محنة “الاستشراق الإسرائيليّ” في زمن الانتفاضات

كُتب الكثير في الآونة الأخيرة عن فشل الاستشراق الأكاديميّ في إسرائيل في التنبّؤ بوقوع الأحداث الدراماتيكيّة التي جرت في أرجاء الشّرق الأوسط. بغية تفسير هذا الفشل، تم طرح افتراضين: الأول، يرى بأنّ الاستشراق الإسرائيليّ كان ولا يزال أسيراً للرؤيّة الاستشراقيّة القديمة والتي عفّى عليها الزمان والعنصريّة في علاقاتها بمواضيع بحثها، أي المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة؛ والافتراض الثاني، أنّ هذا الاستشراق لا يزال على صلة وثيقة بالمؤسّسات الأمنيّة التابعة للدولة ولهذا فإنه يتعامل مع هذه المنطقة عبر فوّهة البندقيّة.
للأسف الشديد، فإنّ هنالك قدراً كبيراً من الحقيقة في الأقوال الواردة أعلاه، والكثير من المستشرقين لا يتجاوزون حدود مصطلح "نحن" المُتَخَيَّل، أي من مجال المصالح الجيو إستراتيجيّة الخاصة بدولة إسرائيل ومرجعيّاتها الإيديولوجيّة.
ولكن، ليس في وسع هذه التفاسير استقصاء الأبحاث المتعدّدة المجالات والتي تميّز الدراسات "الاستشراقية"، ومن المفضّل التفريق وبصورة لا لبس فيها بين الباحثين والباحثات في قضايا الشّرق الأوسط وبين نظرائهم "أصحاب التوجّهات الأمنيّة"، أي المستشرقين بالنيابة.
لشدة الأسف، فإنّ هذه الفئة الأخيرة يعتريها في كثير من الأحيان الشعور بالاستعلاء، إن لم نقل العنصريّة، إزاء المجتمعات العربيّة، هذا علاوةً على أنها تتعاون بشكلٍ جليّ أو بصورة خفيّة مع المؤسّسة الحاكمة أو المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة، وبصنيعهم هذا فإنهم يخالفون بصورة فظّة الحواجز التي تفصل بين الجامعات ومراكز الأبحاث وبين مؤسّسات الدولة. هؤلاء المستشرقون يخونون عمليّاً دورهم كمفكّرين، والذين يتوجّب عليهم تحدّي منطق الإجماع الوطني.
الادعاءات التي يطرحها الكتّاب ذوو التوجّهات الأمنيّة تكرّس في الخطاب العام أسطورة "الاستبداد الشرقي" الاستشراقي وتغذّي ظاهرة فوبيا الخوف من الإسلام. إنهم يصفون انتفاضة المجتمع المصري على تنوّع طوائفه على أنها حالة من الفوضى قام بها "رعاع" عديمو القيادة ويفتقرون إلى الوعي السياسي "الحديث". ضياع نظام حسني مبارك تم عرضه كانهيار السّد الأخير، الذي كان بوسعه منع سيطرة القوى الإسلاميّة على مصر، ومن المعلوم أنّ هذا التنبّؤ لم يتحقّق حتى اللحظة.
جدير بالذكر أنّ الطغاة في الدول العربيّة يعون جيّداً هذا التخوّف، الذي يسود في الغرب وإسرائيل، ويحاولون استغلاله لمصلحتهم. ولهذا، فعشيّة استقالة مبارك وبعد أن أُرغم على فعل ذلك فانه حذّر من أن "الاستقرار" الذي وفّره نظامه سوف يحل محله من الآن فصاعداً الإخوان المسلمون، في حين أن معمّر القذافي، والذي أضحى نظامه معلقاً في أوهى من خيط العنكبوت، حذّر من أن سقوط نظامه سيؤدّي إلى سيطرة تنظيم "القاعدة" على ليبيا. هذه التحذيرات موجّهة بالذات إلى الغرب، وللأسف الشديد فإنه يوجد في إسرائيل من استغل هذا الأمر لمصلحته.
على الرّغم من ذلك، يجب التحفّظ والقول إنّ الاستشراق الإسرائيليّ- تماماً مثل "الشارع العربي" – غير مصنوع من كتلة متجانسة. مع أنّ الكثيرين من جماعة المستشرقين في إسرائيل لا يفصلون بين متطلّبات البحث الأكاديمي وبين احتياجات الدولة، ويصرّون على أن يطبّقوا على الشّرق الأوسط مفاهيم ووجهات نظر قديمة يعود تاريخها إلى أيام الاستعمار التقليدي- فإنه ومنذ أن تمّ اختراق الفرضيّات الأساسيّة الاستشراقيّة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، فهناك الكثيرون ممّن يعكفون على الأبحاث الأكاديميّة لذاتها فقط، هؤلاء الباحثون يتعاملون مع المجتمعات الإسلاميّة من خلال الانتباه إلى أبعادها المختلفة ولموروثها التاريخي والاجتماعيّ والثقافي المتنوّع.
هذا الجيل من الباحثين في الدراسات الشّرق الاوسطيّة حرّر نفسه من القيود المؤسسية والفكريّة، والتي يسير بموجبها نظراؤهم ذوو التوجّهات الأمنيّة حتى الآن، ويرفضون بصورة مطلقة مسايرة القاعدة المشتركة التّفسيريّة المتوقّعة منهم في تقويم استقرار ( أو زعزعة) الأنظمة في المنطقة.
إضافةً إلى ذلك، فإنه ومن وجهة نظرهم ونزاهتهم الأكاديميّة، فإنّ هدفهم الرئيسي يتلخّص في زيادة المعرفة حول مجتمعات الشّرق الأوسط بمعزلٍ عن الاعتبارات الأخرى، دون استخدام تلكَ المعرفة لخدمة المصالح الإسرائيليّة الضيّقة، ومن دون أن تفرض عليه فرضيّات روتينيّة تحتّم على المجتمعات الإسلاميّة/ العربيّة أن تكون متخلّفة.
ولذلك، فإنّ التعميمات المفهومة ضمناً، والمذمومة على الأغلب، من موضوع "الاستشراق" تطمس الفوارق الجوهريّة بين النهج الذي يتبعه الباحثون والباحثات في دراسات الشّرق الأوسط وبين المستشرقين بالنيابة. في هذا السياق ليس بوسعنا سوى التعبير عن الأسف من كون وسائل الإعلام تفضّل التعاون بالذات مع الباحثين ذوي التوجّهات الأمنيّة، وبهذا فإنها تساهم في زيادة الجهل في صفوف الجمهور في إسرائيل بخصوص ما يعتمل في المجتمع والثقافة والاقتصاد في الشرق الأوسط.
أمّا بخصوص مسألة التنبّؤ، التي تتكرّر في وسائل الإعلام وفي أوساط المستشرقين بالنيابة، فإنها متروكة في أحسن الأحوال لهيئة الاستخبارات والتي لا علاقة بينها وبين الخطاب الأكاديميّ.

السابق
لوحة رموز النظام الطائفي…
التالي
“غلبة السلاح” ضد البحرين