إسرائيل وأولوياتها الإستراتيجية

احتلال الصورة الليبية والبحرينية، ولأسباب متعددة ومختلفة، صدارة المشهد العربي الذي يضج بالانتفاضات الجوَالة، لم تحل دون امتداد فيروس الاحتجاجات الفاعل والمؤثر إلى العديد من الشوارع العربية التي تنتظر رزمة من التحولات النوعية والتداعيات الوازنة في المدى المنظور.
ويبدو أن الأردن، الذي تتداخل فيه المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هو أحد أكثر المرشحين لاحتلال موقع متقدم في هذا المشهد، ليس فقط بسبب تصاعد الاحتجاجات على الفقر والتضخم والبطالة والفساد والفجوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء وانعدام الديمقراطية، ورفض بعض قوى المعارضة، ولاسيما الحركة الإسلامية، التعاطي مع لجنة الحوار التي شكلها مجلس الوزراء لمناقشة التشريعات المتعلقة بمنظومة العمل السياسي، وبلورة قانونين جديدين للانتخابات والأحزاب، وإنما كذلك لأسباب لها علاقة بارتفاع منسوب المخاطر التي تهب على المملكة الأردنية من جهة الغرب بعد تصاعد الحديث الإسرائيلي عن ضرورة استبدال «حل الدولتين»، الـ«غير قابل للتحقق»، بحل إقليمي للمشكلة الفلسطينية عن طريق إنشاء «الدولة الأردنية الهاشمية الفلسطينية الموحدة»، وذلك كرد على التغيرات الكبيرة الإستراتيجية في المنطقة.

هذا التوجه الإسرائيلي الجديد- القديم الذي يستشعره الأردنيون جيداً، والذي لم يتمكن، حتى الآن، من عبور عتبة المستوى الرسمي، وذلك على الرغم من تمسك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بإبقاء قوات إسرائيلية على امتداد نهر الأردن، وقوله للصحفيين، خلال زيارة للأغوار الفلسطينية المحتلة، إن «حدودنا الأمنية هنا على (نهر) الأردن»، كان يؤطر، في واقع الأمر، جميع ردود الفعل العصبية التي صدرت عن الحكومة والمؤسسة العسكرية الأمنية الإسرائيلية عقب اندلاع الانتفاضات والثورات العربية، وبالأخص في مصر، والتي أشرت إلى أن «التوقعات السوداء» التي تستوطن المخيال الجمعي الإسرائيلي قد بدأت تدب على أرض الواقع، وذلك على الرغم من أن أحداً لم يرفع شعارات فاقعة منددة بسياسات الحكومات العربية إزاء إسرائيل، وإنما تركزت الاحتجاجات على مظالم داخلية تدور في أغلبها حول غياب الديمقراطية والحريات المدنية، وعقود من سوء الحكم، وحول الظلم الاجتماعي والفقر والجوع. ومرد ذلك إلى أن الإسرائيليين يدركون تماماً تلك العروة الوثقى التي تربط بين ديكتاتورية الأنظمة العربية وفسادها، وبين العلاقة مع إسرائيل التي لم تخف رؤيتها العنصرية حيال «عدم قابلية العرب للديمقراطية» والتبعية للولايات المتحدة. وفي هذا السياق، لم يفت الصحافة الإسرائيلية رصد ما حملته بعض شعارات المتظاهرين المصريين ولافتاتهم، من نمط «يا إسرائيل، بعد أن ننتهي من مبارك سنصل إليك»، أو كاريكاتير يصور مبارك بأنف وأذني خنزير، مع ربطة عنق وعليها صليب معقوف على خلفية علم إسرائيل، أو متظاهر يقول: «عندما سيكون الشعب المصري حراً، سيحرر الفلسطينيين ويدمر إسرائيل»، وكاريكاتير شهير لمبارك مع نجمة داود على جبينه. كما لم يفتها التوقف أمام قيام حزبيين ونقابيين أردنيين بتسليم وزير العدل حسين مجلي، مذكّرة تطالبه بالإفراج عن الجندي المسرّح من الخدمة أحمد الدقامسة المسجون منذ 14 عاماً على خلفية قتله إسرائيليات استهزأن به أثناء أدائه الصلاة.وعلى الرغم من أن هذا الطرح الإسرائيلي سبق أن طفا على سطح المشهد مرات عدة، ووصل إلى حد تصريح قائد المنطقة الوسطى في إسرائيل يائير نافيه، في شباط 2006، بأن العاهل الأردني عبد اللـه الثاني قد يكون آخر ملوك الأردن، وإلى مستوى عقد مؤتمر دولي في القدس أخيراً لدعم هذا الخيار، غير أن العودة إليه هذه المرة من مسؤولين سياسيين وعسكريين ومحللين إستراتيجيين وإعلاميين إسرائيليين، من بينهم رئيس مجلس الأمن القومي السابق، المقرب من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الجنرال عوزي ديان، والخبير الإستراتيجي الباحث في «معهد أبحاث الأمن القومي» غيورا آيلاند، والمحلل السياسي عاموس هرئيل، يحمل مضامين جديدة وخطرة لها علاقة بتداعيات «الزلزال السياسي والأمني» المحتملة على إسرائيل ومستقبلها في المنطقة، وكذلك بارتفاع مستوى الضغط الإقليمي والدولي على إسرائيل لإنجاز «اتفاق سلام» مع الفلسطينيين تحت طائلة اتخاذ «موقف مغاير، ولاسيما من مصر التي نقل عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» نبيل شعث عن وزير خارجيتها الجديد نبيل العربي قوله إن تجاوز إسرائيل التزاماتها الفلسطينية في اتفاقية «كامب ديفيد» سيكون محل إعادة النظر الكاملة في العلاقة معها، وإن مصر، وإن كانت لن تقدم على إلغاء هذه الاتفاقية، فستتعامل مع إسرائيل من الآن فصاعداً من منطلق جديد تماماً، واعتباره كذلك أن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة، بمساعدة مصرية، «انتهاك للقانون الدولي».
الحيثيات التي تستند إليها الرؤى والسيناريوهات الإسرائيلية، المتعلقة بهذا الخيار القديم- الجديد تزعم أن إنشاء «مملكة أردنية فيدرالية» سيكون مفيداً للسلطة الفلسطينية والأردن لكونه يمنع سيطرة «حماس» المفترضة على الضفة الغربية في حال قيام دولة فلسطينية مستقلة، فضلا عن أن الفلسطينيين سيكونون مواطنين في دولة كبيرة بدلاً من أن يُحشروا في دولة صغيرة جداً غير قابلة للحياة ومقيّدة في الجانب الأمني. أما بالنسبة لإسرائيل فلهذا الحل عدة مزايا من بينها، وضع حد حاسم للحديث عن شعب فلسطيني تحت الاحتلال، واستبداله بنمط آخر عنوانه الصراع (على أراض) بين دولتين مستقلتين (إسرائيل والأردن)، ما يتيح خفض منسوب الضغط الدولي على إسرائيل. والثانية، أن الأردن يمكن له التهاون حيال العديد من قضايا الصراع، وبالأخص قضية الأراضي المحتلة التي لا يمكن للفلسطينيين التخلي عنها. والأمر ذاته ينطبق، وبشكل أوضح، على مسألة الترتيبات الأمنية، حيث من المعروف أن إسرائيل تشترط تجريد الضفة من السلاح، وفي حال وجود اتفاق بين إسرائيل والأردن فإن هذا الطلب سيكون «أكثر معقولية»، إذ إن الأمر سيقتصر على الطلب من الأردن التخلي عن نشر قوات في منطقة ما (الضفة) على غرار التجربة مع مصر في اتفاقية «كامب ديفيد».
في كل الأحوال، وبدلاً من الاستجابة لدعوات ومناشدات إعادة ضخ الدماء في شرايين المفاوضات مع الفلسطينيين، عبر وقف الخطوات أحادية الجانب، وخاصة عمليات الاستيطان، انطلاقاً من أن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يشكل العقبة الأساسية أمام عدم استقرار المنطقة، قررت إسرائيل الهروب إلى الأمام، وإعادة إحياء لغة الحرب والاستعداد لها من خلال إشهار «فزاعة» إيران، عبر الزعم بأن ثمة إمكانية لمرابطة سفن إيرانية قتالية في البحر المتوسط، واستحضار العديد من السيناريوهات المتعلقة بالجبهات العسكرية المختلفة، بما فيها الجبهة المصرية التي اعتبر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق عاموس يدلين أن الردع أمامها سيكون «إستراتيجيا»، وسيستدعي حجماً مختلفاً من كتائب وألوية الجيش الموجودة حالياً، وذلك على الرغم من إعلان نتنياهو أنه بصدد طرح «خطة سلام» هدفها الرئيس محاولة استرضاء الغرب، والالتفاف على الاستحقاقات المطلوبة، واعتزام إضافة نحو 190 مليون دولار إلى ميزانية الدفاع للعام الجاري ليرتفع إجماليها إلى 15 مليار دولار. وسوف تخصص هذه الأموال الإضافية، وفق ما ذكرت صحيفة «يديعوت أحرنوت»، لتقوية الجيش وسط عدم الاستقرار الإقليمي والغموض الذي يكتنف مصير معاهدتي السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن جراء الاحتجاجات الشعبية في الشرق الأوسط.
في خضم هذا الارتباك وعدم اليقين الإسرائيلي، بدأت تتعالى الأصوات الداعية إلى التفكير من جديد في الأولويات الإستراتيجية، وإبعاد هدف «السلام» مع الفلسطينيين من قائمة هذه الأولويات، ولاسيما في ظل إمكانية انتقال «العدوى المصرية» إلى المدن الفلسطينية والأردنية، وظهور واقع ومعطيات جديدة على «حدود السلام الطويلة» لإسرائيل، ما يفرض، حسبما يرى عاموس هرئيل في «هآرتس»، الذي يستحضر، من جديد وبقوة هذه المرة، خيار «الوطن البديل»، تغيير إسرائيل وجهتها، والكف عن دعم ومحاولة «إنقاذ التاج الأردني». وحيثية ذلك، وفق هرئيل، هي أن الأكثرية الفلسطينية في الأردن يمكن لها أن تقيم «الدولة الفلسطينية» في الأردن أولاً، وبعد ذلك تنسج علاقات اتحاد كونفدرالي، ثم وحدة مع المناطق ذات الكثافة السكانية في الضفة الغربية، ما يزيل الضغط عن إسرائيل التي ستجد فسحة طويلة من الوقت تكون خلالها السلطة الجديدة مشغولة في إقرار نظام الحكم، وحل مشكلات اقتصادية ووطنية والحصول على اعتراف وشرعية من بلدان المنطقة والعالم.

السابق
سوريا لن تتزعزع
التالي
زهرا: حكومة تكنوقراط فرصة ميقاتي