… لكن النظام يريد إسقاط النظام

لم يتخيل عالم الاجتماع الأميركي الشهير تالكوت بارسونز أن أحد مصطلحاته الأساسية في نظريته الاجتماعية سيرد في ميدان في دولة من دول الجنوب بعد عشرات السنين. المصطلح هو «النظام». شباب «ميدان التحرير» في قلب العاصمة المصرية كان يستعير مقولة بارسونز في هتافه الشهير الذي استنسخ لاحقا في صنعاء والمنامة وبنغازي: «الشعب يريد إسقاط النظام». المقولة استخدمت هذه المرة في سياق ثوري لا إصلاحي. مقولة النظام أو النسق subsystems الحالة الطبيعية أو المثلى للمجتمع والذي يتكون بدوره من نظم فرعية كالنظام الأسري والاقتصادي والتعليمي والسياسي والديني. يقوم النظام على التوازن والاعتماد المتبادل والتكامل بين منظوماته التحتية أو الفرعية والتي تحقق الإجماع القيمي. لا يؤمن بارسونز وأترابه بالتغيير الثوري أو الجذري بل بالتغيير التدريجي والجزئي، أي الإصلاح.

الثورات العربية التي رفعت مقولة «النظام» استخدمتها في سياق ثوري مغاير. والمدهش أنها جاءت في الصياغة الفصحى للشعار لا العامية ويمكن تفسير ذلك بالحالة التعليمية الجامعية للشباب الثائر. وهو ما يشير إلى اقتراب متصالح مع الهوية القومية التي تشكل اللغة العربية اقنومها الأساسي.

فى مصر وتونس وليبيا واليمن ثمة نظام قديم لا يريد أن يعترف بالحالة الثورية ويقاومها بشراسة. وثمة دفاع مستميت عن المصالح والمواقع. ولعل التردد في إسقاط الدستور القديم واستبداله بآخر عوضاً عن ترقيعه مثال على المراوغة. لا مبرر في التلكؤ في تغيير الكتيبة الإعلامية المباركية والمحافظين ورؤساء الجامعات والمجالس المحلية سوى السماح للسلطة القديمة بالتشبث بالنظام القديم. والمخاوف تكمن في الزوايا والشقوق ما دام أصحاب التغيير لا يحكمون، وهو ما يفسر التلكؤ في تصفية أو تطهير جهاز «أمن الدولة»، ورفض المطالبة بتكوين مجلس رئاسي انتقالي مدني بمشاركة عسكرية محدودة.

النظام القديم يريد إسقاط النظام الجديد. وثمة تعامٍ عن مظاهر ما يسمى الثورة المضادة، والمصطلح يساري الأصل ثم ناصري استخدمه محمد حسنين هيكل، ومنها نقل تظاهرات كارتونية هزيلة تدافع عن الفريق أحمد شفيق أو ما يسمى رد العرفان إلى مبارك وسفسطة بعض سواقط المرحلة السابقة بغرض تشويه رموز الحالة الثورية. القلق من ممارسات الشرطة العسكرية القمعية لشباب التحرير وتعذيبهم المفرط في القسوة يثير الأسئلة حول نيات السلطة العسكرية الحاكمة والتي ارتضى الثوار موقتاً توليها الحكم. النظام القديم يريد إجهاض النظام الثوري الجنيني، وما تغذية الاحتجاجات الفئوية وإشعال الفتنة الطائفية في حادث أطفيح الأخير إلا بعض أمثلة على المقاومة العنيفة لفلول النظام القديم للتغيير الثوري في مصر.

السابق
نمرود نوفيك: اسرائيل لن تدفع سعراً أعلى للغاز المصري
التالي
الطقس غداً الأربعاء غائم مع أمطار خفيفة من دون تعديل في درجات الحرارة