اللبنانيون يعبرون عن المقاومة العربية للمذهبية

لبنان ليس سوى تعبير عن حال مقاومة. إنها مقاومة حقيقية تستهدف التصدي لعملية تفكيك العالم العربي وشرذمته باسم المذهبية وذلك بدءا بالعراق وصولاً إلى كل دولة من دول المنطقة، مروراً بالبحرين طبعاً. ولذلك، كان ضرورياً، أقلّه من أجل لبنان خصوصاً، والعرب… أو ما بقي منهم، أن ينزل اللبنانيون بهذه الكثافة إلى «ساحة الحرية» في بيروت يوم الثالث عشر من مارس الجاري. أثبت اللبنانيون مرة أخرى أنهم يمارسون المقاومة. يكفي اللبنانيين فخراً أنهم يقاومون السلاح الميليشيوي لـ «حزب الله» ويقاومون في الوقت ذاته الغرائز المذهبية التي يحاول هذا الحزب، الذي ليس في واقع الحال سوى لواء في «الحرس الثوري الإيراني»، استخدامها للقضاء على العيش المشترك بين اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق.
لعلّ أهم ما أثبته اللبنانيون بنزولهم بمئات الآلاف إلى وسط بيروت، في الذكرى السادسة لانطلاق «ثورة الارز» في الرابع عشر من مارس 2005، إنهم يدركون أن ثورتهم، التي حققت الكثير إلى الآن، لا تزال في بدايتها وألا بدّ من نضال يومي على كل الصعد من أجل إعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية وحماية العيش المشترك في ظل دولة القانون التي تحمي الجميع وليس في «ساحة» اسمها لبنان. إنها «ساحة» يسودها منطق اللا منطق المتمثل في استخدام المحور الإيراني- السوري للوطن الصغير من أجل التوصل إلى صفقات تعقد على حسابه وعلى حساب أبنائه مع هذه الدولة العربية أو تلك، أو مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
أليس مستغرباً أن يوجد هذه الأيام في لبنان من يزايد على كل العرب والعالم في الموضوع الليبي بسبب قضية محقة، هي قضية وطنية بامتياز، اسمها قضية الإمام موسى الصدر، في حين لا يجد هذا الطرف المزايد ما يقوله، ولو من باب العتب، عندما يقف النظام السوري، بكل ما لديه من امكانات، مع العقيد معمر القذافي ويصوت مندوبه في مجلس جامعة الدول العربية ضد فرض حظر جوي على ليبيا؟
فجأة، صار هذا الطرف المدافع عن السلاح المذهبي صنماً لا يرى ولا يسمع. انعقد لسانه. لم يعد لديه ما يقوله في شأن الموقف السوري الذي يتلخص بأن دمشق تقوم، وربما معها حقّ في ذلك، بما تمليه عليها مصالحها بغض النظر عن موقف هذا المسؤول اللبناني التابع لها، حتى لو لم تكن لدى هذا المسؤول قضية أكبر من قضية موسى الصدر، أو هكذا يدّعي. كل ما فعله هذا المسؤول، بدل أن يخجل من نفسه، هو اللجوء إلى الصمت ومتابعة حملته على العقيد القذّافي إلى ما شاء الله. يفعل ذلك، لعلّ النظام السوري يستفيد من الحملة اللبنانية على ليبيا في إطار حسابات خاصة به. المهم أن يبذل هذا المسؤول كل ما في استطاعته للقضاء على مؤسسات الدولة اللبنانية وتوفير الغطاء المطلوب للسلاح غير الشرعي الذي يهدد مستقبل كل اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب.
لم تكن رسالة اللبنانيين في الثالث عشر من مارس 2011 مقتصرة على رفض السلاح الميليشيوي الذي لم تعد لديه سوى وظيفة واحدة تتمثل في إرهاب المواطن العادي وتكريس لبنان «ساحة». كانت هناك رسالة أخرى هي الدعوة إلى وقف المتاجرة بلبنان. فالسلاح أي سلاح، خصوصاً ذلك الموجه إلى صدوراللبنانيين لا قيمة له إلا في أذهان أدوات الأدوات مثل النائب المسيحي ميشال عون الذي لديه صورة، نشرت في الصحف، يقف فيها وقفة الولد الشاطر أمام ضابط إسرائيلي لدى سقوط بيروت تحت الاحتلال في العام 1982.
يفترض في أي سياسي لبناني يمتلك حداً أدنى من الوطنية والكرامة والشرف أن يدرك أن السلاح لا يستهدف سوى المتاجرة بلبنان وابتزاز الآخرين من عرب وغير عرب. في أحسن الأحوال، يشكل هذا السلاح وسيلة لتأكيد أن إيران صارت دولة متوسطية بامتياز وأن بيروت ميناء إيراني على المتوسط وأن الإيرانيين استطاعوا بالفعل ملء الفراغ الذي نتج عن الانسحاب العسكري السوري من لبنان نتيجة «ثورة الارز» التي فجرها اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من فبراير 2005.
لا يزال اللبنانيون الشرفاء حقّاً يقاومون السلاح الميليشيوي. إنهم يفعلون ذلك لأنّ المنطق يقول إنه لم تعد هناك من وظيفة لهذا السلاح باستثناء إثارة الغرائز المذهبية التي لا تخدم سوى إسرائيل المستفيد الأوّل من تفتيت المنطقة والقضاء على كل ما هو عربي فيها. ربما تكمن مشكلة لبنان في غياب أي موقف عربي من كل ما يدور في المنطقة. لكن اللبنانيين عرفوا كيف يمكن تجاوز تلك المشكلة فأخذوا أمورهم بأيديهم. لم يستفق العرب إلا متأخرين على ما يشهده لبنان. ربما استفاقوا وربما لن يستفيقوا إلاّ بعد استباحة إيران مستخدمة الغرائز المذهبية والسلاح كل بيت عربي. صارت لاعباً أساسيا في البحرين بعد سيطرتها على جزء من العراق، بما في ذلك حكومته. استغلت إيران كل الأخطاء التي ارتكبها الحكم في البحرين لإثارة الغرائز المذهبية وضرب الاستقرار في البلد، وعبر ذلك الاستقرار والأمن والتركيبة الاجتماعية داخل كل دولة من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. ما فعله الخليجيون يندرج في إطار الدفاع عن النفس بعدما بلغ السيل الزبى. ما على المحكّ في هذه المرحلة مستقبل الخليج ودوله وكل ما هو عربي فيه وحرية المواطن وسيادة الدول!
يكتشف اللبنانيون يوما بعد يوم أن عليهم أن يدافعوا عن بلدهم وعن مستقبل أولادهم من دون الاعتماد على أحد. يعرفون أنهم، مسيحيين ومسلمين، أخرجوا القوات السورية في لبنان. يعرفون انهم فرضوا المحكمة الدولية على المجتمع الدولي بفضل النضالات التي خاضوها وذلك من أجل وضع حدّ للسياسة القائمة على اخضاعهم وتدجينهم عن طريق الاغتيالات والتفجيرات. من كان يصدّق أن القوات السورية يمكن أن تخرج يوماً من الأراضي اللبنانية، من كان يصدّق أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ستبصر النور يوماً وأن لا شيء يمكن أن يوقفها؟
معركة لبنان لا تزال في بدايتها. يعرف اللبنانيون أن لا مستقبل لبلدهم ولأبنائهم في ظل السلاح. يعرفون أن منطق اللا منطق لا يمكن أن ينتصر. لا يمكن للبنان أن يكون مع القرار 1701 وضده في الوقت ذاته. لا يمكن للبنان أن يكون مع مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002 وضدها. لا يمكن للبنان أن يبقى تحت رحمة محور إقليمي لا همّ له سوى المتاجرة باللبنانيين والفلسطينيين وبكل شعب عربي تقع يده عليه. إذا كانت هناك أدوات لبنانية وأدوات للأدوات على استعداد للعب الدور الذي يحدده لها هذا المحور، فإن اللبنانيين يؤكدون، بأكثريتهم الساحقة، كل ساعة أنهم ملتزمون ثقافة الحياة أوّلاً ويرفضون استمرار المتاجرة بهم وببلدهم ثانياً وأخيراً.
آن أوان سقوط الاقنعة. آن اوان القول بالصوت العالي ان «ثورة الارز» مستمرة لأن الناس أحسن من الزعماء وأكثر وعياً منهم لخطورة السلاح الذي يتحكم بالقرار السياسي اللبناني منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969. انهم يدركون أن اغتيال رفيق الحريري ورفاقه والجرائم الاخرى التي ارتكبت في تلك المرحلة كانت في حجم جريمة احتلال الكويت في العام 1990، معروف كيف انتهى من كان وراء تلك الجريمة. ما ذنب لبنان واللبنانيين إذا كان الذين يقفون وراء اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى لم يأخذوا في حساباتهم أن الشعب اللبناني شعب مقاوم فعلاً وأنه يقاوم الذين يسعون فرض ثقافة الموت عليه أوّلاً وأخيراً وقبل أي شيء آخر.

السابق
السياسة الإسرائيلية في القدس الشرقية تهدد الوجود الفلسطيني
التالي
ميقاتي بين حكومتين… ولن يعتذر