ظاهرة المرتزقة في القانون الدولي

إن أحد المظاهر البارزة التي شهدتها المنازعات المسلحة، سواء أكانت دولية أم غير دولية، ولاسيما منذ النصف الثاني من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، هو الدور الكبير والمؤثر للمرتزقة في هذه المنازعات، وهذا الدور لا يقتصر على مسألة ترجيح موازين القوى بين الأطراف المتحاربة، بل يتعدى ذلك إلى طبيعة النشاط الذي يقوم به المرتزقة في ميادين القتال. ونظراً لمخاطر هذا الدور، فإنني سأتطرق في هذا المقال إلى هذا الصنف من المقاتلين وموقف القانون الدولي منهم.

أولاً: المرتزقة ظاهرة قديمة حديثة:
ظاهرة المرتزقة من الظواهر التي عرفتها المجتمعات البشرية منذ القدم، وشكلت أداة مهمة من أدوات القتال في الحروب والغزوات، سواء قبل ظهور الدول والجيوش النظامية أو بعدها. وتطور دورها بشكل كبير في العصر الحديث، ولاسيما بعد ظهور حركات التحرر الوطني حيث وجد الاستعمار مصلحة حقيقية له في الاستعانة بالمرتزقة لضمان استمرار سيطرته على الشعوب الضعيفة ومقدراتها. والمرتزقة أفراد ينخرطون في القتال مع أحد الأطراف مقابل منافع مالية وليس من أجل قضايا عادلة، ولهذا فإن نشاطهم يفتقر إلى الأسس الأخلاقية والإنسانية والقانونية. والأخطر من ذلك أنهم لا يعيرون أدنى اهتمام لقوانين الحرب وعاداتها ولا يلتزمون بأي ضوابط أو قيود، فهم يستهدفون المدنيين والأسرى والجرحى والمنشآت المدنية ويرتكبون أفعالاً تحرمها المواثيق الدولية.
وعلى الرغم من محاولات المجتمع الدولي في الحد من هذه الظاهرة وتجريمها، إلا أن بعض الدول والأنظمة والحكومات تجد في المرتزقة وسيلة مجدية لتحقيق مصالحها، ولهذا نرى أن للمرتزقة دوراً كبيراً وخطيراً في الحروب والنزاعات المسلحة الدائرة حالياً، والتطور اللافت في هذه الظاهرة أن الكثير من الشركات ولاسيما بعد احتلال أفغانستان والعراق أخذت تتولى هذا النشاط.

ثانياً: من المرتزقة؟:
يعد البروتوكول الأول لعام 1977م الملحق باتفاقيات جنيف الأربع أول وثيقة دولية عرّفت المرتزقة، ووفقاً للمادة 47 من هذا البروتوكول فإن المرتزق هو أي شخص:
أ- يجري تجنيده خصيصاً. محلياً أو في الخارج. ليقاتل في نزاع مسلح.
ب- يشارك فعلاً ومباشرة في الأعمال العدائية.
ج- يحفزه أساساً إلى الاشتراك في الأعمال العدائية. الرغبة في تحقيق مغنم شخصي. ويبذل له فعلاً من طرف في النزاع أو نيابة عنه وعد بتعويض مادي يتجاوز بإفراط ما يوعد به المقاتلون ذوو الرتب والوظائف المماثلة في القوات المسلحة لذلك الطرف أو ما يدفع لهم.
د- وليس من رعايا طرف النزاع ولا متوطناً بإقليم يسيطر عليه أحد أطراف النزاع.
هـ- ليس عضواً في القوات المسلحة لأحد أطراف النزاع.
و- وليس موفداً في مهمة رسمية من دولة ليست طرفاً في النزاع بوصفه عضواً في قواتها المسلحة.
إن الشروط الواردة في هذه المادة شروط متكاملة ويجب أن تتوافر جميعها حتى يطلق على شخص ما صفة المرتزق، ويترتب على توافر هذه الصفة أثر قانوني مهم وهو عدم منح صفة المقاتل أو أسير الحرب للمرتزق بسبب مشاركته غير المشروعة في القتال، وهذا الوضع يستتبع ملاحقته قانونياً ومحاكمته وكذلك ملاحقة الأطراف ذات العلاقة بهذا النشاط.

ثالثاً: عدم مشروعية نشاط المرتزقة:
إن المرتزقة ونشاطاتهم الخطيرة، ولاسيما تلك النشاطات الإجرامية التي تستهدف الأبرياء والمنشآت المدنية فضلاً عن تهديدهم المباشر لسيادة الدول وأمنها واستقرارها ووحدتها، وعد نشاطاتهم عائقاً أساسياً أمام حركات التحرر الوطني، كل ذلك يجعل منهم أشخاصاً خطرين على المجتمع البشري بأكمله فهم يحترفون الجريمة من أجل المال، ونشاطاتهم غير مشروعة ومخالفة للقانون الدولي ومبادئه المستقرة، كمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية، ومبدأ استقلال الدول وسلامتها الإقليمية، وانتهاكهم لحق الشعوب في تقرير مصيرها…إلخ، وبسبب هذه المخاطر فقد بذل المجتمع الدولي جهوداً كبيرة لتحريم هذه الظاهرة وتوصل لبعض الاتفاقيات الدولية فضلاً عن إصدار أجهزة منظمة الأمم المتحدة عدداً كبيراً من القرارات ذات الصلة.

رابعاً: جهود المجتمع الدولي للحد من ظاهرة المرتزقة:
إن أولى الوثائق الدولية التي تطرقت للمرتزقة كانت اتفاقية لاهاي الخامسة لعام 1907م والمتعلقة بحقوق وواجبات الدول المحايدة والأشخاص المحايدين في حالة الحرب البرية حيث نصت المادة 4 على أنه: «لا تشكل هيئات مقاتلين ولا تفتح مكاتب لتوطينهم على أرض دولة محايدة لمساعدة المتحاربين» وأكدت المادة 5 أنه «لا تسمح الدولة المحايدة بالأعمال المشار إليها في المواد 2 إلى 4 فوق أراضيها، ولا تكون مطالبة بإصدار عقوبات ضد مرتكبي هذه الأعمال خلافاً لحيادها سوى إذا ارتكبت فوق أراضيها».
وعلى الرغم من خطورة نشاط المرتزقة فإن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949م لم تتطرق إليهم، وتم تدارك هذا النقص في البروتوكول الأول لعام 1977م الملحق بهذه الاتفاقيات حيث تم تعريف المرتزقة في المادة 47 وهو ما بيّناه أعلاه وقد استثنت هذه المادة المرتزقة من صفة المقاتل وأسير الحرب وبالتالي عدم تمتعهم بحقوق المقاتلين وأسرى الحرب.
وجهود المجتمع الدولي في الحد من هذه الظاهرة لم تتوقف، ولاسيما مع تطور دور المرتزقة منذ منتصف القرن الماضي وما شكلوه من تحد حقيقي أمام حركات التحرر الوطني، فضلاً عن دورهم الخطير في نشر الفوضى والانقلابات العسكرية وإشعال الحروب. فعلى صعيد منظمة الأمم المتحدة تصدى كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجلس الاجتماعي والاقتصادي لهذه الظاهرة وذلك بإصدار سلسلة من القرارات التي أدانت نشاط المرتزقة وحرمته وأكدت عدم مشروعيته والمسؤولية الجنائية عنه، فضلاً عن ذلك فقد تم التوصل عام 1989م إلى الاتفاقية الدولية ضد انتداب واستخدام وتمويل وتدريب المرتزقة. وعلى الصعيد الإقليمي، فقد أبرم أعضاء منظمة الوحدة الإفريقية عام 1977م اتفاقية تهدف إلى القضاء على الارتزاق في إفريقية ودخلت حيز التطبيق عام 1985م.
وعلى الرغم من هذه الجهود، فإن ظاهرة المرتزقة مازالت قائمة، والأخطر من ذلك هو انتشار الشركات التي تتولى هذه المهمة، وذلك تحت مسميات مختلفة أمنية وعسكرية، ومنها شركات لها أسهم في البورصات. ولهذا فإن على المجتمع الدولي أن يواكب هذه التطورات ويبذل جهوداً أكبر من أجل التوصل إلى اتفاقية دولية شاملة للقضاء على هذه الظاهرة، وعد هذا النشاط، سواء الأفراد الذين يجندون أنفسهم لمهنة الارتزاق، أو الشركات التي تتولى هذه المهمة، أو الدول التي تساهم به، من الجرائم الدولية الخطيرة.

السابق
حوار بين حريري واثنين من معارضيه
التالي
السياسة الإسرائيلية في القدس الشرقية تهدد الوجود الفلسطيني