ما لن يُكتب للبطريرك الراعي

رحم الله الكبير الكبير، ميشال حايك. كم يفتقده البطريرك الجديد، السابع والسبعون.
فمن غيره، بهيبته والوقار وثقل اللاهوت وعظمة الكاهن ومرجعية الإنسان ــ المحبة، يجرؤ على أن يقول لصاحب الغبطة ما يجب أن يقال؟
تماماً، كما كتب بعد غياب البطريرك المعوشي، في 20 كانون الثاني 1975، «إن أي بطريرك ماروني جديد سيجيء ليرأس، إما مأتم المارونية، وإما ميلادها في العصر… منه سيكون البدء الماروني، أو على يده النهاية… المهم اليوم هو الاقتراع، وغداً الاختراع… وإلا فقد انتهت جنازة، لتبدأ أخرى».
وبعد أحد عشر عاماً، عاد أبونا ميشال ليكتب مرة جديدة، للمناسبة نفسها، أي انتخاب الخلف لخلف المعوشي، في 17 نيسان 1986، و19 منه. فأقرّ بدايةً بأن ما توقعه سنة 1975، صحّ تماماً: «فما انتهت جنازة المعوشي، حتى بدأت جنازة لبنان. كانت نهاية لبطريرك. ولم يكن للمارونية بداية. كان لها مأتم في كل منطقة وقرية وبيت، ولم يكن لها ميلاد».
لا شك في أن صاحب الغبطة يتذكر تماماً ذلك الكلام.
ولا شك في أن سيدنا الراعي يدرك أيّ إيمان عميق، وأيّ ورع وتقوى ويقين… جعلت أبونا ميشال يكتب لسلفه: «إذ يُخشى عليّ حين ينصبونك علينا، فتتوشح الأرجوان، ويتألق على صدرك صليب الذهب، ويرهج الخاتم الدري في بنصرك، وتنعقد لك العصا كالراية فوق الرؤوس، ويزدحم الضيوف على الظروف، يُخشى عليّ أن يلتصق لساني بحنكي، وأن أغصّ من الأسى».
لكن أبونا ميشال لم يغص. حتى حين ثقلت الأيام على أهله في الإيمان والوطن، رسم تلك الصورة الأشد تعبيراً. قال عن أزمة الموارنة إنها «قضية كبيرة، حملها رجال صغار… فأسقطوها وأسقطتهم». وبعدها، صار للبنان سينودس خاص من قبل الكنيسة الجامعة. وصار له إرشاد «رجاء جديد». هو السينودس نفسه الذي نسّق كل أنشطته غبطة سيدنا الراعي. وقيل إنه أحرق الكثير من وقته لإنجاحه، وأحرق الكثير من «أوراق» حظوظه بسببه، قبل أن ينتصف آذار، فيثبت العكس.
بعد السينودس والإرشاد، لم يسكت أبونا ميشال أيضاً. كانت الكنيسة كلها آنذاك في ما يشبه استراتيجية الانتظار، وبعضهم قال العجز أو الاستقالة. حتى إن مرجعاً كبيراً فيها صرّح للإعلام ذات يوم، حيال استعصاء الأزمات: «ماذا يمكنني أن أفعل؟». فانتفض أبونا ميشال، سائلاً بصيغة تتخطّى السؤال: «كيف لكاهن أن يسأل نفسه ماذا أقدر؟ هذا الذي يحوّل كل صباح الخبز جسداً حياً، والخمر دماً نابضاً. كيف له أن يرى في المستحيل مستحيلاً بعد؟ إن سلوكاً كهذا يعني أمراً من اثنين: إما أن يكون في تساؤله هذا مجانباً للحقيقة أمامنا. وإما أن يكون في أفخارستيا الصباح، مجانباً للحقيقة أمام يسوع الرب الإنسان».
كم يحتاج غبطته إلى هذا الكلام، وكم يعرفه ويدركه. كثيرون سيكتبون له عن ضرورة أن يمتلك تصوراً استراتيجياً للموارنة والمسيحيين ولبنان، في سياق تطورات المحيط والمنطقة والعالم. كيف نتحرك حيال سوريا الدولة والنظام؟ كيف نرتقب ونراقب ما يحصل في المنطقة العربية والمشرقية؟ وكيف نقرأ المشهد الدولي المقبل بعد تفسّخ أحادية واشنطن سياسياً، أو تسونامي اليابان اقتصادياً؟
وسيأتي من يقول له إن الأولوية لمأسسة الكنيسة، أو إشباعها بالفكر «المانجماناتي»، كما ساد التعبير فيها. كيف تجعل بكركي نموذجاً دولتياً على غرار الفاتيكان، بحيث لا تظل أمبراطورية ـــــ هي الأضخم في لبنان ـــــ قائمة على هيكلية إدارية من كاهنين: 14 أسقفية في لبنان والعالم، 721 مركزاً دينياً على أرض الوطن، و 175 مركزاً آخر في الانتشار، تمثّل ما مجموعه أكثر من ألف مؤسسة، بين تربوي وصحي واستشفائي واجتماعي وغيره.
وطبعاً سيكون حاضراً بقوة النصح بأن أولوية بكركي اليوم يجب أن تكون في لمِّ الموارنة على جوامع الوطن والكيان والميثاق، بما يؤهلهم للشراكة مع باقي المسيحيين واللبنانيين. وأن هذا الجمع، يقتضي الانسحاب بعض الشيء من التفاصيل، والتركيز أكثر على الثوابت والمبادئ.
كل هذا سيقال لصاحب الغبطة، ويزاد. وستكتب له فيه مطوّلات. غير أن الأهم يظل ما قاله أبونا ميشال لسلفه. حين نظر بعين الروح إلى «وجوه الحاضرين في الصرح». فلم يشأ أن يرى بين كل الألقاب والحماة والمحميين، إلا «أولئك الحفاة العراة الآتين من بعيد»، «يشبهون الذين دعاهم الابن إلى العشاء في ملكوت الآب»… أيام التهاني الرسمية، لن يجد أبونا ميشال في صرحه واحداً من هؤلاء. لكن بعد الاحتفالات، يجب ألا تكون كنيسة الراعي إلا لهم. ألا تكون إلا كنيسة الفقراء. بهم تصحّ الاستراتيجيات والتوازنات والوحدة… بهم وحدهم يصير الصليب علامة نصر وحياة.

السابق
لا لأميركا
التالي
الجراح: السعودية دوماً إلى جانب لبنان..وايران ترسل السلاح لتخريب البلد