قرار جريء وتاريخي لمحكمة التمييز

في أوّل قرار من نوعه في تاريخ القضاء اللبناني، وفي واحد من أجرأ القرارات الصادرة عن محاكم التمييز في موضوعات حسّاسة ودقيقة تتعلّق بمسار العمل القضائي وتحديداً بمنصب مدعي عام التمييز وردّه بالقانون، أصدرت الغرفة السادسة لمحكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي جوزيف سماحة وعضوية المستشارين وليد القاضي وصبوح الحاج سليمان، رؤيتها في الاستدعاء المقدّم من اللواء الركن جميل السيّد بواسطة وكيله القانوني المحامي أكرم عازوري، لردّ النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا بعدما فتح تحقيقاً في وقائع المؤتمر الصحافي العاصف للسيّد في 12 أيلول 2010، وهو ما اعتبر تستّراً على موضوع شهود الزور بدلاً من العمل على ملاحقتهم لتضليلهم التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وقد فاجأت محكمة التمييز كلّ المتابعين لحيثيات هذه القضيّة بتناولها إيّاها بطريقة شجاعة، خصوصاً أنّها المرّة الأولى منذ وجود القضاء في لبنان التي يتمّ فيها طلب ردّ النائب العام التمييزي، فلم تلتفت إلى خطورة هذا الطلب وصعوبة درسه ومقاربته، ولم تمش بين السطور، أو تستنكف عن ممارسة دورها كما فعل من سبقها في طريق التنحي عن النظر في هذه الدعوى، بل قدّمت قراءة قانونية متقدّمة تستدعي نقاشاً طويلاً بمنظار علمي، بعيداً عن المناكفات السياسية التي لا تجدي نفعاً.
لا بل يمكن القول إن ما فعلته الغرفة السادسة لمحكمة التمييز لن يمرّ مرور الكرام في ردهات العدلية ومكاتبها ومجالسها المغلقة، بل يعتبر خطوة أمامية على طريق استقلالية القضاء لا بدّ أن يؤسّس لمرحلة جديدة.
فالمحكمة وافقت على طلبي ردّ ميرزا ونقل الدعوى في الشكل، وأحالت طلب الردّ إلى الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي تضمّ كل رؤساء غرف محاكم التمييز مع الرئيس الأوّل التمييزي لإجراء المقتضى القانوني، وذلك خشية أن يصبح هنالك شغور في منصب مدعي عام التمييز، ممهّدة القول في بحثها القانوني إلى أنّه يمكن ردّ مدعي عام التمييز وكفّ يده وهو ما لم يحصل من قبل، وأزالت الاعتقاد السائد خطأ باستحالة ردّ مدعي عام التمييز لكونه يحتل منصباً رفيعاً في الهيكلية القضائية.
ورحّب عدد كبير من القضاة ورجال القانون بمضمون قرار محكمة التمييز المختصة بالنظر في طلبات نقل الدعاوى، لما تضمّنه من استفاضة غير مسبوقة في إبداء وجهة نظرها القانونية، وقدّم عدد منهم سلسلة من الملاحظات المتعلّقة بصورة أساسية في عدم إمكان التوفيق بين مقتضيات التوازن الطائفي والسلطة القضائية المستقلّة، وذلك على الشكل التالي:
أوّلاً، إنّ منصب مدعي عام التمييز هو منصب غير قضائي لأنّه منصب سياسي يتولى الربط بين السلطة التنفيذية، أيّ الحكومة، ممثّلة بوزير العدل وكلّ النيابات العامة الاستئنافية العاملة في لبنان بوصفه رئيسها التسلسلي ويوليه القانون الحقّ بإعطائها توجيهات إدارية ملزمة.
وعلى هذا الأساس لم يعط القانون إطلاقاً، لمدعي عام التمييز حقّ الادعاء شخصياً، إلاّ أنّ مقتضيات التوازن الطائفي جعلت منه نائباً لرئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو ما يؤدّي إلى نتيجة غير سليمة في حال شغر منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى، إذ يصبح النائب العام التمييزي رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، وبمعنى آخر، يصبح مدعي عام التمييز رئيساً لقضاة الحكم، فكيف يمكن لخصم في دعوى أن يكون رئيساً للقاضي الذي سيفصل فيها؟
وتنبّه المشترع الفرنسي لهذه الخصوصية، وأوجد تشكيلين لمجلس القضاء الأعلى، الأوّل يضمّ قضاة الحكم عندما يتعلّق الأمر بشؤون قضاة الحكم، والثاني يضمّ قضاة النيابة العامة عندما يرتبط الأمر بقضاة النيابة العامة.
ثانياً، لقد نجمت الإشكالية في دعوى اللواء السيّد على ميرزا عن الخصوصية التي تشكّلت عندما كان لمدعي عام التمييز حقّ الادعاء، وهي الحالة الوحيدة واليتيمة التي منح فيها المشترع مدعي عام التمييز حقّ الادعاء أمام المجلس العدلي فقط، فكان من الأفضل ألاّ يعطي مدعي عام التمييز حقّ الادعاء شخصياً أمام المجلس العدلي لئلا تخلق الإشكالية التي يواجهها القضاء في دعوى السيّد.
ثالثاً، مع قبول محكمة التمييز طلب ردّ النائب العام التمييزي ميرزا تنبّهت إلى أنّ ردّه يخلق فراغاً قضائياً على مستوى كلّ النيابات العامة، لأنّه رئيسها التسلسلي، وهذا ما يخلق خللاً في عمل المرفق العام القضائي الذي لا يستوي عمله من دون نيابة عامة، ولا يعقل أن يصبح اللواء الركن السيّد فوق الملاحقة القضائية نتيجة لحقّه في طلب ردّ النائب العام التمييزي بصرف النظر عن طلب الردّ.
وهذا ما حمل محكمة التمييز على أن تطلب إحالة القضية على الهيئة العامة لمحكمة التمييز نظراً لخصوصيتها ولموجب تقريرها مبدأ عاماً، إلاّ أنّ أحد المتمكّنين في أصول المحاكمات الجزائية، أشار إلى أنّه من الصعب إيجاد حلّ منطقي من دون اللجوء إلى تعديل في التشريع.
وأعطت محكمة التمييز الرأي التالي:
لجهة تذرّع طالب الردّ بوجود خصومة قضائية سابقة بينه وبين القاضي المطلوب الردّ ضدّه، وذلك استناداً إلى المادة 120/7 معطوفة على المادة 128 أصول مدنية، لكونه تقدّم بدعويين ضدّ المذكور أمام القضاءين اللبناني والسوري، وبمعزل عن مدى صحّة أو مدى قانونية، أو عن نتيجة هاتين الدعويين، فإنّ من الراهن أنّ هذه الواقعة قد تفضي إلى نشوء شعور بالعداوة بين الفريقين، ممثّل النيابة العامة وطالب الردّ، الأمر الذي قد يبرّر قبول هذا الطلب، بيد أنّه يبقى ثمّة شرط أساسي للقول بجواز ردّ القاضي، وهو أن تكون الدعوى موضوع البحث، سواء في مرحلة التحقيق او أمام قضاء الحكم، لا تزال قيد النظر أمام القاضي المطلوب رده، أما في الحالة المعاكسة، كأن تكون القضية المذكورة لم تعد قيد النظر لدى القاضي المنوه عنه، فإنّ طلب الردّ يضحي بدون موضوع وينتفي أيّ سبب جدّي لقبوله.
ويتبدى من جواب النائب العام التمييزي والمستندات المرفقة به، أنّه لم يعد واضعاً يده على التحقيق موضوع الاستدعاء، وبأنه قبل أن يتم إبلاغه أصولاً طلب الردّ في 11/10/2010، أقدم في 25/9/2010 على إحالة كامل الملفّ المتعلقّ بالمؤتمر الصحافي الذي عقده اللواء السيّد إلى النائب العام الاستئنافي في بيروت، لإجراء المقتضى القانوني.
وبما أنّ النائب العام التمييزي هو قانوناً صاحب سلطة تشمل كلّ النيابات العامة، وله أنْ يوجّه اليها تعليمات خطّية أو شفهية في تسيير دعوى الحق العام، ويحيل على كلّ منها، حسب الاختصاص، التقارير والمحاضر التي ترده بشأن جريمة ما ويطلب تحريك دعوى الحق العام بشأنها (المادة 13 اصول جزائية)، وهذه الصلاحية تندرج ضمن المهام التي يتولاّها النائب العام التمييزي كخصم دائم في الدعوى العامة الجزائية، علماً بأنّه ليس للمذكور صلاحية إصدار أيّ قرار في سياق التحقيق الابتدائي أمام قاضي التحقيق، إذ تقتصر صلاحياته على إبداء المطالب بواسطة النيابة العامة الاستئنافية المختصة، كما لن يكون للنائب العام التمييزي أيّ دور في الفصل في أساس النزاع أمام قضاء الحكم، حيث تقتصر صلاحياته على طلب الطعن في الحكم الذي سيصدر.
وبما أنّ المشترع اللبناني قد حصر كلّ السلطة في شخص النائب العام لدى محكمة التمييز، وهو يعيّن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، في حين أنّ المحامين العامين التمييزيين معاوني النائب العام التمييزي يمارسون عملهم بناء على تكليف يصدره هو، وبالتالي، فإنّ أيّ قرار بردّ النائب العام التمييزي سوف يُفضي إلى حالة فراغ قانوني في المركز الذي يتولاه، إذ لا يحقّ لأيّ محام عام تمييزي القيام بمهامه.
وفي ضوء ما تقدّم بيانه، فإنّ هذه القضيّة من شأنها أن تطرح بصورة جدّية مسألة إمكانية تطبيق أحكام المادة 120/7 اصول مدنية، حيث نصّ المشترع صراحة على أنّ العداوة (التي يدلي بها طالب النقل) يجب أن يكون من شأنها أن يرجّح معها عدم استطاعة القاضي المطلوب ردّه «الحكم بغير ميل…»، على النائب العام لدى محكمة التمييز.
وبما أنّ المادة 95 فقرتها الثانية أصول مدنية، قد أولت الهيئة العامة لمحكمة التمييز صلاحية النظر في كلّ قضيّة يثير حلّها تقرير مبدأ قانوني هام، وعلى أنّه في هذه الحالة تحال إليها القضية بقرار من الغرفة المعروضة عليها الدعوى.
وتأسيساً على ما تقدّم بيانه، فإنّ هذه المحكمة ترى عرض الأمر على الهيئة العامة لمحكمة التمييز للبتّ في إمكانية ردّ النائب العام التمييزي، في ضوء المعطيات والإشكالية المنوّه عنها أعلاه.

السابق
عن التغيير أو الإصلاح في سوريا
التالي
ميقاتي: لم أيأس.. ولن أعتذر عن تأليف الحكومة