ثورة الإنترنت: نيو نضال

عندما أطلقت السلطات المصرية سراح وائل غنيم، رفض الشاب أن ينسب إلى نفسه دوراً بطولياً في ثورة 25 يناير. وقال عن نفسه إنّه "مناضل الكيبورد فقط، بينما هناك آخرون دفعوا حياتهم وأموالهم بحثاً عن مصر أجمل"، "مناضل الكيبورد"، "عيال الفايسبوك"، "شباب الإنترنت"، كلّها مصطلحات ظهرت مع اندلاع الثورة المصرية، في إشارة الى الدور المفترض الذي أدّاه الإنترنت فيها.
وقد تكون هذه المرة الأولى في العالم العربي، التي يُربط فيها الفعل النضالي بلوحة مفاتيح الحاسوب، وتالياً بشبكة الإنترنت، هو ربط بات التأسيس عليه ممكناً، مع ارتفاع نسب مستخدمي الشبكة على نحو مطّرد، في العالم العربي، وإن بنسب متفاوتة بين دولة وأخرى. لكنّها نسب تبقى في كل الأحوال أقل مقارنةً بالأرقام المسجلة في الكثير من الدول، وتحديداً الغربية منها. هذا التفاوت في استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال، يفسّر التوجه، الحديث نسبياً، نحو الاستثمار السياسي للإنترنت، داخل مجتمعاتنا العربية، إذ تحوّل الى ظاهرة لافتة في السنوات الأخيرة.
لأشكال النضال المختلفة عبر الإنترنت تسميات عدّة، يستخدمها الباحثون الغربيون، لتعريف هذا النوع من النشاط السياسي والاجتماعي عبر الإنترنت. فتتعدّد المصطلحات بين "الإنترنت النضالي"، "التعبئة الإلكترونية"، "الاحتجاج الإلكتروني"، بل ويذهب الباحث الفرنسي فابيان غرونجون إلى اعتبار النضال عبر الإنترنت بأنّه نيو ـــــ نضال Néo ـــــ militantisme.

أمّا بدايات استخدام الإنترنت في تنظيم الاحتجاج السياسي والاجتماعي في الغرب، فتعود الى التسعينيات، كما يذكر الباحث البريطاني اندرو شادويك في كتابه "الإنترنت السياسي: دول، مواطنون وتكنولوجيا جديدة للاتصال". فأولى تلك الحملات الإلكترونية التعبوية "the MarketPlace"، التي تولّى القيام بها ثلاثون ألف ناشط، نجحت في منع إحدى شركات الكمبيوتر الأميركية من إدخال برمجيات على الحواسيب، كانت ستسمح بجمع البيانات الشخصية للمستخدمين، للإفادة منها لاحقاً في عمليات التسويق.

لكن البحث في تاريخ التعبئة أو النضال عبر الإنترنت لا يمكن أن يمر من دون التطرق إلى العمل الذي قامت به حركة زاباتيستا. وزاباتيستا هي مجموعة ثورية من ولاية تشياباس في جنوب المكسيك، تدافع عن السكان الأصليين للإقليم، وعن حقهم في الإفادة من موارده، كما تطالب بتحقيق قدر من الحكم الذاتي لهم. نجحت زاباتيستا، من خلال استخدامها وسائل الاتصال الحديثة لنشر أفكارها والتعريف بمطالبها، بنقل قضية محلية إلى الفضاء العالمي وشدّ الدعم لها، بل إنها صارت أحد رموز مناهضة العولمة. ورغم أنّ بعض الباحثين يشكّكون في قدرة أفراد الحركة على استخدام التقنيات الحديثة، رادّين هذا الفعل الى مناصرين لها في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول الغربية، لا يمكن إنكار الدور التقدمي للإنترنت في عملها النضالي. وقد ذهب الباحث الإسباني ـــــ الأميركي مانويل كاستلس الى تسميتها "أول حركة حرب عصابات إعلامية".

ورغم أنّ المجال لا يتسع لعرض كل التجارب الثورية التي توسطت الإنترنت وسيلةً لإرسال أفكارها والخروج الى الفضاء العام، اللافت هو في التوسع من طرح قضايا محلية أو وطنية، ليتحوّل الإنترنت الى ساحة لناشطين عابرين للحدود. هكذا لجأ مناهضو العولمة الى الشبكة الإلكترونية لتنظيم تحركهم العالمي والنزول في تظاهرات مناهضة لاجتماعات البنك الدولي، الدول الثماني الكبرى، منتدى دافوس، وغيرها.

مجموعات صغيرة وأصوات غير تقليدية
لم تكن الأحزاب السياسية الكبيرة أو المؤسسات المجتمعية التقليدية، أول من بادر الى استثمار الإنترنت في العملية الاتصالية، بل على العكس فإنّ الخروج الى الفضاء الإلكتروني بادرت إليه أولاً أحزاب صغيرة أو مجموعات تلتقي على قضية معينة لكنّها لا تنتظم في أيّ تشكيل سياسي ولا يخضع عملها لهرمية تقليدية، كما مثّل الإنترنت فضاءً مفتوحاً لأصوات مهمّشة، لا تجد لها منبراً لمخاطبة الرأي العام، أو لطرح قضاياها، ومنها على سبيل المثال، في الغرب، الجماعات المدافعة عن العاطلين من العمل، عن المشرّدين، إلخ. على أنّ اللافت أيضاً أنّ الإنترنت ساعد أصحاب الأفكار المتطرفة، تحديداً في الغرب، على الوصول إلى الرأي العام، متخطّين بذلك ما يقولون إنّه "حصار إعلامي" تفرضه السلطات عليهم. تقول الباحثة الفرنسية سيلين ماتوسزاك "إنّ الإنترنت هو ملجأ للأصوات المتشدّدة من كل نوع". فعلى سبيل المثال، عندما التفتت الأحزاب السياسية في فرنسا الى الشبكة الإلكترونية، بعدما سبقتها إليها جماعات الحركات الاجتماعية، فإنّ الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، كانت أول حزب فرنسي يحجز موقعاً له على الإنترنت، بهدف الوصول الى المواطن الفرنسي ومحاولة استقطابه.
لا يحتاج استثمار الشبكة الإلكترونية الى ميزانية، ولا الى أعداد كبيرة من الناشطين لإدارة العمل وتنظيمه. وأكثر من ذلك، يريح المستخدمين من عاملَي الوقت والمكان. وعليه، فإنّ إطلاق الحملات الاحتجاجية والتعبوية عبر الشبكة، يوفر على هذه المجموعات، مهما تضاءل حجمها، الكثير من المال والوقت والجهد، ويسمح لها أيضاً بتجاوز المسافات الجغرافية والوصول الى أكبر عدد ممكن من الجمهور من دون تكبد عناء التنقل.

فضاء من دون وسيط
لا يحتاج الاتصال بين الحركات النضالية أو الاحتجاجية وبين الجمهور الى أيّ وسيط. فمخاطبة الرأي العام، من خلال الإنترنت، لم تعد تمر عبر الوسائط الإعلامية الكلاسيكية التي تنتقي، في العادة، ما ترغب في بثه، وفقاً لأجندتها الخاصة. هنا، يمكن هذه الجماعات أن تنشر أفكارها كاملة من دون أن تخضع لقص أو تجزئة أو حتى تعديل. فقد جرت محاولات للالتفاف على التعتيم الإعلامي الذي حوصرت به، على سبيل المثال، التظاهرات البحرينية الأخيرة، وذلك من خلال نشر مشاهد المجازر على المواقع الاجتماعية المختلفة من يوتيوب، تويتر وغيرهما. لقد حوّلت صفحات الإنترنت المستخدم الى منتج وموزع ذاتي للمعلومة، من دون أن يكون مضطراً إلى اللجوء الى وسائل الإعلام لنشر ما يريد من مطالب التغيير.
في عالمنا العربي، حيث تحتكر نظم سياسية متسلطة مصادر إنتاج المعلومات وبثها، وحيث تهيمن النخب السياسية التقليدية على الفضاء العام، تتحول المواقع الإلكترونية الى فضاء متفلّت من الرقابة المفروضة، فاسحةً المجال أمام أصوات جديدة تعبّر عن هموم شعوبها، كما حصل في ثورتي تونس ومصر، وباقي الثورات اليوم. أكثر من ذلك، صارت وسائل الإعلام التقليدية التي تُمنع أو تعجز عن الوصول الى أرض الحدث، تلجأ الى ما يُحمّله المستخدمون على الشبكة من مشاهد وصور التُقطت بالهاتف أو عبر كاميرات بسيطة، من أجل إعادة بثها. بل إنّ بعضها بات يخصص مواقع له على الإنترنت، من أجل تلقي هذا النوع من التغطية الميدانية التي يقوم بها مواطنون عاديون.

تنظيم أفقي و"نرجسية" أقل
لعل ما يميز عمل الناشطين عبر شبكة الإنترنت أنّه غير خاضع لتراتبية هرمية كتلك التي تقوم عليها بنية التنظيمات السياسية وحتى النقابية. لا يحتاج من يريد إطلاق صفحة محتجة على واقع سياسي أو اجتماعي الى الحصول على تصريح أو إذن من مسؤول حزبي أو نقابي. هنا، لا قائد يحتكر الفضاء السياسي ولا مناصرين ينجرّون خلفه. يجري الاتصال بطريقة أفقية، وقد يقوم به فرد أو مجموعة من دون أن يكونوا ملزمين الخضوع لسلطة فوقية تحدد لهم سقف مطالبهم وحدودها.

نضال إلكتروني، نضال واقعي
يرى الباحثون أنّ الإنترنت منح مساحات للتعبير السياسي للأشخاص الذين هم في الحياة الواقعية الأكثر اهتماماً بالسياسة. وبناءً عليه فإنّ الركون الى الإنترنت، من أجل المطالبة بالتغيير، لا يقتصر بالنسبة إليهم على الشاشة ولوحة مفاتيح الكومبيوتر، بل يقترن بنشاط واقعي (يمثّل hacktivists (الناشطون الذين يخترقون المواقع) استثناءً، فهؤلاء يستخدمون الخصائص التقنية للشبكة من أجل توجيه رسائلهم كضرب واختراق المواقع والصفحات الإلكترونية وبالتالي فإنّ أساليبهم الاعتراضية لا تطبّق إلا إلكترونياً).
مما لا شك فيه أنّ الوسيلة تساعد على إطلاق الدعوات والوصول الى الرأي العام، وتالياً إلى تنظيم أطر العمل الاحتجاجي، وهي أثبتت نجاعتها في دولنا العربية، حيث تفرض الحكومات قيوداً على العمل السياسي، لكن ينبغي الالتفات الى أنّ ناشطي الإنترنت لا يكتفون بحملاتهم الإلكترونية، بل هي تخرج من عالمها الافتراضي لتنزل الى الشارع والساحات من أجل رفع الصوت وإيصال الرسالة.
لا يمكن أن تؤدي تقننة العمل النضالي الى التخلي عن الشارع الذي يبقى الساحة الأولى للثورات والاحتجاجات. فالثورة في مصر وتونس لم تكن لتؤتي ثمارها لو بقيت أسيرة اللوحة أو الشاشة الإلكترونية ولم يتحرك المواطنون نحو الشارع. إنّ تقنيات الاتصال الحديثة لا تصنع وحدها ثورات، بل إنّ فائدتها الحقيقية تتأتّى من التلازم مع الفعل البشري الواقعي لا الافتراضي. وكما تقول الباحثة الفرنسية مادلين اكريش فإنّ التقنيات لا معنى لها إلا كوسيلة لإقامة رابط فاعل بين الأفراد وبيئتهم.

السابق
إسرائيل ترمي ردميات في الأراضي اللبنانية
التالي
قداس احتفالي بعيد البشارة في صور