كي تعيش على انقساماته وصراعاته، فما أسهل الحكم في بلاد تنهشها النزاعات والصراعات والضغائن الطائفية والقبلية والعشائرية والعائلية، من الأسهل لأي حاكم أن يحكم بلداً مفككاً على أن يحكم بلداً موحداً ومتماسكاً، فالبلد المتصارعة مكوناته يجعل الحاكم الفيصل والمتحكم دائماً بتوازناته ومشاحناته، بينما البلد المتماسك يشكل تهديداً لأنظمة الحكم الاستبدادية. وكلما ازداد الصراع الداخلي بين فئات معينة استراح الحاكم.
عندما وجد الرئيس المصري المخلوع وأجهزة أمنه الشيطانية أن هناك الكثير من المشاكل التي تواجه نظام حكمه راح يغذي الصراع بين المسلمين والأقباط كي تبتعد الأنظار عن الأزمات التي يعاني منها النظام، وقد تبين بعد سقوط مبارك أن ما كان يحدث من تفجيرات في كنائس واغتيالات لقادة أو أفراد من هذه الطائفة أو تلك إنما كانت بتدبير من أزلام النظام الذي جثم على قلوب المصريين عشرات السنين، وكما هو معروف فإن وزير الداخلية المصري سيئ الصيت حبيب العادلي يقبع الآن في السجن بتهمة تغذية الصراعات الطائفية، بما في ذلك تآمره مع مبارك على تفجير كنيسة القديسين الشهيرة، وقد جاءت الثورة المصرية لتثبت أن الشعب المصري بمسلميه وأقباطه شعب واحد، فقد تظاهر المسلمون والأقباط يداً بيد في ساحات الحرية، ولم يحدث حدث طائفي واحد منذ بداية الثورة المصرية، أما في زمن حكم مبارك فلا يكاد يمر أسبوع إلا ونسمع بحادثة طائفية بين المسلمين والأقباط.
وقبل أيام فقط خرج العراقيون صفاً واحداً في مظاهرات عارمة، شيعة وسنة وأكراداً ويزيديين ومذاهب أخرى، مطالبين برحيل عملاء الاحتلال المتمثلين بحكومة المالكي وشركائه من متعهدي الاحتراب الطائفي، فكما وحدت الثورة المصرية عموم المصريين، فإن المظاهرات العراقية أظهرت أن الشعب العراقي أيضاً شعب واحد لولا أن يد الغزاة وأزلامهم تلاعبت بالنسيج الوطني العراقي ومزقته إرباً إرباً كي تتمكن من حكم العراق والسيطرة عليه وعلى ثرواته وتشتيت قواه.
أما ثورة الياسمين التونسي فقد عرفت كيف تلم الشعب التونسي بجميع أطيافه حولها.
وقد اتضح الوعي العربي اليوم على أشده في ليبيا، فرفضت القبائل مقاتلة بعضها بعضاً، وها هو القذافي لا يجد من يدافع عن نظامه من قبائل ليبيا جميعها، فيضطر لجلب المرتزقة من حثالات الكوكب لقمع أفراد القبائل كلها دون تمييز. لقد ذهب تهديد القذافي السخيف: "سأفتح مخازن السلاح وسأسلح القبائل، وسأجعل ليبيا نار حمرة"، ذهب أدراج الرياح بعد أن اكتشفت قبائل ليبيا الواعية لعبته الحقيرة.
"شكرًا لكم أيتها الجمهوريات الثورية"، يصيح كاتب عربي، "فقد خففتم علينا عناء التأكيد والشرح للجمهور عن لعبتكم القذرة في الضرب على أوتار الطائفية والعشائرية والقبلية التي كنتم تسخرونها لمصلحتكم الفردية الضيقة، خمسون سنة مرت وهذه الأنظمة تحكمنا باسم الطائفة والعشيرة والقبيلة، خمسون سنة والشعوب العربية يشكك بعضها ببعض، خمسون سنة وكل جزء من الجسد الواحد يعتقد أن الجزء الآخر يريد أن يفنيه أو يلغيه، فقد دست هذه النظم دسائسها بين أعضاء الجسد الواحد، وسخرت لأجل ذلك ماكينة دعائية مخفية ضخمة، تعمل على الإشاعات والهمس، ثم تطور الأمر بهم فوجودنا أكثر غباء وتقبلاً لهذه الكذبة، حتى ظننا أنها حقيقة، فخرجوا بطائفيتهم وعشائريتهم وقبليتهم إلى العلن، وسخروا لها ماكينة دعائية حديثة وهي الفضائيات التلفزيونية ووسائل الإعلام الحديثة عبر خلق قنوات فضائية طائفية وقبلية تبث سموم التفرقة الطائفية والقبلية، وتركوها لعدة سنوات، وبعد أن تُفرغ كل جرابها من الحقد وتجيير الفتاوى، يتذكر وزراء الإعلام شرف الأمة ووحدتها، فيتسارعون لإغلاقها، ولكن بعد أن استقرت سمومها في العقل العربي، أضف إلى ذلك طبعاً إخراج الفتاوى الدينية والنقاش الديني من بين دفات كتب علماء الدين ومجالسهم المغلقة، ونشرها بين العامة لتحويلها إلى حالة نقاش ديماغوجي تخويني بين أفراد الطوائف".
يذكر تقرير تلفزيوني حول الموضوع ذاته كيف تم تسخير صناعة الدراما العربية لهذا الغرض، فكم من مسلسل يستذكر عهود الصراعات القبلية والعشائرية قبل أكثر من 1500 عام، تم إنتاجها خلال العشرين سنة الماضية، وجعلت من فرسانها أبطالا محببين للجمهور، وربما ما لا يعرفه الجمهور أن معظم هذه السيناريوهات كانت تكتب في أقبية أجهزة الأمن، كما يقول الكاتب، ولا تأخذ تلك السيناريوهات طريقها إلى الإنتاج إلا بعد موافقات أمنية ورسمية أخرى.
لكن ها هو الشعب العربي الثائر يسقط اليوم هذه الخطط الخبيثة، فقد عرفت الشعوب سرَ الكذبة الكبيرة وعرفت أن لا منجاة للجسد الواحد من الغرق وإن ارتفع جزء منه فوق الماء، "لقد اتضح الآن أن ما كان يُرش في عيون وآذان هذه الشعوب من الفرقة الطائفية والعشائرية والقبلية رمادا مسحته الشعوب، واستعادت وعيها مع أول صرخة للبوعزيزي الحر المقتول قهراً، وتأكدت أن الوطن يتسع لكل أبنائه، وللجميع الحق فيه بعيشة كريمة حرة متساوية".
أيتها الشعوب العربية لا تصدقي مزاعم حكامك بأن وجودهم ضروري للحفاظ على الموزاييك الطائفي والقبلي والإثني السائد في العالم العربي، وأن ذهابهم سيدخل المجتمعات العربية في صراع داخلي مرير، لا أبداً، فمن يغذي التناحر الطائفي والمذهبي والعرقي والقبلي والعشائري هي الأنظمة الحاكمة نفسها كي تبرر بقاءها، وتطيل في عمر حكمها على المبدأ الاستعماري الحقير: فرّق تسد.
باختصار الحكام يفرقونكم، والثورات توحدكم!

السابق
رئيس الجمهورية وفاعليات اتصلوا بالمطران سفر مستنكرين تفجير الكنيسة واجتماع عصر ا
التالي
هل بدأت الثورة تدق أبواب الشام؟