الحروب الكاذبة … لماذا يريدونها؟ وكيف يصدقها الجميع!

"لماذا أرادوا هذه الحرب إذاً؟"… ما إن تندلع حرب حتى تبدأ التساؤلات حول الأكاذيب التي كانت وراءها.. في معظم الأحوال، هناك أكثر من دافع واحد وراء اتخاذ قرار الحرب، ورصد دوافع هذه الحرب ليس صعبا.
على عكس الكثير من الجنود الذي يتمّ الكذب عليهم، ليس لمعظم صناع قرار الحرب، أي الأسياد الذين يقررون حصولها من عدمه، أي دوافع شريفة في ما يقومون به.

إن دوافع الحرب الأهم هي تلك التي لا يتم الحديث عنها إلا نادراً. وأقلها أهمية أو حتى التافهة منها، هي التي تأخذ الحيز الأكبر في النقاشات. فالدوافع الرئيسية يتم التطرق إليها عادةً في الجلسات الخاصة، ومنها الحسابات الانتخابية، السيطرة على الموارد الطبيعية، ترهيب دول أخرى، الهيمنة في منطقة ما، منافع اقتصادية لأصدقاء أو ممولي الحملات الانتخابية، إيجاد أسواق استهلاكية جديدة، والمجال لتجربة أسلحة جديدة.

لو كان السياسيون صادقين، لكانت استحقت الحسابات الانتخابية أن يتم الحديث عنها في العلن، ولما كانت مدعى للعار أو سبب للسرية. غير أن منظورنا للديموقراطية شوّه لدرجة أصبحت فيها مسألة النجاح في الانتخابات كغاية للنشاط السياسي، مترافقة والربح المادي من المنصب.

حتى أن العملية الانتخابية أصبحت فاسدة لدرجة ينظر فيها إلى الرأي العام وكأنه عامل مساهم في هذا الفساد.
أما عندما تتعلق الأمور بالحرب، فيعي السياسيون جيداً أن الحرب تسوّق عبر الأكاذيب.
تمحورت الحرب مع اليابان حول قيمة آسيا الاقتصادية، لكن «الإطاحة بالإمبراطور الشرير» يمثل سببا أكثر جاذبية. وأوضحت مجموعة «المشروع للقرن الأميركي الجديد» المكونة من مفكرين شجعوا الحرب على العراق، دوافعها هذه قبل عشر سنوات تقريباً من الحرب ذاتها. وهي دوافع تصب في مصلحة هيمنة عسكرية أميركية على العالم عبر انتشار قواعد عسكرية في مناطق «المصالح الأميركية» الرئيسية. ولم يتردّد هذا الهدف بقدر سماعنا لعبارات رنانة على غرار «أسلحة دمار شامل»، «إرهاب»، «محور شر»، أو «نشر الديموقراطية».
بعباراتهم الخاصة كان «المشروع للقرن الأميركي الجديد» عبارة عن مجموعة من الباحثين بين العامين 1997 و2006 في واشنطن (وأعيد إحياؤها عام 2009).
وشغل 17 شخصاً من أعضائها مراكز عليا في إدارة جورج بوش، بمن في ذلك نائب الرئيس ورئيس موظفيه، مساعد الرئيس الخاص، نائب وزير الدفاع، سفيرا أفغانستان والعراق، نائب وزير الخارجية ومساعده.
وعمل أحد هؤلاء الأشخاص الأعضاء في «المشروع»، الذي تحول ليصبح في إدارة بوش، ريشارد بيرل، إلى جانب موظف بوش المستقبلي الآخر دوغلاس فايث، لدى رئيس حزب الليكود الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 1996، وكتبا ورقة بحثية بعنوان «ضربة نظيفة: استراتيجية جديدة لحماية المملكة». المملكة هي إسرائيل، والاستراتيجية تمثلت بالتأسيس لقومية مرتكزة على التفوق المسلح والإطاحة بالزعماء الإقليميين بالقوة ومن بينهم صدام حسين.
عام 2000، نشر «المشروع» ورقة بحثية بعنوان «إعادة هيكلة دفاعات الولايات المتحدة». تتوافق الأهداف التي تضمنتها هذه الورقة مع السلوك الحالي للحروب الكبرى أكثر مما تفعل شعارات «نشر الديموقراطية» أو «مقاومة الاستبداد». فعندما هاجم العراق إيران، مددنا يد العون. وعندما هاجم الكويت، تدخلنا. وعندما لم يفعل شيئاً، قصفناه! لا يبدو هذا السلوك منطقياً في إطار القصص الخرافية التي سمعناها، لكنه يبدو منطقيا جداً في إطار الأهداف التي حددها "المشروع":
الحفاظ على التفوق الأميركي.
إعاقة صعود القوى المنافسة.
تكييف نظام الأمن الدولي بحسب المبادئ والمصالح الأميركية.
وأوضح «المشروع» أنه سيكون علينا «خوض حروب عديدة ومتتالية والفوز بها بحزم» و«تأدية أدوار (بوليسية) بهدف تكييف البيئة الأمنية في المناطق الحساسة».

وجاء في الورقة ذاتها:
«في حين تمثل حرب العراق غير المنتهية التبرير المباشر، تتخطى الحاجة لتواجد أكبر للقوات الأميركية في الخليج مسألة صدام حسين. وعلى القواعد الأميركية في المنطقة أن تعكس هذا الواقع. ومن وجهة نظر أميركية، تمثل هذه القواعد أهمية كبرى حتى مع غياب صدام عن الساحة السياسية. فعلى المدى الطويل، قد تمثل إيران تهديداً كبيراً على المصالح الأميركية في منطقة الخليج كما كان العراق. وحتى مع تحسن العلاقات الأميركية – الإيرانية، تبقى القواعد الأميركية في المنطقة ضرورة حيوية للاستراتيجية الأمنية الأميركية…».
تم نشر هذه الأوراق وإتاحتها للعامة قبل سنوات من اجتياح العراق. وبرغم ذلك، شكّل اقتراح بقاء القوات الأميركية وتأسيسها لقواعد دائمة في العراق بعد مقتل صدام حسين فضيحة مدوية في صالات الكونغرس ووسائل الإعلام.
وفي ذات الوقت، كان القول آنذاك بأن الحرب على العراق كانت متعلقة بمطامحنا الامبريالية أو بالنفط أو إسرائيل أكثر منها بأسلحة (لا يمتلكها) صدام، بمثابة الهرطقة. أما الزعم بأن هذه القواعد قد يتم استخدامها لشن هجمات على دول أخرى بما يتناسب وهدف «المشروع» المعلن حول «الحفاظ على التفوق الأميركي»، فكان إفراط في الهرطقة.
وبحسب القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي بين العامين 1997 و2000 ويسلي كلارك، فقد وضع وزير الحرب الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد مذكرة تقترح السيطرة على سبع دول خلال خمس سنوات: العراق، سوريا، لبنان، ليبيا، الصومال، السودان وإيران.
وتمّ إيضاح وتأكيد الخطوط العريضة لهذا الاقتراح من قبل رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير، الذي ألقى عام 2010 الأضواء على نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني:
«تشيني أراد تغييراً عنيفاً لجميع الأنظمة في الشرق الأوسط التي رأى فيها تهديداً للمصالح الأميركية». وبحسب بلير «كان (تشيني) مستعداً للعمل على جميع الجبهات، العراق، سوريا، إيران، بالإضافة إلى امتداداتها أي حزب الله، حماس، الخ…»، وأضاف «بعبارة أخرى، ظنّ (تشيني) أنه يجب التأسيس لعالم جديد، وأنه بعد هجمات 11 أيلول، يجب القيام بذلك بإلحاح وقوة. وبالتالي، كان مع القوة الضاربة. من دون أي مكان لأية أسئلة».
نظريات المؤامرة
يكمن جزء من روحية «القساوة» الأميركية المطلوبة من صناع الحرب في الفكر النمطي المنطلق من أن عدواً شريراً وراء كل ظلّ. ولعقود خلت كان هذا العدو الاتحاد السوفياتي وتهديد الشيوعية العالمية. غير أن الاتحاد السوفياتي افتقر للتواجد العسكري العالمي الذي تمتعت به الولايات المتحدة، ولطالما تمّ المبالغة بأسلحته وتهديداته واعتداءاته. أما مناطق نفوذه الحقيقية، فكانت دول فقيرة صغيرة مقاومة للهيمنة الأميركية. فلم يكن يسمح للكوريين، والفيتناميين، والأفارقة والأميركيين الجنوبيين أن تكون لهم مصالحهم السيادية الخاصة.
ولكن ماذا عسانا نقول للرأي العام عندما نواجه هذه الدول الفقيرة الصغيرة؟ ممن نحمي أنفسنا ومصالحنا؟
…مملكة شر طبعاً!
خلال الحرب الباردة، كانت المؤامرة الشيوعية ناجحة لدرجة ظنّ بعض أكبر المفكرين أن حرب الولايات المتحدة لن تستطيع الاستمرار من دونها. ومن هؤلاء ريشارد بارنيت:
«إن أسطورة الشيوعية المعممّة – والقائلة بأن كل أنشطة الذين يدعون أنفسهم شيوعيين أو الذين يدعوهم جاي إدغار هوفر بالشيوعيين هي تحت سيطرة الكرملين – هي ضرورة لإيديولوجية بيروقراطية الأمن القومي. فمن دونها سيجد الرئيس ومستشاروه صعوبة أكبر في تحديد العدو. فهم لا يستطيعون إيجاد أعداء جديرين بنشاط «الدفاع» في وجههم من قبل أعظم قوة عسكرية في التاريخ».
…وكأن الحرب لن تستمر!
خلال عشر سنوات، تم استبدال التهديد الشيوعي أو الاتحاد السوفياتي بخطر الإرهاب أو «القاعدة». أضحت الحروب ضد امبراطورية وإيديولوجية حروباً ضد جماعة إرهابية صغيرة. لهذا التغيير نقاط قوة. ففي حين يمكن للاتحاد السوفياتي أن يسقط إعلامياً، لا يمكن إثبات إزالة مجموعات إرهابية سرية صغيرة متشتتة ندعوها «القاعدة». وقد تفوت خدمة الإيديولوجية، غير أنه أينما حاربنا أو فرضنا سيطرة غير مرحب بها، ستتم مقاومتنا، وستكون هذه المقاومة «إرهاب» لأنها ضدنا. تلك أضحت الذريعة الجديدة للحرب الأزلية. والدافع هو الحرب بذاتها وليس الحملة الصليبية لإزالة الإرهاب، والتي بطبيعة الحال، ستولد المزيد من الإرهاب.
للمال والأسواق
ليست دوافع الحروب الاقتصادية بمستجدّات. ولا تأتي كلمات سميدلي باتلر الأكثر ألفةً في كتابه «خدعة الحرب» (war is a racket) الشهير، وإنما في عدد صحيفة «كومون سينس» (المنطق) الإشتراكية عام 1935 حيث كتب:
«لقد أمضيت 33 عاماً وأربعة أشهر في الخدمة العسكرية، وخلال هذه الفترة كنت في معظم الأحيان عضلات «رجل الأعمال الكبير» في وول ستريت والمصارف. باختصار، لقد كنت مبتزاً، رجل عصابات للرأسمالية. لقد ساعدت في جعل المكسيك، ولا سيما منطقة تامبيكو، آمنة خدمةً لمصالح النفط الأميركية عام 1914. ساهمت في تحويل كوبا وهايتي إلى مكان مناسب لكي يكسب رجال مصرف «ناشونال سيتي بنك» ربحاً فيهما. ساعدت في اغتصاب جمهوريات دول أميركا الوسطى خدمةً لمصالح وول ستريت. طهرت نيكاراغوا من أجل مصرف «إنترناشيونال بنك» التابع للأخوين براون بين العامين 1902 و1912. جلبت النور إلى جمهورية الدومينيك من أجل المصالح الأميركية في صناعة السكر عام 1916. ساعدت في أقلمة الهندوراس بما يناسب شركات الفاكهة الأميركية عام 1903. وفي عام 1927، ضمنت وصول شركة «ستاندرد أويل» النفطية إلى الصين بسلام. وعندما أستعيد كل هذه الأمور، أرى أنني قد أكون أعطيت «آل كابون» بعض التعليمات. ففي حين انحصرت عملياته على ثلاث مقاطعات، كانت نشاطاتي في ثلاثة قارات».

وخلال الحرب العالمية الثانية، أطلع وزير الخارجية كورديل هال لجنة خاصة على مخاوف عالمية من أن الولايات المتحدة ستحاول «إطعام، إلباس، إعادة إعمار، وحكم العالم». وتمّ تهدئة هذه المخاوف عبر إقناع الرأي العام أن الأهداف الأميركية هي منع اندلاع أي حرب أخرى وضمان «حرية الوصول إلى المواد الخام و(تشجيع) التجارة العالمية». فتحولت كلمة «الوصول المتساوي» المدرجة في وثيقة الأطلسي لتصبح «حرية الوصول»، أي تحديداً وصول الولايات المتحدة، وليس بالضروري الآخرين.
وفي خطاب مكتب الرئاسة الأميركية البيضاوي عن نتائج حربي أفغانستان والعراق، قال الرئيس باراك أوباما في 31 آب عام 2010 والفخر في عينيه: «تمتد أسواق سلعنا الجديدة من آسيا إلى الأميركتين!».
حتى لو لم يكن لصناع الحرب دوافع اقتصادية، سيكون من المستحيل على المؤسسات ألا ترى الأرباح الاقتصادية كنتيجة مزدوجة مرافقة للحروب. وبحسب جورج ماكغوفرن ووليم بولك، «عام 2002، وقبل الاجتياح الأميركي (للعراق)، ومن بين أكبر الشركات العشر عالمياً تحقيقاً للأرباح، كانت فقط شركة واحدة في مجال النفط، أما عام 2005، فأربع من هذه الشركات كانت في اللائحة».
من أجل الأرباح
شكلت الاستفادة من مداخيل الحرب قاسماً مشتركاً في جميع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة. وخلال حرب عام 2003 على العراق، أبرم نائب الرئيس الأميركي تشيني عقوداً هائلة غير مشروطة مع شركة «هاليبرتون»، التي لا يزال يحصل منها على مكافآت. أما طوني بلير فكان أكثر حرصاً في مكاسبه الحربية. وقد ضبطه «تكتل وقف الحرب» عام 2010:
«يكسب (بلير) مليوني جنيه إسترليني سنوياً من أجل يوم عمل واحد في الشهر، من المصرف الاستثماري الأميركي «جاي بي مورغان»، الذي يصادف أنه يحقق أرباحاً طائلة جرّاء تمويله لمشاريع إعادة إعمار العراق. كما لا توجد كلمة تكفي لشكر بلير في الصناعة النفطية، حيث كان اجتياح العراق وبوضوح لهدف السيطرة على ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم. ودفعت له العائلة المالكة الكويتية حوالى مليون جنيه أيضاً لوضع تقرير حول مستقبل الكويت، وصفقات تجارية عبر شركة استشارية أسسها بهدف إرشاد دول أخرى في الشرق الأوسط توفر له 5 ملايين سنوياً. وفي حال نضبت هذه الموارد، وقع عقداً مع شركة «يو آي» النفطية الكورية الجنوبية، والتي لها مصالح كبرى في العراق حيث يتوقع البعض أنها في نهاية المطاف قد توفر له 20 مليوناً».
من أجل لنفط والموارد
من إحدى أكبر دوافع الحرب، السيطرة على الموارد الطبيعية في دولة أخرى. وقد بيّنت الحرب العالمية الأولى لصانعي الحروب مدى أهمية النفط لاستمرار الحرب بحد ذاتها، ولكل اقتصاد صناعي. عام 1940، بلغ إنتاج الولايات المتحدة من النفط حوالى 63 في المئة من إجمالي الإنتاج العالمي، غير أنه في عام 1943، حذر وزير الداخلية هارولد إيكس من أنه «إذا كان لا بد من حرب عالمية ثالثة، فيجب أن تخاض بنفط دولة أخرى، فالولايات المتحدة ستكون مفتقرة لهذا المخزون».
وفي وقت لاحق، صرح الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر: إن «أي محاولة تقوم بها دولة أخرى للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر على أنها اعتداء على مصالح الولايات المتحدة الحيوية، وستتم مواجهة هذا العدوان بكل الوسائل الممكنة، بما فيها الوسائل العسكرية».

وبغض النظر عما إذا كانت حرب الخليج الأولى من أجل النفط، قال الرئيس جورج بوش الأب إنها كانت كذلك. انتقد الرأي العام الأميركي سياسية «الدم في مقابل النفط»، وبدّل الرئيس نبرته بسرعة. أما نجله، الذي هاجم البلد نفسه بعد 12 عاماً، فترك لنائبه أمور التخطيط لها خلال اجتماعات سرية مع أصحاب شركات النفط، وعمل جاهداً لتطبيق قانون «هيدركربوني» في العراق ليفيد شركات النفط الأجنبية، غير أنه لم يعمد إلى تسويق حرب العراق على أنها مخطط لسرقة نفطها. وأتى عنوان عدد «واشنطن بوست» بتاريخ 15 أيلول 2002 : «في سيناريو الحرب العراقية، النفط هو المفتاح: شركات التنقيب الأميركية تحدّق بالبركة النفطية الهائلة».

في السياق نفسه، خلق جورج بوش عام 2007 ما يدعى بـ«أفريكوم»، وهي القاعدة العسكرية الأميركية التابعة لقطعة الأرض التي تتخطّى أميركا الشمالية برمتها من حيث المساحة، والتي قل التحدّث عنها، أي القارة الأفريقية. وقد تمّ التداول بهذه الفكرة سابقاًَ عبر «لجنة السياسة النفطية في افريقيا» (وتضم ممثلين عن البيت الأبيض والكونغرس وشركات النفط) التي رأت فيها أرضاً «قادرة أن تقدم إضافات مهمة في حماية الاستثمارات الأميركية». وبحسب نائب القائد الأعلى للقوات الأميركية في أوروبا الجنرال شارل والد فإن «المهمة الأساسية للقوات الأميركية (في أفريقيا) ستكون ضمان أمن الحقول النفطية في نيجيريا، التي قد تشكل حتى 25 في المئة من الواردات النفطية الأميركية في المستقبل».
فهل بكلمة «أمن» يعني أنه سيقوم بتعزيز ثقة الآبار بنفسها؟
إلى ذلك، لم تكن أهداف التدخل الأميركي في يوغوسلافيا في التسعينيات بعيدة عن السيطرة على مناجم الزنك، الفضة، الذهب، الفولاذ، العمالة الرخيصة، والسوق غير المنظمة.
عام 1996، توفي وزير التجارة الاميركي في تحطم طائرة في كرواتيا إلى جانب مسؤولين كبار في «بوينغ»، «بيكتل»، «أي تي أند تي»، «نورث ويست إيرلاينز»، وشركات أخرى عديدة كانت في صدد إبرام صفقات مع الحكومة في مجال «إعادة البناء». وكانت «إنرون»، وهي الشركة الفاسدة التي انهارت في 2001، عرفت بمشاركتها في هذه الصفقات لدرجة أصدرت حينها بياناً صحافياً لتنفي وجود أي من موظفيها على متن هذه الطائرة. ودفعت «إنرون» 100 ألف دولار للجنة الوطنية الديموقراطية عام 1997 قبل ستة أيام من مرافقة وزير التجارة الجديد مايكي كانتور إلى البوسنة وكرواتيا وإبرام صفقة بـ100 مليون دولار لبناء حقل طاقة.
وحول السيطرة على كوسوفو، أتى في كتاب ساندي دايفيس «الدماء على أيدينا»:
…ونجحت عملية خلق دويلة مسلحّة بين يوغسلافيا والطريق الممتد على طول مشروع خطّ أنابيب «أمبو» النفطية عبر بلغاريا، مقدونيا، وألبانيا. وهذه الأنابيب يتم بناؤها بدعم حكومة الولايات المتحدة، بهدف إيصال الإمدادات النفطية من بحر قزوين إلى الولايات المتحدة وأوروبا.

وشرح وزير الطاقة بيل ريشاردسون تفاصيل هذه الاستراتيجية عام 1998 قائلاً «إن هذا الأمر يتعلق بأمن الطاقة الأميركي… ويهمنا كثيراً أن تتوافق خطة الأنابيب والوضع السياسي».
ولدى حديثه عن أفغانستان عام 2009، قال سيد الحرب زبغنيو بريجنسكي: «ليس من الوارد الانسحاب من أفغانستان في المستقبل القريب». لم يعط أي أسباب لذلك، وقال إن تصريحاته التالية ستكون أكثر إثارة للجدل.
خلال مقابلة معه، سألت بريجنسكي لماذا يجب اعتبار هذا التصريح بالذات غير مثير للجدل في حين يعارض غالبية الأميركيين الحرب في أفغانستان. فأجابني أن الكثير من الناس ضعفاء وجهلة، ويجب تجاهلهم. وأضاف أن أحد أهم أهداف الحرب في أفغانستان هو بناء خط أنابيب نفطية من الشمال وصولاً إلى المحيط الهندي. ولم يفاجئ الجواب أحداً في الغرفة.
للسلاح تؤمن الحروب حجة كافية للحفاظ على ترسانة عسكرية كبيرة وإنتاج دائم للسلاح. وقد يكون هذا الهدف الرئيسي للعمليات العسكرية العديدة التي تلت الحرب الباردة.
وتندلع الحروب أيضاً في ظروف تسمح باستخدام أسلحة معينة بالرغم من أن الاستراتيجية تبدو غير منطقية. عام 1964 على سبيل المثال، قرر صانعو الحرب الأميركيين قصف شمال فيتنام بالرغم من أن الاستخبارات قالت لهم إن المقاومة تتكتل في الجنوب.
لماذا؟ على الأرجح لأنه كان عليهم التصرف بهذه القنابل ولأنهم أرادوا الحرب. كما كان إلقاء القنبلة الذرية على اليابان غير ضروري بتاتاً، وخاصةً القنبلة الثانية. غير أنها كانت قنبلة من نوع آخر، قنبلة بلوتونيوم. وأثارت مسألة اختبارها حماسة البنتاغون القصوى. وكذلك بلدة روايان الفرنسية التي شهدت قصفاً أميركياً مكثفاً خلال الحرب العالمية الثانية لاختبار آثار «النابالم» على البشر للمرة الأولى.

للكبرياء
وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان… فالحروب التي يتم خوضها ضدّ تهديد شامل (الشيوعية، الإرهاب، أو غيره) هي أيضاً حروب لإثبات تفوق الذات على الآخر، وتفادي خطر خسارة «المصداقية». غير أنه في معجم الخطاب الحربي، تأتي «المصداقية» مرادفاً لـ«العدائية»، وليس «الاستقامة». وبالتالي، فإن المقاربات العالمية السلمية لا تفتقر إلى العنف فقط، وإنما «المصداقية» أيضاً. وبحسب ريشارد بارنيت:
«لطالما قال المسؤولون العسكريون في إدارة (لاندون) جونسون أن مخاطر الهزيمة والإذلال أكبر من مخاطر ألغام هايفونغ، تدمير هانوي، أو حتى قصف «أهداف معينة» في الصين».
لقد علموا أن العالم سيثور على هذه الأفعال، لكنهم ولسبب ما، لم يروا أي ذلّ في مسألة اعتبارهم مجرمين. فالاعتدال فقط قد يكون إذلالاً.
وإحدى أكثر الروايات الدرامية التي أتت في تسريبات البنتاغون التي نشرها دانيال إيلزبرغ، هي برقية مساعد وزير الدفاع جون ماكناوتون في 24 آذار عام 1965 والقائلة بأن الأهداف الأميركية وراء القصف الفظيع للشعب الفيتنامي هي في 70 في المئة منها «لتجنب إذلال الخسارة الأميركية (وضمان سمعتنا)».
وكان همّ ماكناوتون الأساسي هو مغبة أن تطرح دول أخرى تشكك في مدى تمتع الولايات المتحدة بالقسوة اللازمة لتفجيرهم هم أيضاً، أسئلة محرجة على غرار: «هل تقيّد الولايات المتحدة تحفظات معينة قد تفيدنا في ظروف مستقبلية؟ (كالخوف من الشرعية الدولية، الأمم المتحدة، خوض حرب ميدانية في آسيا، الحرب مع الصين أو روسيا، استخدام السلاح النووي… إلخ)؟»
هي تحفظات عديدة بالفعل. لكنه تم إلقاء الكثير من القنابل على فيتنام في محاولة لإثبات عدم التقيد بها: حوالى 7 ملايين طن، بالمقارنة مع مليونين ألقيت خلال الحرب العالمية الثانية.
يفهم كل من في واشنطن استعراضات القوة هذه. فلطالما اعتقد الرؤساء أنه لن يتم ذكرهم العظيم من غير حروب. وكتب ثيودور روزفلت إلى صديق عام 1897: «يتوجب علي أن أرحب بأي حرب تقريباً، لأني أعتقد أن هذه البلاد في حاجة إلى واحدة».
وبحسب الروائي غور فيدال، فقد قال له الرئيس جون كندي أن الرئيس في حاجة إلى حرب من أجل العظمة، ولولا الحرب الأهلية، لكان أبراهام لينكولن مجرد محامي سكك حديد. وبحسب ميكي هيرسكوفيتش، الذي عمل مع جورج بوش عام 1999 على سيرة حياته، أراد الأخير حرباً حتى قبل أن يصبح رئيساً.

إن الأمر الوحيد المزعج في هذا السعي إلى الحرب المستدامة هو أنه، وبالرغم من أن معظم الدوافع تبدو حقيرة، جشعة، غبية وكريهة، فإن بعضها شخصي جداً ونفسي. ربما قد يكون من «المنطقي» أن يهدف المرء لإنشاء سوق عالمية تشتري السلع الأميركية وتنتجها بكلفة أدنى، ولكن لماذا يجب أن نكون «متفوقين في الأسواق العالمية»؟ لماذا نتوق إلى»ثقة جماعية بالذات»؟ أليست تلك الثقة أمر يتعلق بالفرد وبكل شخص بذاته؟ لماذا هذا الحماس من أجل «الهيمنة»؟ لماذا لا يتم التطرق في الغرف الخلفية إلا قليلاً إلى المواضيع المتعلقة بالحماية من التهديدات الخارجية فيما يكثر الكلام عن أساليب السيطرة على الآخرين بفوقيتنا و«مصداقيتنا» المخيفة؟ فهل الحرب متعلقة بمسألة كسب الاحترام؟
(السفير)

السابق
الاحتجاز التعسفي لطالبي اللجوء في لبنان
التالي
مهجرون جنوبيون يحتجون على منعهم من البناء