اسمها علمنة..

 يصر العلمانيون على أن مفهوم العلمنة يقتصر على مبدأ فصل الدين عن الدولة واقامة مجتمع لا يتدخل الدين ورجال الدين في تفاصيله. ويذهب البعض بعيدا في الاجتهاد ليشير الى قول السيد المسيح: "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" مستشهدين بالايه المذكورة ليبرهنوا عدم تعارض الدين المسيحي مع العلمنة. ففي العام 2010 أنشأ البابا مجلساً خاصاً للحد من انتشار العلمنة بعدما بات معظم الاوروبيين في منأى عن الدين والإيمان، وقد ربط رؤساء الكنيسة ما يصيب الغرب من انحلال خلقي بابتعاد الشعوب عن جوهر الايمان وانشغالهم بالأمور الزمنية. أما في العالم العربي، فيبدو الأمر مختلفاً تماماً، العصبية الدينية تزداد وتتنامى بسرعة، والحركات الاصولية باتت تضمّ في صفوفها عدداً أكبر من الشباب الملتزمين ويتحدث البعض بنبرة جهادية كأن حروب فتوحات جديدة ستنشب بين لحظة وأخرى.

يستولي زعماء الميليشيات والمال في لبنان على السلطة بعد حرب اهلية استمرت خمسة عشر عاماً متحوّلين الى زعماء طوائف. واصبح المس بزعيم الطائفة كنقد الذات الالهية، فمن انتقد السيد حسن نصرالله أو الرئيس نبيه بري أهان الطائفة الشيعية، واي استهداف للرئيس سعد الحريري هو استهداف للسنة في لبنان والعالم العربي، وبات وليد جنبلاط ضمير الدروز يأخذ طائفته يميناً ويساراً كيفما هبت رياح التغيير الاقليمية، وبات يدير الدفة من جبل لبنان الى حاصبيا وراشيا وشملت زعامته الطائفية دروز حوران وفلسطين المحتلة. أما في الشارع المسيحي، فلا تزال الانقسامات تعصف بالتيارات والاحزاب المختلفة. ورغم اعتماد القضاء دائرة انتخابية أخيراً، فان عدداً لا يستهان به من ممثلي المسيحيين يأتون باصوات غيرهم من الطوائف. ففي جبيل، جزين، الزهراني وبعبدا كان الصوت الشيعي هو بيضة القبان، اما في الكورة وزحلة فكان الصوت السني هو المرجح في دوائر كانت تاريخياً محسوبة على المسيحيين. وبعد العراق ومصر يتخوف المسيحيون من أن يكونوا هم الهدف الثالث لنار الطائفية المنتشرة بسرعة في هشيم الشرق الأوسط.
ومن دون سابق انذار انتشرت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك وتويتر) دعوات الى التظاهر بعنوان، الشعب يريد اسقاط النظام الطائفي في لبنان، وكان عدد الزوار يزداد يوماً بعد يوم، فرياح التغيير الآتية من شمال افريقيا ارادها البعض ان تهب في لبنان الذي لم يكن بعيدا يوماً من نار التجاذبات الاقليمية. وبالاتصال مع الزميلة ريمي معلوف (الاعلامية في تلفزيون الجديد) المنسقة في تنظيم التظاهرات للاستفسار عما يجري أفادتنا ريمي بالآتي:
في البداية نشأت فكرة التظاهر للدعوة الى العلمنة على "فايسبوك" في ظل تأثير تحرك الشباب الثائر في مصر وتونس وليبيا وغيرها من دول القمع، وقد تشكلت على صفحات موقع التواصل الاجتماعي مجموعات عدة تدعو لإسقاط النظام الطائفي ورموزه. وعقد اجتماع تنسيقي بين كل المجموعات واضعين هدفاً واحداً نصب اعيننا وهو إسقاط النظام الطائفي إلى جانب مطالب معيشية وحياتية عدة أساسية غيبتها الطائفية. تقول انها لا تخاف من ان تتحكم طائفة باخرى في ظل النظام العلماني المنشود، لأنه وبمجرد تطبيق نظام علماني يختفي مفهوم الطوائف امام مفهوم المساواة في المواطنة. وشدّدت على أنه لا يجوز الخلط ما بين الإلحاد والعلمنة، فالإلحاد يعني عدم الإعتراف بالله أو الإيمان به، أما العلمنة فهي فصل الدين عن الدولة، وبالتالي عزل تأثير رجال الدين عن عمل المؤسسات العامة، مما يساهم في نشر العدالة الإجتماعية بعيداً من قضية الإيمان التي تبقى مصانة في الممارسات الفردية. فالله لم يدع يوما إلى التعصب وعدم الإعتراف بالآخر، وعليه فإن العيش المشترك هو اساس ما يطمح اليه المتظاهرون. وأخيراً، تقول معلوف أن لا علاقة لتطبيق النظام العلماني بالغاء الإحتفالات بالمناسبات الدينية، فالنظام العلماني يحفظ الحريات بما فيها الاحتفال بالمناسبات الدينية واختتمت متمنية "الا تتكرر ظروف الحرب الاهلية التي ادت الى فقدان الكثير من الامهات لابنائهن وتشريد العائلات والتهجير ما بين المناطق".

يحاول البعض ان يروج لموضوع العلمنة بأنه مبني على آلية يسيرة، وكأن انتقال بلد من نظام وجو طائفي عائد الى ما قبل عهد المتصرفية الى نظام علماني يحدث بشخطة قلم. ويظهر جلياً السوء في تقدير الموقف عندما يقدم المروجون للعلمنة تركيا واوروبا مثالاً ناجحاً لتجربة فصل الدين عن الدولة، لأنه ربما نسوا أو تناسوا أن السواد الأعظم من سكان تركيا العلمانية هم من المسلمين، وبالتالي فإن وصول اي حزب اسلامي الى السلطة كحزب العدالة والتنمية لن يولد لدى أي فئة من الشعب التركي الشعور بخطر الإلغاء المذهبي. وفي المقابل، فإن اوروبا العلمانية قد بدأت تشكو من تغيير في الديموغرافيا نتيجة وصول عدد كبير من المهاجرين الى أراضيها، فبتنا نسمع عن تعاظم سطوة أحزاب اليمين المتطرف لدى الشباب الاوروبي، ولعل تجربة وصول المرشح جان ماري لوبان عام 2002 الى المرحلة الثانية من الانتخابات الفرنسية خير دليل على ذلك.

في لبنان، ارتفعت في الامس القريب أصوات منها لرئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس كتلة النضال الوطني النائب وليد جنبلاط داعية الى العلمنة، واللافت أن بري كان حتى الأمس القريب ينظـّـر في موضوع حقوق الطائفة الشيعية، حيث رفض الاعتراف بميثاقية حكومة الرئيس السنيورة الأولى بعد تقديم الوزراء الشيعة استقالاتهم احتجاجا على المحكمة الدولية. من هنا، نشأ خوف لدى قسم من اللبنانيين من أن يتحول مشروع العلمنة حصان طروادة يمنح بعض زعماء الطوائف الحاليين فرصة الوصول الى مناصب سياسية كانت حتى الأمس القريب حلما محرما عليهم، فننتقل حينها، وفي ظل عدم ازالة التفرقة الطائفية والمذهبية من النفوس قبل النصوص، من حكم الطوائف الى استبداد طائفة بأخرى.
في الختام، لا يختلف اثنان على أن اقامة نظام يساوي بين اللبنانيين جميعاً هو حلم العقلاء، أما في ما يتعلق بالصيغة المطروحة حالياً غير القائمة على خطة ممنهجة، فإنها تجعل من العلمنة وسيلة للطوائف كي تصبح كالاسماك يأكل كبيرها صغيرها، وطريقة مبطنة تسمح لبعض الاحزاب الدينية بأن تضع يدها على البلاد تحت ستارة العلمنة، لذلك لا نستغرب أن تدعو أحزاب اللون الواحد كحزب الطاشناق و"حزب الله" و"حزب التحرير" وسواها الى اقامة النظام العلماني، طالما أن العلمنة كما هي مطروحة ستسمح للقوي أن يمسك وبخطوة واحدة بكل مفاصل الوطن.

السابق
الأمين: الطائف مشروع وطني أنصف الشيعة
التالي
الأكثرية بدأت تستشعر خطورة الإستنزاف السياسي