هل الجيل الجديد غير مذهبي؟

كنت طلبت من ادارة جمعية منتدى المعوقين التي لي شرف رئاستها تحضير قائمة باسماء المعالجين الفيزيائيين العاملين في شمال لبنان. وعندما وصلتني القائمة من نقابة المعالجين الفيزيائيين لفت نظر مديرة الجمعية بانزعاج انه تم وضع صفة "مكفوفة" الى جانب احد اسماء المعالجات ولكن ما اذهلنا سويا هو وضع صفة "علوية" الى جانب احد الاسماء الواردة في القائمة. وخلال الانتخابات الطالبية في الجامعة الاميركية في بيروت حاولت تقصي طبيعة الشعارات التي رافقت هذه الانتخابات فدهشت من كمية الهتافات المذهبية التي اطلقت. وفي كل الانتخابات الطالبية في الجامعات اللبنانية المختلفة كان واضحاً ان الطلاب منظمون سياسياً نسخة طبق الاصل عن التقسيم السياسي في البلد. والهم الاول في هذه الانتخابات كان ان تأكيد هذا الطرف السياسي او ذاك هيمنته على الجسم الطالبي وبالتالي تأكيد تقدم او استمرار زعامته السياسية. الا ان الغائب الاكبر في كل هذه الانتخابات هو بروز المطالب الجامعية المشتركة وظهور هوية طالبية مستقلة تخرق الاحزاب والمذاهب وتحمل مطالب طالبية تجمع حولها تكتلات شبابية طالبية مستقلة وصاحبة القرار المستقل في الدفاع عن مصالحها.

اقوم بذكر هذا لالفت النظر الى حجم النخر الذي احدثته المؤسسات السياسية والدينية والاعلامية والتربوية الطائفية في الجسم الوطني اللبناني من كثرة ممارساتها الطائفية والمذهبية. وتظهر معظم المواقف السياسية والشعبية انها نابعة عن عصبية مذهبية بعيدة كل البعد عن المصالح الاجتماعية للكتل الشعبية المختلفة. فهذه المصالح تفرض حكماً ان يلتقي المسلم (السني والشيعي) والمسيحي المتضرر من انقطاع الكهرباء وارتفاع اسعار المحروقات سوياً في المطالبة بالكهرباء وخفض الاسعار. كما ان هذه المصالح تفرض ان يلتقي المسيحي والمسلم من الطبقات الوسطى والفقيرة بالمطالبة بتصحيح الاجور وبوقف قانون الايجارات الجديد الذي يهجر مئة وخمسين الف عائلة من منازلها ويرميها في المجهول.

وطبعاً يلتقي اللبنانيون في مصالح مشتركة كثيرة لها علاقة بمحاربة الفساد وحقوق المناطق بالتنمية وحقوق المرأة والمعوقين والبيئة الى آخره. والحقيقة ان السبب الرئيسي لغياب هذا التوافق اللبناني على المصالح المشتركة هو في تحكم العصبية المذهبية في تفكيرنا السياسي وهي عصبية مدعومة بمؤسسات سياسية واعلامية وتربوية واجتماعية وممولة لضمان استمرار هيمنتها على اذهان اللبنانيين وعقولهم. انها عصبية تضرب فينا جميعاً وتحولنا من شعب مبدع وخلاق الى كتل شعبية مغلقة تقاتل بعضها البعض فنمارس بسببها عملية انتحارٍ جماعي. وأخطر ما في هذه العصبية انها تأسر الخطاب الوطني اللبناني ضمن مقولاتٍ سياسية مرتبطة بمصالح تتخطى المصلحة اللبنانية وترتبط بمصالح دولٍ اقليمية ودولية. واذا ما تفحصنا النظام السياسي الطائفي القائم (وهو نظامٌ لاعلاقة له باتفاق الطائف) فاننا نجد انفسنا امام تقاسمٍ سياسي يضع المذاهب في وضع تربص الواحدة بالاخرى. ان اخطر ما في هذا النظام انه يحول المواطن اللبناني من مقترع لخيارات وبرامج انتخابية تدافع عن مصالحه الواسعة الى ناخب مذهبي لايعنيه في العملية الانتخابية الا التصويت لمصلحة دعم الطرف السياسي الذي يضمن اكبر قوة سياسية لعائلته ومذهبه ضمن اللعبة السياسية اللبنانية. ان النتيجة الطبيعية لهذا الوضع هو دفع القوى السياسية الى التطرف المذهبي في السعي للحصول على الاصوات الانتخابية وبالتالي تحول الواقع السياسي اللبناني الى حلبة صراعٍ ابطالها الاحزاب المذهبية ومتحكم بحركتها عامل الخوف، اي خوف كل مذهب من هيمنة المذهب الاخر، وسعي الاحزاب المذهبية الى تدعيم مواقعها عن طريق التحالف مع قوى خارجية مما يحولها الى اسيرة لمصالح الخارج وتحول لبنان الى نقطة اضطراب سياسية تتحكم بها هذه المصالح الخارجية.

من هنا فإن هذا النظام المذهبي لا يجلب على اللبنانيين الا اللااستقرار والاضطراب الدائمين. ان هذا النظام لم يؤمن للمسيحي الخائف من المسلم الا المزيد من التقوقع والصراع المسيحي – المسيحي والهجرة الدئمة الى الخارج، كما لم يؤمن للمسلم الساعي الى ربط لبنان بمشاريع سياسية تتخطى لبنان ونظامه السياسي الا المزيد من التبعية والارتباط بمصالح الخارج وتحوله الى وقود في صراعات الخارج في لبنان. فما هي مصلحة المسلم اللبناني من اي فتنة سنية – شيعية؟ وما هي مصلحة المسلم الطرابلسي في الفتنة السنية – العلوية؟ واي مصلحة يجنيها المسيحي او المسلم في حال تصارعا؟ الجواب لاشيئ الا المزيد من الخراب والتدمير الذاتي والانتحار الوطني. بناءً عليه لابد من طرح السؤال الطبيعي: ما هي مصلحة اللبنانيين في استمرار هذا النظام؟
الحقيقة ان هذا النظام لايؤمن لنا شيئاً الا المزيد من الحقد والتقوقع المذهبي وهيمنة الزعامات المذهبية علينا وعلى مصير الوطن والتبعية للخارج. اما السؤال الأهم فهو اي نظامٍ بديل يصلح للحالة اللبنانية؟ انه النظام المدني القائم على المواطنة والحرية. ان عظمة لبنان هي في تنوعه التي تفرض مساحةً من الحرية ليست متاحة (حتى الآن) في اي دولة عربية وهي حرية تتخطى الحالة السياسية لتستقر في كل جوانب الحياة من اقتصادية واجتماعية. كما ان من عظمة لبنان هذه القدرة على خلق مساحة تفاعلٍ خلاقة بين الثقافتين الغربية والشرقية جعلت من هذا البلد منطقة جذبٍ واعجابٍ اقليمية كما جعلت منه بديلاً حقيقياً لنظام التمييز العرقي الديني الذي تروجه الدولة العبرية. من هنا فانه لابد للنظام الجديد من ان يعكس هذه الروح اللبنانية المميزة. لا بد لهذا النظام من ان يقوم على اعتراف بحق الفرد اللبناني بحرية الاختيار في الانتماء والمعتقد ومحاربة كل اشكال التمييز على اساسٍ مذهبي او عرقي او جنسي. ولابد لهذا النظام من ان يعتمد مبدأ الديموقراطية في اوسع مظاهرها اي التنظيم الديمقراطي لادارة الحي من طريق اعتماد مبدأ اللامركزية الديمووقراطية الى التنظيم الديموقراطي للدولة من طريق قانون انتخابات وطني يقوم على النظام النسبي ويضمن العدالة والمساواة في العملية الانتخابية. ولا بد لهذا النظام من ان يعتمد على احزابٍ وطنية عابرة للمذاهب وعلى اعلامٍ متحررٍ من هيمنة الطبقة السياسية ومن قضاءٍ مستقل قادرٍ على محاسبة الجميع بما فيه القضاة انفسهم والطبقة السياسية. ان الوصول الى هذا النظام يتطلب بناء مفهوم المواطنة وبناء الاحزاب والتيارات السياسية غير الطائفية. من هنا تأتي اهمية تحرك الشباب لاسقاط النظام الطائفي في لبنان.

ان تحرك شباب لبنان لاسقاط النظام الطائفي يشكل بداية انطلاق لخطاب وطني جديد يخرق المناطق والمذاهب ليحدد افقاً جديداً لمواطنة لبنانية عابرة للمذاهب توحّد الرؤى حول خيارات لبنان وطبيعة دولته. يقوم هذا الخطاب على ركيزتين اساسيتين دفع من اجلهما اللبنانيون الكثير من الدماء والتضحيات. اما الركيزة الاولى فهي ان الحل الرئيسي للبنان هو في انشاء دولة مدنية حديثة وفعالة، وضع الكثير من ركائزها اتفاق الطائف بعد حربٍ اهلية كلفت لبنان اكثر من مئتي الف قتيل. وقد نجح اللبنانيون في انهاء عهد الانقلاب على الطائف والادارة الامنية للدولة على حساب الديموقراطية وحقوق المواطنة من خلال انتفاضات الشعب اللبناني سنة 2005. تقوم هذه الدولة على التفريق بين انتماءات المواطن الدينية والعرقية وبين حقوقه في الدولة والوطن التي يجب ان تكون متساوية تحت مظلة المواطنة وحقوق الانسان. وبالتالي فإن هذه الدولة تقوم على حماية حق المواطن الكاملة في ممارسة حرية المعتقد دون تفريق بينه وبين اخيه المواطن على اساس هذا المعتقد. اما الركيزة الثانية فتقوم على ان اسرائيل هي العدو الرئيسي للبنان حتى الوصول الى حلٍ عادل للقضية الفاسطينية وانهاء سياسات التوسع والتشريد التي تنتهجها هذه الدولة. وبالتالي فان اللبنانيين بمقاومتهم للاحتلال الاسرائيلي واجبار اسرائيل على الانسحاب من الاراضي اللبنانية المحتلة سنة 2000 قد اكدوا على قدسية كل شبر من اراضي لبنان. وللحفاظ على هذا الانجاز لا بد من اعتماد سياسة دفاعية فعالة لحماية لبنان تقوم على مشاركة الجيش والشعب في التصدي ومقاومة اي اعتداء اسرائيلي على الوطن.

ان اهم انجاز لتحرك شباب لبنان لاسقاط النظام الطائفي هو انه قد انهى الصورة النمطية المسيطرة في الخطاب المجتمعي والتي تدَّعي بان الجيل الجديد مستقيلُ من مسؤولياته الوطنية وغارقُ اما في مذهبيته او في لا مبالاته. ولعل ما يقوله شباب لبنان يظهر بوضوح اننا امام طرحٍ ابتدأ يشكل نقطة انصهارٍ وطني يستأهل كل اهتمام ودعم. ان ما يقوله هؤلاء الشباب الذين لم يزالوا في بداية انطلاقتهم مجموعة "مش ماشي الحال". اولها انه مش ماشي الحال العيش في كنف دولة طائفية ضعيفة تفرق بين مواطنيها على اساس المذهب والجنس والعرق والاعاقة ويعشش فيها الفساد وغير قادرة على انشاء جيشٍ وطني يحمي حدودها وشعبها. وثانيها انه "مش ماشي الحال" لحصر الحق بالمقاومة في حزبٍ ومذهبٍ واحد. وثالثها انه "مش ماشي الحال" لهيمنة الاقطاع والمال السياسي على الحياة السياسية اللبنانية من طريق نظامٍ انتخابي وادارة انتخابية فاسدة. ورابعها انه "مش ماشي الحال" لعدم اعطاء القضاء استقلاله عن الجسم السياسي. وخامسها انه "مش ماشي الحال" لدولة مركزية تخنق المناطق وتتدخل في عمل بلدياتها وتمنعها من ادارة شؤونها لمصلحة ابناء مناطقها. وسادسها انه "مش ماشي الحال" لتدخل رجال الدين في السياسة ولا لتحكم رجال السياسة في الاعلام. وسابعها انه "مش ماشي الحال" لغياب الخدمات الرئيسية من كهرباء وماء ونقل عام ومن ضعف صمامات الامان الاجتماعية من ضمان صحّي واجتماعي شامل الى جانب ضمان الشيخوخة والحق في التعلم ووجود سياسة اسكانية تحمي الفئات الفقيرة والمهمشة. وثامنها انه "مش ماشي الحال" لسياسة تربوية تنشأ على التفرقة والبغضاء ولجامعة لبنانية ضعيفة . وتاسعها انه "مش ماشي الحال" لاقتصاد ريعي متمركز في العاصمة يهجِّر ابناء البلد الى الخارج ويزيد من فقر المناطق والقطاعات الانتاجية. وعاشرها انه "مش ماشي الحال" لحالة الفساد والوهن المستشري في جسم الادارة اللبنانية بسبب التدخل السياسي والواسطة وفقدان آليات الرقابةٍ الفعالة. واخيراً وليس آخراً انه "مش ماشي الحال" لوجود اي وصاية خارجية على القرار السياسي اللبناني الذي يجب ان يبقى مستقلاً وملك شعبه ومؤسساته السياسية الحرة فقط.

انا اكيد ان الشباب سيضيفون العشرات من الامور التي "مش ماشي الحال" معها لكن المهم ان الشباب قد ابتدأوا التحرك ليصنعوا تاريخاً جديداً للبنان ونجحوا في فتح بقعة امل جديد في الايمان بقدرة لبنان على النهوض. ولما كان هذا التاريخ هو تاريخنا جميعاً فليشارك كل المجتمع في صناعته معهم. فلننتصر مرة على وصاية الطبقة السياسية غير الراغبة بالتغيير وعلى شعورنا بعدم القدرة على التأثير فننضم لهؤلاء الشباب ونسطر سقوطاً مدوياً لممارسات سياسية لم ينتج عنها حتى الآن الا المزيد من التفرقة والصراعات والتدخلات الخارجية.

ان المثقفين والسياسيين الطليعيين ومؤسسات المجتمع المدني مدعوون للانضمام والمشاركة. ولنصنع للعالم العربي نموذجاً سياسياً يحتذون به كما فعلنا عندما تفردنا لعقودٍ من الزمن بممارسة الحرية والديموقراطية (رغم كل شوائبهما) واحترمنا مبدأ وجود الاخر المختلف ولنُعِد للبنان دوره الخلاق في عالمنا العربي الذي اكدت الثورات ان ما يجمعه هو اكبر بكثير مما يفرقه. ان التغيير في لبنان قد يكون الاصعب لانه يتطلب تغييراً في الذهنية المجتمعية من التقوقع المذهبي الى المواطنة الا انه الأهم لان قيمة اي ثورة ليست في تغيير نظام وانما في تغيير نظرة الشعوب الى ذاتها وفلسفة وجودها.

السابق
موسى: لا أحد يعرف الى أين سيتجه تأليف الحكومة
التالي
نداء باسم العدالة والحرية..ضد الطغاة