عندما يصبح السلاح محكمة

عندما يصبح السلاح محكمة والمسلّح حاكما، نعرف لماذا تكون «لاهاي» مقاما بائدا ويكون قصر العدل كيانا خاويا.. وعندما يصبح السلاح دستورا والمسلّح مشرعا، نعرف لماذا لا يقوم «طائف» ولا يصمد «دوحة»، ونعرف لماذا يصير الانقلاب «صندوق اقتراع» وتصير القمصان السود ضوءا أخضر يحوّل الثكن قصورا والجبهات مجالس سمر وتنظير. وعندما يصبح السلاح لغة تختزل اللغات كلها والمسلح مواطناً يختصر المواطنين كلهم، وعندما يصبح التهويل من عدة الحوار والترهيب من جعبة الوفاق، نعرف لماذا لا نتفق على حرب ولا نركن الى سلام، ونعرف لماذا تصبح البنادق «ناطحات سحاب» والبيارق «قطعة من سماء»، ونعرف لماذا نصبح شركاء دخلاء ومواطنين دخلاء ونصبح «مقاومين» بالقوة وضحايا بالقوة. نقول هذا الكلام، وقد بتنا لا نعرف كيف يرضى الآخر وماذا يرضيه.. فإذا مدحناه تمادى في غروره، واذا انتقدناه تمادى في عقابه، وإذا تنازلنا له عن نصر لنا تاق الى نصر آخر، وإذا سألناه عن نصر له تمادى في المكابرة، واذا خفنا من سلاحه يطلب ان نخاف على سلاحه، واذا سعينا الى عدالة يحدد لنا المحكمة والقضاة والشهود والمتهم والأدلّة، وإذا حدثناه عن شهيد لنا قال لا يكون شهيدا من لم يسقط في «تموز». عندما يصبح السلاح محكمة والمسلح حاكما، يصبح مَن لم يسقط في «تموز» شهيد الصدفة، ويصبح مَن كاد يسقط شهيدا جريح الصدفة، فليس في كتابهم مكان لشهيد لم يصرعه أعداؤهم، وليس في قبورهم مكان لشهيد لم ينزف على الخط الأزرق، وليس في ذاكرتهم مكان لشهيد لم يسقط في برج أبي حيدر والشويفات وبيصور والقماطية، وليس في عدالتهم مكان لشهيد لم يسقط كما سقط شهداؤهم، ولا في كفاحهم مكان لأسير لم يذق ما ذاقه أسراهم. عندما يصبح السلاح محكمة والمسلح حاكما، عبثا نطرق أبوابا لا تكون فيها الأحكام إمّا معلّبة وإما ملتبسة، في وطن بتنا لا نعيش فيه إلا وفق ما يرسمون، ولا نموت فيه إلا وفق ما يختارون. عندما يصبح السلاح كل هذا، فما على الشهيد إلا أن يقبل السكّين التي ذبحته، وما على الجريح إلا ان يعذر النار التي حرقته أو قطعته أو شلّعته. نحن بتنا في وطن لا يجد الآخر ما يستحق الرد على آلاف الحناجر في ساحة الشهداء، لكنّه لا ينسى أن يلعن مَن قال ذات يوم إنّ آلافا أخرى «لم يُرفّوا له جفنا». نحن بتنا في وطن يُطلب منا أن نموت في صمت، وأن ننزف في صمت, فلا يثأر لنا أحد, ولا يواسينا أحد, تماما كما تموت العصافير, أو كما تختنق الأسماك, أو كما يرحل مَن لا يملك سلاحا أو عشيرة أو دولة أو… إلهاً.

السابق
..واللبناني يريد إسقاط النظام الطائفي
التالي
الأجندة الإقليمية لسوريا تخالف أجندة حلفائها اللبنانيين