شعب العراق يحلم بديمقراطية حقيقية

كنت اراقب عن كثب، بل لعلني أتدخل حيناً وأرفض حيناً آخر ما ينوي الإقدام عليه جيل كامل من شباب بغداد. جيل اكتوى بنيران الحروب والحصار واليتم والتهميش والإلغاء والفساد، جيل إن صح عليّ تسميته بجيل «النكسة العراقية» لأصبت، لما مرّ به وما زال حتى اليوم.
جيل اليوم في العراق من الشباب يشكل الغالبية العظمى من الوجود السكاني في ارض السواد. غالبية من عاطلين او عمال مطابع او مصانع، وطلاب غير قادرين على تحصيل فرصة عيش اقله مقبولة حتى لو اكملوا دراستهم وتخرجوا من الجامعات.
ريح التغيير التي هبت في المنطقة مرت بنسيمها على ابناء الرافدين، لا سيما انهم ابناء وأرباب ثورات قيصرية اجهضت من قبل الانظمة القمعية طيلة عقود. فالفرد العراقي لم يغرد ابدا خارج السرب، بل شأنه شأن الآخرين، حالماً كان ولم يزل بالمواطنة الصرفة وحقوق الانسان التي يكفلها الدستور كالتظاهر.

فالمشكله اليوم هي في عسكرة الدولة وتحويلها الى دائرة امن عام كبرى ودوائر حرس خاص من اجهزة امنية بوليسية، لا يعرف احيانا حتى تابعيتها لمن، وإن اعتقد البعض بارتباطها المباشر بمكتب القائد العام للقوات المسلحة، كالفرقة الذهبية، او ما يسمونها في العراق بالفرقة «القذرة» لما لها من سطوة على حريات الناس من دون الرجوع الى اي اطار قانوني. هذا في بغداد ومدن الشرق والغرب والجنوب من العراق. اما في الشمال، فالمجاميع الخاصة وأسايش البيشمركة هي ذات السطوة الكبرى في قمع اي طرف.

العراق اليوم يعيش مشاكل كبيرة وخطيرة على حد سواء، فلا تشبه جغرافيته ولا نمط سكانه الحيواتي ولا عملية الانقلاب او التحرير او الاحتلال الاخيرة فيه اي عام 2003 أياً من تونس ومصر او ليبيا او اي بلد عربي آخر.
فحين كان العراقيون يتحركون للقيام بثوراتهم، ومنذ نجحوا ببعضها عسكريا وفشلوا سياسيا كالعام 1921، وفشلوا عسكريا ونجحوا سياسيا اي في الوصول الى سدة الحكم وإن بعد ثلاثة عقود من الدكتاتورية على يد صدام، كما حصل في فوز الاحزاب الاسلامية برضى العم بوش الذي وافق لهم على قانون تحرير العراق، فكان الإنجاز عسكرياً والثورة اميركية بطروادة عراقية بينما وقودها شعب ضاق ذرعا بالاثنين. منذ ذلك الحين والمشهد به تعقيدات كثيرة.
وسبب فشل الثورات الشعبية او الجماهيرية في العراق بات معروفا، لما يشغله هذا البلد من موقع، ولما تحمله زعاماته من انتماءات وولاءات بحكم الجغرافيا والتاريخ الأيديولوجي لهذا الحزب او ذاك.
على سبيل المثال، عام 1991 وبعد الانسحاب من الكويت، قامت في العراق ثورة بكل ما تعنيه هذه المفردة من حركية ودينماكية، وهرب «القائد» وسقطت مدن ومحافظات العراق من الشمال الى الجنوب على يد الثوار العراقيين عرباً وأكراداً شيعة وسنة، باستثناء مسقط رأس الرئيس العراقي صدام محافظة تكريت ومحافظة ديالى التي اطلق عليها صدام نتيجة تصديها للثوار تسمية المحافظة البيضاء او البعثية. وفي الشمال العراقي كان الحزبان الحاكمان الاتحاد والديموقراطي الكرديان قد احكما قبضتيهما على السليمانية ودهوك وأربيل، وثمة اشتباكات وقعت في كركوك لم تمكن البيشمركة من الزحف اليها ووقعت بيد الثوار العرب.

تفاصيل وتداعيات هذه الانتفاضة – التي أسماها الشيعة بالشعبانية، نسبة الى وقوعها في الخامس عشر من شعبان تقريباً وهو يوم ذو بعد ايديولوجي يرتبط بولادة المهدي، بينما اسماها الكرد بانتفاضة الاستقلال – ما زالت عالقة في اذهان العراقيين حتى الآن لشعورهم بالخذلان الكبير والحيف الذي اصابهم من قوات التحالف الاميركي التي اخذت تتفرج على قمع انتفاضتهم في الجنوب من قبل الحرس الجمهوري الخاص لصدام حسين. وهو ما كتبه المؤرخ البريطاني تشارلز تريب في كتابه «تاريخ العراق» (ان المدن الشيعية المتمردة تعرضت لأبشع انتقام)، قول اكده السفير الاميركي السابق في العراق زلماي خليل زاده اثناء حفل توديعه (أشعر أننا لم نفعل الصواب بعد حرب تحرير الكويت، وأعتقد اننا أخطأنا فيما يتصل بتركنا عراقاً يخضع لعقوبات صدام).

ومشهد عدم نجاح الثورات في العراق هو مزيج بين ذلك وأمور اخرى، والتي من بين اخطرها هو التقسيم الفعلي للعراق، وإن كان تحت مسمى فدرالي او اتحادي. حيث فيما بعد حصل الاكراد في منتصف اذار 1991 على حماية كاملة بما فيها الجوية من قوات التحالف الاميركي والبريطاني، والتي سمحت لهم بالتالي بتشكيل قوس يعدونه حقاً تاريخياً، يمتد من غرب الموصل شمالا الى شرق بغداد جنوباً ويشمل مناطق سنجار ومخمور قرب الموصل بالاضافة الى كركوك «قدس كردستان» مثلما يحلو لمسعود البرزاني ان يسميها.

ففي الوقت الذي الصقت فيه تهمة العمالة لإيران بالمنتفضين الشيعة، وحصلت بأبنائهم ورموزهم المجازر، اسس الكرد دولتهم على ركام حروب الحزبين في الاقليم واشتباكاتهما التاريخية التي امتدت الى اواخر التسعينيات عسكريا لتنتهي بوقف مشروط لإطلاق النار، ولم تنته سياسياً، وأخذ كل من مسعود وجلال على عاتقهما التأسيس لبقاء حزبيهما ضمن هذا الاقليم الذي قسمت كعكته بين عائلتي الطالباني والبرزاني.
وظل الجنوب العراقي والوسط الشيعيان كما بغداد ينزفان تحت حصار فرضته الولايات المتحدة الاميركية على الشعب لا على النظام، فهو يعيش في قصوره المجهزة بينما يفترش الشعب الارض ويلتحف السماء، تداهمه اجهزة القمع البعثية بأثر رجعي بسبب الانتماء الى «حزب الدعوة العميل» كما كانت تسميه السلطة حينها او الأجندة الفارسية في العراق.
اثنا عشر عاما من الانتفاضة الشعبانية الى سقوط صدام، وثورات صغيرة هنا وهناك وانتفاضات استخدم فيها القمع تماما مثل ما استخدمه «الاخ العقيد القذافي»، الا ان العراق يرزح تحت قبة عزل جوي، وكأننا في تلك السنين كنا نعيش في زمن آخر.
الآن وقد تغير النظام، وأبناء الرافدين يشعرون بالخيبة، فقد سرق منهم حق الفخر بالنصر اجنبي وافد من الخارج، ومثله في كل من الرئاسات الثلاث أشخاص لا يرتبطون وأياه بحرارة الصيف وقرص البرد وموت الجوع وسني الحصار، أشخاص ترقرقت أيديهم ونعمت اناملهم من العيش على نفقات الامم التي كانت تنفق على هذا الحزب او ذاك، أشخاص لا يدركون كيف كانت «حياة شرارة» تتسوق ربع كيلوغرام من البطاطا كوجبات غذاء لها ولابنتها قبل ان تقررا الانتحار ولا هذا الذل والعار.
شعب احرق ابناؤه انفسهم عشرات المرات، من احمد جلوب وجواد الموسوي ونجم عبد عطية وشيرزاد مصطفى وآخرين، نعم امام العلن في بغداد وخانقين، ضد الجوع والفقر والذل والحرمان، ضد طغيان صدام وساسة كردستان، ضد الغاب ومن اجل الانسان، كانت شعارتهم هكذا حتى «تحرر العراق» ويبان المستور.

ففي الذكرى العشرين او قبلها لاستقلال الاقليم الكردي او منحه حقوقه الاتحادية او الفدرالية منذ ان كان يقبع تحت الحكم الشمولي وأحيانا الذاتي، وبعد ان صار لهذا الاقليم برلمان مشرع ودستور وعلم ونشيد ولغة وعملة وخارجية، ووزارة دفاع «البيشمركة» يرأسها جعفر مصطفى، وحكومة يتناوب عليها الحزبان الحاكمان، ورئاسة اقليم ابدية للملا الزعيم مسعود البرزاني الوريث الاوحد للملا مصطفى البرزاني، بالتزامن مع هذه الذكرى تحرك شباب كردي عاصر حكم الحزبين وحروبهما وجثومهما على مفاصل الاقليم البشرية والطبيعية وموارده وسياسته. ونظموا مظاهرة سلمية تدعو الى مطالب واضحة وشفافة: تغيير وإصلاح، مما دفع بقادة الاقليم الى عد هذه المظاهرة خارجة عن الشرعية، بل انها من تدبير «نيشروان مصطفى» صاحب حركة التغيير الكردية، مسمين المتظاهرين فيها بأنهم من اعداء شعب كردستان ومثيري الفتن.

وهكذا الامر في بغداد، حيث ركب مطية التظاهرت التي يهيئ لها منذ تظاهرات مصر في 25 يناير شباب عراقيون من مختلف الشرائح والطوائف والمستويات، ركب هذه المظاهرات بعض المندسين فعلاً، البعيدين عن جو المطالب التي ينادي بها المتظاهرون، لإفساد الحشد لها وحصرها في زاوية البعثيين والصداميين والتكفييرين. توصيف عارضه المنضمون لهذه التظاهرة جملة وتفصيلا،لا سيما انهم ممن يدينون البعث وصدام والارهاب كذلك، وهم كذلك ينتمون الى خلفيات يسارية وبعضهم ذو توجهات علمانية وآخر ليبرالية، بمعنى ان التحفيز الديني لم يكن عائقا او محركا لهذه التظاهرة، برغم ما صدر من بيانات شجب او تحذير او تأييد. لكن ما حدث من تسريبات اجهضت التحضير او دفعت الى اخذ الحذر منه، حيث كانت تتحدث عن بعثيـين يحاولون الانقلاب على الشرعية المؤسساتية او النظام الذي رعاه المالكي. بيد ان المطـالب برمتها وأن كان هنالك من مندسين، فلم تهتف ابدا برحيل نظام او اسقاط حكومة، بقدر ما كانت مطالب خدماتية محضة في شقها الاول والآخر هو عنوان فاضح وواضح وصريح الفساد المالي والاداري ومحاسبة ومعاقبة المتورطين في سرقة وهدر المال العام.
تحركات عفوية في اغلب مدن العراق، بعضها يحاول الحفاظ على كل ما بقي له من «دمقراطية» نزفت حتى الرمق الاخير من البعث والاحتلال فالقاعدة والارهاب، لتفاجأ اليوم بقتل من نوع اخر هو إسكات للصوت وإجهاض للحريات والحق المشروع في التظاهر.
نعم المشهد العراقي يختلف تماما عن المشاهد العربية وتحولاتها في المنطقة، بيد انه المشهد الاكثر عتمة ولعله الاكبر خطرا. فعام على الانتخابات العراقية ولم تكتمل الحكومة بعد هذا في المشهد السياسي، عام ولم «ينتخب» حتى الآن وزراء امنيون، عام والمشهد على ما هو عليه.

وخدماتياً وأمنياً، ثمانية اعوام منذ سقوط النظام والعراق يطفو على هذا النهر من الدم لا من النفط، فأهله فقراء وناسه ما زالوا يعيشون في بيوت التنك والشعر والطين. ثمانية اعوام والعراق يتصدر المراتب الاولى في التصنيف العالمي للفساد بعد الصومال. ثمانية اعوام وتكريس الطائفية والعرقية وإلغاء المواثيق الدستورية هي العامل اللاعب الاساس في تشكيلة الحكومة او انتخاب رئيس الجمهورية او رئيس البرلمان. ثمانية اعوام والعراق كالسلحفاة بين نهضة الشعوب والامم التي غيرت انظمتها الشمولية والدكتاتورية. ثمانية اعوام وسياسة تكميم الافواه وإسكات الناس هي المقياس…

حيث تقول منظمة مراسلون بلا حدود إن العراق هو اشد المناطق خطورة للصحافيين وهو من البلدان التي تمارس فيها السلطة دورا سلبيا في تضليل الرأي العام. كما يقول جو ستورك، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: «بعد ثماني سنوات من الغزو الأميركي، فالحياة في العراق تتدهور بالنسبة للنساء والأقليات، بينما الصحافيون والمحتجزون يواجهون انتهاكات حقوقية جسيمة. اليوم يقف العراق على مفترق الطرق – إما أن يتبنى مبادئ إجراءات التقاضي السليمة وحقوق الإنسان، وإلا فهو في خطر التحول إلى دولة بوليسية».

ويضيف جو ستورك: «رغم التحسن الذي طرأ على الحالة الأمنية منذ عام 2008 مما أدى لانخفاض معدلات قتل العاملين بالإعلام، إلا أن الصحافة مهنة خطيرة في العراق. قام متطرفون ومعتدون مجهولون بقتل صحافيين وتفجير مقارهم ومكاتبهم. وتزايد تعرض الصحافيين للمضايقات والترهيب والتهديد والاحتجاز والاعتداءات البينة من قبل قوات الأمن التابعة للمؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية. كما يسارع المسؤولون الحكوميون بمقاضاة الصحافيين ومطبوعاتهم إذا كتبوا عنهم موضوعات انتقادية. ويتابع : «مع مشاهدة ما حدث في شوارع مصر وتونس، على الحكومة العراقية أن تتخذ خطوات ملموسة من أجل حماية حرية التعبير».
العملية الديموقراطية تمر الآن بمرحلة مخاض حقيقي يشهده العراق برمته، فإما ولادة مشوهة او مخلوق هجين ليس له ادنى علاقة بالديموقراطية او التمثيل الحقيقي لارادة الشعب.

السابق
بري: المرحلة ملائمة للانقضاض على النظام الطائفي
التالي
قداس احتفالي في صور لمناسبة عيد الام