مقارنة بين شارعين عربيين…

احد المتغيرات الجوهرية التي حملتها الموجة المدهشة التي تجتاح العالم العربي في دول عديدة من مغربه الى مشرقه، المتغيّر المتعلّق بمفهوم "الشارع العربي"… المفهوم الذي ساد طويلاً باعتباره تعبيراً عن الموقف الثابت في المزاج الجماهيري العربي منذ 1948 بدعم القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل.
حتى الحرب الاسرائيلية على غزة، كآخر حدث دراماتيكي متعلّق بالصراع العربي – الاسرائيلي، كان تعبير "الشارع العربي" هو المصطلح الاستفتائي القوي ولكن غير الملموس الذي تستخدمه الاوساط الغربية كما الحكومات العربية، كما المثقفون العرب، في اعتبار الموقف ضد السياسة الاسرائيلية وداعمها الاميركي هو المعيار السياسي (الوحيد) في العالم العربي المتفق عليه في الثقافة الشعبية العربية.
مع انطلاق شرارات الانتفاضات الشعبية تحت الشعار الديموقراطي يبدو "الشارع العربي" الآن شارعاً يعمل تحت الضغط الديموقراطي لا الوطني كما كان في السابق. ففي السابق، حتى اكثر الانظمة ديكتاتورية كانت تبرر خطابها الراديكالي بكونه تلبية لرغبة "الشارع العربي" ضد اسرائيل. وكان هذا التوصيف صحيحاً، بل لعله ازداد صحة مع الوقت مع انتقال "الشارع العربي" من صدمة سلبية الى صدمة سلبية أعلى في اكتشافه استحالة او على الاقل صعوبة الانخراط بل القبول الاسرائيلي بالحد الادنى لتسوية سلمية، وهذا الحد الادنى بمفهوم "الشارع العربي" اصبح طويلاً ولا زال، اقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية والانسحاب الاسرائيلي من الاراضي السورية في الجولان.
الآن نحن في خضم فوران "الشارع العربي"… لكن الشارع العربي الديموقراطي لا "الشارع العربي" الوطني.
دعونا هنا نتأمّل بعض الشيء في العلاقة بين الشارع القديم والشارع الجديد.
أولاً – تبعاً لمسار الانتفاضة الكبرى الحاصلة في هذه الموجة – وهي الانتفاضة المصرية – لا يبدو ان الشارع الجديد يولد على انقاض الشارع القديم او في مكانه. بالعكس، فأحد العناصر الأكثر جاذبية في الاحداث المصرية، ان الشارع الجديد، اي ميدان التحرير يقدم مصالحة صامتة ولكن عميقة بين الديموقراطية والوطنية. مصالحة تحصل للمرة الاولى منذ العام 1948. فهذا الانتقال الديموقراطي للشارع المصري يستوعب الآن الشعار الوطني داخله… فالوطنية في مصر – كما ظهرت في ميدان التحرير – لم تكن شعاراً بل رسالة. فيما الشعار الوحيد المعلن – ولهذا فهو شعار – هو الشعار الديموقراطي.
ثانياً – عندما كان "الشارع الوطني" هو السائد في العالم العربي، اي شارع القضايا الوطنية ومحورها القضية الفلسطينية وكل ما يتصل بها، جرى استخدامه لضرب القضية الديموقراطية. ساهمت في هذا الضرب أنظمة وايديولوجيات: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وبالنتيجة عشنا ستين عاماً من الصراع بين الديموقراطي والوطني. لكن الفشل كان مزدوجاً: فشل الديموقراطيون في أن يقودوا وطنياً وفشل الوطنيون في ان يقودوا ديموقراطياً… ومن هنا ولدت ثنائية: الديكتاتور الوطني ضد الديموقراطي الخائن.
أما اليوم – وانطلاقاً من تجربة ميدان التحرير التي لم ترفع سوى اليافطة الديموقراطية والتي اجتازت مصر فيها عتبتها الأولى نحو النظام الجديد مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية – فإن الشارع الديموقراطي يبدو ناضجاً وبدون تبجح لاستيعاب مزاج الشارع الوطني.
الشارع العربي الجديد يقول لنا بصمت اقوى من الدوي: انت وطني لانك ديموقراطي، وهذا سيعني تعديلاً متدرجاً ومسؤولاً لموقع مصر في محيطها العربي والاقليمي رغم كل الالتزامات الدولية. فعنوان النضج الكبير هو التأكيد على الالتزام بالاتفاقات الدولية ولكن المسافة عن السلوكيات الاسرائيلية باتت امراً محسوماً.
إذن لسنا امام موت "شارع عربي" وإن كنا امام ولادة "شارع عربي" من نوع جديد. شارع الاولوية الديموقراطية التي هي آخذة بتعديل العلاقة التي اصبحت غير مقبولة – بل غير ممكنة – بين الدولة والمجتمع…
بهذا المعنى نحن لسنا أمام موت شارع قديم بقدر ما نحن امام موت بيت قديم. "البيت العربي" الذي تأسس بعد عام 1948 هو الآن في طور التغيير نحو بيت جديد. بيت تتصالح فيه الديموقراطية والوطنية وليس مبنياً – كما حصل بعد 1948 – على انقاض "البيت الديموقراطي" الذي كانت البورجوازيات الوطنية العربية قد اقامته ولكن الرياح الوطنية العاتية التي هبت مع تأسيس اسرائيل ادت الى تدميره وقيام بيت مختلف مكانه لا ابواب مفتوحة فيه.
لكن هذا "الشارع العربي" الجديد (الديموقراطي) وهو يحمل معه وداخله مشروع المصالحة المفتقدة منذ 1948 مع "الشارع الوطني" يواجه ايضاً تحديات كبيرة أخرى على المدى الابعد في مصر وتونس وغيرهما:
هل سيتمكن البيت الديموقراطي الجديد من تحقيق التنمية والتحديث الاقتصاديين القادرين على مواجهة معضلات المستوى المعيشي؟
بكلام مختصر: هل ستتمكن "الديموقراطية" الوليدة – التي لا تحمل بعد مشروعها الاقتصادي بل ترث مشروع اقتصاد السوق من البيت القديم – من إطعام "شعوبها" بالحد الأدنى؟…
ان هذا الشارع الديموقراطي، باعتباره أساساً شارع الطبقة الوسطى او الطبقات الوسطى العربية، هل سيجد صيغة التوازن الاجتماعي التي تضمن استقرار البيت الجديد؟

السابق
تجدّد الصدامات بين قوات الأمن السورية ومواطنون من درعا
التالي
لوحة رموز النظام الطائفي…